ص _161 الفخمة، والذين يجرون أقدامهم جرآ فى سبيل لقمة العيش القفار، والذين يقضون لياليهم الحمر على الكاس والطاس، وبين الأذرع البضة والصدور الناعمة، والذين يقضون لياليهم على التأوهات والتوجعات والشكايات، بعد نهار طال انحناؤهم فيه على الفؤوس واستنزفوا فيه دماءهم وعافيتهم عرقآ شربته الأرض فأخرجته ذهبا نضارا يملأ جيوب المترفين الناعمين. فى هذا البلد المنكوب يا سيدى لابد لنا من الصراخ، الصراخ القوى الذى يخرق الآذان والقلوب بضرورة الزهد المادى، فنحن أحوج إليه من كل شىء آخر، واسمح لى أن أسألك يا سيدى: هل صحيح أن هذه البارات والكباريهات، والسينمات، والسيارات، والطيارات والسباحات، والبلاجات ومكيفات الهواء، وما ينحر كل يوم فى بيوت السادة الأغنياء، وغير هذا من كل متع الجسم والعاطفة.. هل كل هذا لا يكلف سوى بضعة مليمات أو قروش؟! وهل صحيح أن المجتمع لا يتكلف لإطفاء الشهوة العاتية سوى تقديم امرأة أو أكثر؟! أو أن ذلك يكلف المجتمع الزوال والهدم والضياع، إذا لم يتحصن البشر بالزهد والقناعة، وتعاليم الله وهدى رسوله الكريم. وهل غاب عنا المجتمع الفرنسى الذى هدمته الإباحية وإشباع النفس والبطن والعاطفة والشهوة؟ ثم ألا ترى يا سيدى أنك لا تستطيع أن تزهد الناس فى "شهوات الظلم والكبرياء المستبدة والأثرة المفرطة والاستعلاء والرياء والقسوة" إلا إذا ناديت باستئصال الداء من الجذور، فعلمت الناس، ودعوتهم إلى الزهد فى إشباع النفس والبطن، وما يجره هذان من موبقات، فإذا استطاع الزهد النفسى والجسمى أن يتغلغل فى الصدور والأجسام، هون علينا ذلك مئونة ما فوقهما من آثام وشرور. ألا ترى معى يا سيدى أنه حرام أن يتمتع بزينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق فريق، وفريق يأكل الثرى من الظمأ والجوع والحرمان. وإنه لخير لنا أن نجتذب الشباب بذلك النور الذي يشع فى صدور المؤمنين، وبتلك الراحة والسكينة التى تفيض قلوب عباد الله الخالصين، وبالمتعة الخالصة واللذة العميقة السامية التى تغمر أرواح الموحدين العاملين. خير لنا هذا من أن نغريهم بالتسامح فى انتهاب طيبات الرزق، والكثرة من إخواننا يتعذبون ويألمون . ص _162
كان هذا التعليق مفاجأة لى لم تقع فى حسبانى إلا أنى سررت بها، واتسع لها صدرى بقدر ما اتسع لها فكرى، وأبادر القول مطمئنا الأخ الأديب بأنه يكاد لا يوجد خلاف بيننا، فإن ما يهدف إليه فى كلمته لا يناقض ما أدعو إليه، ذلك أنه لا علاقة بين الاستهانة بالزهد المادى وبين إقرار العدالة الاجتماعية الواجبة هناك- كما يقول الأخ- الشاكون من التخمة والشاكون من المخمصة. والعدالة الاجتماعية ليست فى تجويع الفريقين، ولكن تساق إليهما خيرات الأرض على سواء، فإذا أمكن الجميع أن يأكلوا من خيرها وطيرها وفاكهتها، فذاك أفضل من فومها وعدسها وبصلها. وهناك- كما يقول الأخ العزيز- الذين يركبون السيارات الفخمة، والذين يجرون أقدامهم من الإعياء جرا، والذى أحبه أن يستطيع الجميع الركوب، فليس للتدين ولا للعدل الاجتماعى أن يفرض المشى على الجميع!
وهذه الأرض التى نعيش عليها لم تضج إلا من التظالم الاجتماعى القائم على البغى والعدوان والجور والحرمان. وتلك خصال لا يختلف اثنان فى استنكارها ومحاربتها، وقد أردت بكلمتى أن أبين سبيل التدين الصحيح، إذ أن أكثر الذين ينتمون إلى الدين، ويحبون الإكثار من العبادة والزلفى إلى الله، يحسبون أن التقشف والحرمان، ورثاثة الهيئة، وسوء المنظر فى الأهل والمال، والعيش على هامش الدنيا، هو طريق الوصول وأس التقوى، ويهملون القضايا الإنسانية الكبرى، والسعى لإقرار العدل الاجتماعى والسياسي، والجهاد المضنى لإدراك ذلك وتحقيقه، وهذا الاضطراب العقلى أنكره القرآن:
(قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون).
صفحه ۱۶۲