ص _167 أحب شىء إلى الإنسان ما منع- ولكن الرجل كبت رغبته ومنى نفسه بنعيم مقيم، ألم يكن هذا هو النوع الثانى من الزهد الذى تقول فضيلتك فيه: هو قتل للرغبة وكبح لجماحها، ومنه الكبت المؤقت الذى يلجأ إليه الرجل حتما فى أحوال كثيرة، يلجأ إليه المؤمن حين يعصم نفسه من الحرام إذا نزعت إليه، وكذلك يلجأ إليه المحتاج حين تتطلع النفس إلى الشىء فيردها إلى العجز والحرمان ". * * * * كلمة أخيرة: أقول: يروى أن الحسن البصرى أهديت إليه حلوى فاخرة، فقسمها على أهل مجلسه، وأخذ كل جليس نصيبه إلا أحد المتصوفين الحاضرين فقد رفض الحلوى قائلا: هذه نعمة جزيلة لا أستطيع القيام بشكرها. فقال له الحسن: كل يا أحمق ففى الماء البارد نعمة لا تستطيع القيام بشكرها!!. وصاحب التفاحة الذى ذكرنا خبره فى الخواطر السابقة هو زميل صاحب الحلوى فى مجلس الحسن، وكلاهما مسلم يقبل منه الخير ويرد عليه الخطأ، ولا يحتج له بأنه من السلف الصالحين. والإسلام قد حرم الخبائث وأحل الطيبات، وليس من الرأى أن نضيق ما وسع الله على عباده، ولكن سداد الرأى أن يمكن الناس من أنعم الله، وأن يرشدوا فحسب إلى أداء شكرها، والقيام بحقها. وعندما يرسخ اليقين فى الأفئدة، وتهتز القلوب بعواطف الشكر للخالق الرازق، فلن تشكو المساجد من قلة العباد، ولا الميادين من قلة المجاهدين. (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين). هذا، ولنضع نصب أعيننا الحكمة البالغة: "الاقتصاد فى السنة خير من الاجتهاد فى البدعة" فلنلزم حدود ديننا فيما أحل وفيما حرم، وذاك أجدى علينا من فنون التصوف، وضروب الحرمان، وصور العبادات المكذوبة. وما اختلق الناس شكلا جديدا للتدين إلا هجروا أضعافه من حقائق الدين الصحيح. ومن ثم حاربت الدعوة ص _168 إلى الحرمان والتقشف والزهد الباطل، ليرجع للحق بهاؤه وصدقه، على أن الأمر فى هذه الأيام هين. فالمتصوفون الرسميون ومن معهم متخمون، وممثلو الدين الرسميون والشعبيون ليسوا بحاجة إلى من يهون لهم قيمة الزهد المادى! فقد هونوه من زمن بعيد وهونوا معه الزهد الأدبى كذلك، وأكثرهم مترف لا يصرع شهوة حسية ولا نفسية، وغير المترفين هم طوائف المحرومين الذين يمثلون كثرة الشعب والذين يعيشون زاهدين برغم أنوفهم. وما دفعنى إلى كتابة: "زهد. وزهد" إلا بيان الحقيقة أولا، وتمهيد الطريق أمام جمهرة الشباب الذى استهوتهم شتى المبادئ، فحسبوا الدين أعمالا أخروية ميتة، تفرض على الناس أن يعيشوا متزمتين هامدين لا تزدان حياتهم بأسباب الجمال والطموح والمتاع، وذلك خطأ بعيد. إن الناس يظنون الذكاء ابن عم الإلحاد، والغنى ابن عم الدنيا! والتجمل ابن عم التحلل! فما يكون الدين بعدئذ إلا مرادفا للبلى والتعفن والغباء! وذاك ما أريد محوه من الأذهان. وفى الختام أرانى عاجزا عن شكر الزملاء الكرام على جميل أدبهم، وشدة غيرتهم على شعائر الدين ومعالمه. ص _169 صور من الماضي * النعمان بن مقرن: كانت أنباء المعارك الدائرة فى الميدان الشرقى "ميدان فارس" تثير قدرا كبيرا من الاهتمام والتحفز، ولم تكن "المدينة" عاصمة الإسلام الناهض تجهل النتائج الخطيرة التى تتمخض عنها هذه الملاحم الطاحنة، فقد صمم أمير المؤمنين على وضع حد حاسم لطغيان الأكاسرة فى أرجاء ملكهم الرحيب، وساق فرقا إسلامية عديدة لتحقيق هذه الغاية الكريمة. وكم شهدت رمال الجزيرة مئات الألوية وهى تخفق فوق الرجال الذين نيطت بأعناقه!م هذه الرسالة، وكم صمتت وهادها ونجادها، ولفها السكون الرهيب فى انتظار أنباء المجاهدين ساعة بعد ساعة. لقد أقدم العرب على عمل هائل، وأعلنوا قوى الضلال كلها بالعداوة السافرة، فلم تمض أعوام قلائل على وفاة نبى الإسلام حتى فتحت أمته جبهة للقتال، ثم جبهة أخرى، ثم تشعبت الميادين واتسعت أمامها، لأن الباطل فى هذه الدنيا لا يستسلم أبدا حتى تتناوله اللطمات القاسية الموجعة. وكذلك كان حال كسرى ومن معه... فإن آخر ما وصل إلى عمر من أنباء يشير إلى أن انتصارات المسلمين الكثيرة لم تسحق رأس الكفر بعد، ورغم الجهد العصيب الذى بذله المسلمون فى الاندفاع إلى الأمام فإن خطتهم لم تنفذ بأكملها كما ينبغى. ودخل عمر المسجد، وأرسل بصره القوى فى جنباته فلمح "النعمان" يصلى، وكانت رؤية النعمان كفيلة بأن يستقر رأى أمير المؤمنين على القائد الذى سيكتب الفصل الحاسم لملك الأكاسرة، فما لبث أن سار حتى جلس بجوار المصلى العظيم . وما إن فرغ النعمان من صلاته حتى بادره قائلا: لقد انتدبتك لعمل!. واستمع النعمان لمشيئة أمير المؤمنين، ثم أجاب: إن يكن جباية للضرائب فلا، وإن يكن جهادا فى سبيل الله فنعم.. فأظهر عمر قراره.. إنه جهاد وأى جهاد، وما أصدق بصيرة الخليفة التى دلته على مثل هذا الرجل، رجل ليست له نفسية كبار الموظفين فى هذه العصور من كل مترف يدمى بنانه إمساك القلم ولا يحسن إلا التبطل ص _170 أو معالجة أتفه الأمور.. كلا! ليس ابن مقرن ممن يسارعون إلى مثل هذه الأعمال، لأنه رجل مسلم، والرجال المسلمون يخفون بفطرة إيمانهم إلى العمل والجلاد والاشتراك فى الحياة وتكاليفها.
* * *
وفى الساحة التى ارتوى ثراها بالدماء الغزيرة تولى النعمان إدارة المعركة، وكان جيش العدو كثيف العدد، بادى اليقظة، عسير المنال. وحاول أركان حرب النعمان يوما أن يحملوه على الإسراع فى منازلة العدو، ولكنه خاطبهم: تريثوا حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر.. ذلك أن وهج الظهيرة كان شديد اللفح، فما أن هبت طلائع الأصيل حتى صاح القائد المؤمن: أيها الناس! إنى هاز لوائى ثلاثا، فأما أول هذه فليتوضأ كل جندى. وأما الثانية فليعد سلاحه. وأما الثالثة فاحملوا ولا يلوين أحد على أحد، وإن قتل النعمان، وإنى راغب إلى الله بدعوة، وأقسم على كل امرئ منكم- أن يؤمن عليها- اللهم ارزق النعمان شهادة فى نصر عظيم وفتح على المسلمين. فأمن القوم، ثم هز لواءه ثلاثا، وتقدم الرجل صفوف الغزاة فى زحف متتابع الحملات، جياش بالإيمان والتضحية، قد رص القرآن بنيان أصحابه، فلم يقو على رد عزائمهم كل ما حشد الأكاسرة من قوى مختلطة، واطرد اندفاع المسلمين فى نواحى الميدان كلها، ثم أطبقت أجنحتهم على أعدائهم إطباقة عارمة كان معها النصر الغالى، والفتح الكريم.
ولكن أين النعمان صاحب هذه الروح؟. لقد كان أول صريع!. وصادفه أحد جنوده الأبطال وما زال به رمق، فاستحضر بسرعة أداوة ليغسل منها وجه الجريح النبيل.. وإذ يعاود النعمان شعوره العازب من هول ما أصابه يسائل مسعفه: من أنت؟
- معقل بن يسار.
ما فعل الله بالناس؟
- فتح الله للمسلمين.
قال: الحمد لله كثيرا، اكتبوا بذلك إلى عمر، وفاضت نفسه.
كذلك كان مصرع واحد من صحابة محمد عليه الصلاة والسلام ، وممن تربوا فى مدرسته القرآنية وصدقت فراسة عمر، ففى موقعة "نهاوند" كتب الفصل الختامى لدولة الأكاسرة..
صفحه ۱۷۱