لقد أيقنت أن هناك عوامل مدبرة، تدفع الناس إلى الجدل الطويل فى مسائل الدين الصغرى، لتصرفهم عن ملاحظة المشاكل الخطيرة التى يتعرضون لها فى دينهم ودنياهم، حتى خيل إلى أن الاشتغال بهذا السفساف طابور خامس للإلحاد والفجور والبغى فى الأرض. ولقد وظفنى القدر فى الوعظ والنصيحة والإفتاء، فما أعجب ما رأيت ووعيت. " أقول للناس: سلونى فى الجد، فيسألوننى فى الهزل، أريد أن تستفتونى فى المبكيات، فلا أجدهم عندى إلا للاستفتاء فى المضحكات. وهم- ولا أدرى لم؟ يسألون عن حكم الحل والحرمة فى لقمة خبز، ولكنهم يرفضون أن يسألونى عن الحكم نفسه فى قطعة أرض، لأن اختصاصى- وقد يكون اختصاصى الدين- لا يتعدى القروش وآلاف القروش إلى الأفدنة وآلاف الأفدنة!. فإذا كانت الحادثة سرقة من جيب أو اختلاسا من بيت وجدت الفتوى بقطع اليد ماثلة. أما السرقات الكبرى حيث لا تتوافر الشروط الشكلية للجريمة فلا قطع ولا انقطاع، ولينعم بذلك بالا من يعنيهم الأمر! إن هناك شعوبا مسروقة تحت الشمس، وطوائف مغصوبة فى وضح النهار. وإن الله تعالى ليرقب من عليائه كيف يعمل الدين لإحقاق!ا الحق وإزهاق الباطل. دخلت فاطمة زوجة عمر بن عبد العزيز يوما عليه وهو جالس فى مصلاه، واضعا خده على يده، ودموعه تسيل على خديه فقالت: ما لك؟ قال: ويحك يا فاطمة، قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت، فتفكرت فى الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعارى المجهود، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور، والغريب والأسير، والشيخ الكبير، وذى العيال الكثير والمال القليل، وأشباههم فى أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربى عز وجل سيسألنى عنهم يوم القيامة، وأن خصمى دونهم محمد صلى الله عليه وسلم فخشيت أن لا يثبت لى حجة عند خصومته فرحمت نفسى.. فبكيت. ص _050
صفحه ۵۰