تأملات
تأملات: في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع
ژانرها
أما الآن والحال كذلك فقد أصبحت هذه القاعدة لا حق لها من البقاء؛ لأنها لا تتمشى مع الحال الراهنة للأمم الإسلامية وأطماعها، فلم يبق إلا أن يحل محل هذه القاعدة المذهب الوحيد المتفق مع أطماع كل أمة شرقية لها وطن محدود، وذلك المذهب هو مذهب الوطنية.
على هذا النظر، يجب أن نقرر أن المصريين هم أهل هذا القطر المصري الأصليون وكل عثماني أقام فيه على سبيل القرار واتخذه وطنا له دون غيره من الأوطان العثمانية الأخرى، وليس هذا المذهب جديدا، بل هو مذهب القانون المصري من زمن طويل.
هؤلاء المصريون من حقهم أن يكون لهم الانتفاع بمصر أولا وبالذات، وعليهم الواجبات القومية المكتوب منها في القوانين والمفروض بالعرف، عليهم أن تكون محبتهم لها خالصة من كل إشراك، وتفانيهم في خدمتها بعيدا عن أي اعتبار آخر، عليهم أن تدل أقوالهم وأعمالهم على أنهم لا دار لهم إلا مصر ولا عشيرة لهم إلا المصريون، أولئك هم المصريون، إلا الذين يظنون أن مصر مستغل وقتي يستغلونه، لهم غنمه وليس عليهم غرمه، أو الذين يتمثل الوطن في عقولهم بصورة تجارية لا يخالطها أثر من آثار العواطف القومية، أولئك يصعب على مصر أن تتخذهم أبناءها وتلقي على كواهلهم همها في الحاضر وأطماعها في الاستقبال.
لا يفهم مما أقول أننا ندعو إلى التفريق بين العناصر المؤلفة لكتلة السكان المصريين ، بل على ضد ذلك ندعو للجامعة المصرية كما دعونا لها من قبل، ندعو الذين يتبرمون بالجنسية المصرية التي كسبوها بالإقامة في مصر، أن لا يفروا بأحاديثهم وبأعمالهم من الانتساب إلى هذه الجنسية الشريفة، يقيمون بأجسامهم في مصر وعقولهم وقلوبهم تتجه غالبا خارج حدودها إلى الأوطان التي ضنت عليهم بخيرها ولفظتهم من أرضها، ندعوهم أنهم ما داموا مصريين أن يقطعوا ميولهم عما عدا مصر؛ لأن الوطنية - وهي حب الوطن - لا تقبل الشرك ولأن الرقي المصري محتاج لعقولهم الراجحة وسواعدهم القوية.
سيقولون: إننا بما نقرر لا نأتي بشيء جديد، ولكننا نذكر الأوليات الوطنية التي يجب أن نكون قد فرغنا من أمرها من زمان طويل، ونعم ونحن نقول ذلك مع القائلين، ولكن هذه الأوليات الوطنية لا تزال مع الأسف غير معمول بها، لدينا منها مثالا شائعا جدا يدل في عمومه على نقص إدراك الوطنية المصرية وانحطاط في المطامع المصرية، فلو رجع كثير منا إلى أنفسهم ونظروا في أعماق ضمائرهم وراجعوا ما يقولون في مجالسهم وتدبروا أعمالهم، لرأوا أن بعضنا لا يزال يحب الانتساب إلى بلاد العرب أو إلى سوريا أو إلى تركيا دون مصر، وهذا الميل يبين في القول ويتجسم في العمل، فمن ذا الذي يستطيع أن يسمي هذا الميل ونتائجه وفاء لمصر؟ ومن ذا الذي يستطيع من غير تسامح أن يسمي من يحبون غير مصر مصريين؟
مصريتنا تقضي علينا أن يكون وطننا هو قبلتنا لا نوجه وجهنا شطر غيره، ويسرنا أن هذه الحقيقة شائعة في الأكثرية المصرية؛ لأن هذا الشيوع سيوشك أن يعم جميع المصريين من غير استثناء.
آمالنا1
أملنا في المستقبل هو الخير، ويطمعنا في ذلك أن مصر هي أول ما سقط من دول الشرق وهي كذلك أول ما نهض إلى الأخذ بالتربية والتعاليم الحديثة، وتنفيذ النظامات البيروقراطية على طريقة أقرب إلى العدل والرفق، فأصبحت بذلك أغنى الأمم الشرقية ثروة وعلما وأشدها رابطة جنسية، وقد كانت ولا تزال أوغلها رسوخا في الصفات المدنية، كل ذلك يشجعنا على الاعتقاد بأننا سائرون إلى الأمام وأننا لا ينقصنا لحل مسألتنا المصرية حلا يتفق مع مصلحتنا من جميع الوجوه إلا العمل الجد والوقت الكافي.
لدينا كل وسائل العمل لمصلحتنا، فلا يعوزنا الذكاء ولا الوطنية ولا الاستعداد ولكن يعوزنا شيوع الاعتقاد بأن مصر لا يمكنها أن تتقدم إذا كانت تجبن عن الأخذ بمنفعتها وتتواكل في ذلك على أوهام وخيالات يسميها بعضهم الاتحاد العربي ويسميها آخرون الجامعة الإسلامية، فقد أعذرنا العقل وأبان لنا أن مصر لا تنجو من خطر التأخر والفوضى إلا بقواها الذاتية، وأعذرتنا الحوادث إذ أنذرتنا بأن الاتكال على غير المصريين في تحقيق آمال المصريين ضرب من اللعب بالمصالح، وحال من أحوال العجز والقنوط.
لم يأت لنا الماضي بمثل واحد يدلنا على أن أمة من أمم العالم ساعدت مصر وحمتها من المصائب التي كان يجرها عليها طمع الأقوياء في ثروتها وفي مركزها الجغرافي النادر المثال، كذلك لم يأت لنا الماضي - في غير مقتضيات الموازنة الأوربية - أن أمة تنظر من سماء قوتها إلى أمة ضعيفة تأخذها بها الرحمة فتطعمها وتسقيها وتدفع عنها مغارمها لوجه الله تعالى.
صفحه نامشخص