ص _174 بيعة العقبة الكبرى * مؤامرة: كثيرا ما تمر بجماهير الناس أزمنة محرجة يقعون فيها تحت ضغط طوائف من الطغاة المستبدين، ممن يملأون الأرض علوا وفسادا، ويحاولون أن يفرضوا سلطتهم على الشعوب قسرا. وأحرار الفكر والعقيدة فى أمثال هذه الأزمات العصيبة لا يخضعون لها مهما سيموا الخسف، ومهما صودروا فى آرائهم وأشخاصهم! ولئن كممت أفواههم عن النطق العالى هيهات أن تكمم ضمائرهم عن الغليان المكتوم، يتربصون به الفرص، ويدبرون له المؤامرات، ويبيتون فى ظلام الليل ما أعياهم التصريح به فى وضح النهار، ثم ينقضون على أعدائهم الغافلين انقضاض الثائر الذى أخذ أهبته لكل شىء فلن يترك لخصمه منفذا! وقد كانت دخيلة المسلمين من أبناء يثرب تنطوى على أشياء كثيرة، وهم يخرجون من مدينتهم صوب مكة فى موسم الحج الذى يضم الآلاف من المشركين ولا يضم إلا القلائل من الموحدين. أولئك الذين آمنوا على وجل ولم ينج أكثرهم من أسواط الفتنة التى تلهب الظهور! نعم خرج أبناء يثرب فى هذا العام، وفى أفئدتهم عزم جديد على مغامرة كبرى يقومون بها فى سبيل الدين الذى اعتنقوه. إن أصداء البيعة الأولى لا تزال ترن فى آذانهم، وحال صاحب الدعوة ومن معه فى مكة لا ينفك يخامر مشاعرهم، والمستقبل المبهم لهذا الصراع العنيد بين الدين المدبر والدين المقبل يشغل المؤمنين والكافرين جميعا! وإذا كانت سطوة المتكبرين فى مكة قد آذت الكثير، فإن جرأة القادمين عليهم من الخزرج يجب أن تفعل الكثير كذلك، وإذن فليفكر الأنصار فى استنقاذ الدعوة وصاحبها من هذا البلد الظالم أهله إلى بلد آخر وإلى عهد آخر. * * * * الاجتماع : غصت مكة بالحجيج على العهد بها فى كل عام. وتوقع العباس بن عبد المطلب أن تأتيه أنباء ابن أخيه وهو يعرض نفسه على الوفود القادمة، فلا يلقى منها إلا الردود ص _175 السليطة، ولكن العباس أحس بأن الحال هذه المرة تستدعى التفاته وتيقظه، فقد لمح من بعيد حركة خفية تدور فى صفوف المسلمين. وتأخذ قدرا من انتباه الرسول عليه الصلاة والسلام. ومع أنه لم يكن مؤمنا بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام ، فإنه كان مؤمنا بخلقه، وعارفا بأن ابن أخيه لن يتوانى فى عمل كل شىء يعود على دعوته بالخير والنجاح، ولو غادر مكة وانضم إلى أى قبيل من العرب يعينه على إدراك غايته، وها هو ذا يلمح بوادر ما يخشى! أن ابن أخيه سيجنح إلى خطة جديدة تجعله هدفا لقريش ومن ورائها سائر العرب. ودفعته خشيته وشفقته إلى أن يتعرف الأمر ويتتبع سيره!
وحان موعد اللقاء المضروب، فخرج العباس فى جنح الليل يمشى الهوينى نحو العقبة.
كانت ليلة قمراء يوشك القمر أن يكون بدرا، وقد خيم على المكان صمت الترقب والتحفز، وبين الحين والحين يسمع همس خافت، واقتراب أشخاص جدد إلى مكان الاجتماع، وما أن يتم التعارف القصير حتى يأخذ كل موضعه فى هدوء.
فلما انقضى الهزيع الأول من الليل كان هناك نحو سبعين شخصا يلتفون حول صاحب الرسالة العظمى الذى تسلل إليهم خفية كذلك، وتهيأ للاستماع إلى أخطر قرار فى تاريخ الدعوة الإسلامية. وبعيدا عن مكة السامرة حول أوثانها، الغارقة فى ضلالها وغلوائها، اجتمع أولئك النفر الكريم من مسلمى يثرب، يتألق فى عيونهم بريق الحماسة الملتهبة، وتتأجج فى صدورهم عواطف التضحية والمقاومة، ثم قطع حبل الصمت صوت العباس الجهورى يقول: "يا معشر الخزرج إن محمدا منا حيث قد علمتم فى عز ومنعة، وقد أبى إلا الانقطاع إليكم، فإن كنتم ترون أنكم تفون له بما دعوتموه إليه ومانعوه فأنتم وذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه فمن الآن فدعوه ".
* * *
* مناقشات:
صفحه ۱۷۶