ومعنى الآية: جاء فى الرد على المشركين حين استكثروا الرسالة على النبى محمد صلى الله عليه وسلم ، وتعاظمهم أن تتخطاهم العناية- وفيهم السادة والقادة- إلى الرجل الخالى من سطوة الحكم وثروة الغنى. فقال القرآن لهم: إن استطعتم الاغتصاب من خزائن الرحمة، أو التحكم فى آفاق الملكوت، لتحولوا النبوة منه إليكم فافعلوا: (أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب * أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب * أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب). أى الموصلة إلى ما يشهون من تقسيم رحمة الله، ولذا جاء فى آية أخرى: (أهم يقسمون رحمة ربك) وهذا التعبير الدقيق حاكم فى أن الأسباب لا تنفك عن نتائجها. * * * * . رجال المبادئ: من الناس من إذا نزل به ضيم لم يعرف لنفسه عملا إلا مدافعة هذا الضيم بكافة ما بيده من وسائل، لا يبالى أتجدى هذه الوسائل أم لا تجدى؟ أينتصر بعدها أم يهزم؟ أيقول الناس عنه عاقل أم متهور؟ فهو إما أن يحيا كما يشاء أو.. لا.. فالموت مستقر حسن لمن فاته فى الدنيا المستقر الحسن. ويمثل نفسية هؤلاء الرجال قول الشاعر: سأغسل عنى العار بالسيف جالبا على قضاء الله ما كان جالبا وأذهل عن دارى وأجعل هدمها لعرضى من باقى المذمة حاجبا! ثم يقول هذا الفارس الأبى مبينا عن أسلوب الأحرار فى مواجهة الشدائد واستقتالهم فى رد العدوان وقمع الطغيان: إذا هم لم تردع عزيمة همه ولم يأت ما يأتى من الأمر هائبا إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ونكب عن ذكر العواقب جانبا ولم يستشر فى رأيه غير نفسه ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا ص _029 وهناك رجال من صنف آخر، يقيسون نتائج عملهم بمقدار ما يتمخض عنه من ربح أو خسارة، ويفكر قبل الاشتباك فى أية معركة، هل سترجح كفتها له أو تدور دائرتها عليه؟ ثم يتخذ بعد قراره بالهجوم أو الفرار وبمقارعة الموت الرضوخ للعار. وانظر إلى الشعر السابق من نفس جياشة بالإقدام كيف نبع؟ ثم انظر إلى شعر آخر يصور نفسية أخرى: الله يعلم ما تركت قتالهم حتى علوا فرسى بأشقر مزبد وشممت ريح الموت من تلقائهم فى مأزق والخيل لم تتبدد وعلمت أنى إن أقاتل واحدا أقتل ولا يضرر عدوى مشهدى فصددت عنهم والأحبة دونهم طمعا لهم بلقاء يوم مرصد! وقد أحسن الشاعر فى الاعتذار عن فراره، ولكن أترى هذا منطق أنسى بن النضر حين ضمه موقف فى غزوة أحد كموقف هذا المقاتل؟ فلما شم ريح الموت لم يدر بخلده هذا المنطق! بل قال: إني أشم ريح الجنة من وراء أحد !! ومات مقبلا لا مدبرا، مفتخرا لا معتذرا.. وما أحوج المسلمين إلى رجال من الصنف الأول يحيون للمبادئ وحدها، وتأوى الفضائل العليا من نفوسهم إلى ركن ركين. إن فخار الإنسانية فى تاريخها الطويل بمثل هؤلاء الرجال الذين لا تلتوى طباعهم مع سياسة المنفعة، ولا يطيقوا السير مع ألاعيب السياسات وما تنطوى عليه من مكر واحتيال. ص _030 * إلغاء المعاهدات.. على ضوء الشريعة الإسلامية ا- ما حكم الله فى قوم بيننا وبينهم عهد نبذوه ونقضوه، هل يجوز لنا أن ننبذ عهدهم؟ 2- ما حكم الله فيمن يتجسس لحساب العدو، أو يعاونه معاونة مادية أو أدبية، هل يجب قتله؟ 3- إذا قامت حرب بيننا وبين عدو دخل أرضنا، هل الجهاد فرض عين على كل مواطن ذكر، أو أنثى، أو مسلم أو غيره؟ 4- إذا كان فى هذه الحالة معنا قوم معاهدون وشككنا فى نواياهم، هل فى القبض عليهم تعد لحدود الله؟ محمد أبو الحسن نوفل (مدرس بمدرسة دسوق) * * * * إن وفاء الإسلام بالعهود بلغ حدا من الدقة والسمو لم تعرفه إلى اليوم أرقى المؤسسات الدولية، وأحدث الدساتير العالمية. ولسنا الآن بصدد سوق الدلائل الشاهدة لذلك، ولكن مسلك الإسلام فى معاملة أعدائه يتضمن صورا من الوفاء الكريم يجب أن ننوه بها وأن نواجه وجوه المكابرين بما يترقرق فيها من سماحة ونبل.. كان اليهود لا يرون للعقود والمعاهدات حرمة إذا أبرمت بينهم وبين مخالفيهم فى الدين، ويستبيحون أكل الحقوق المقررة لغيرهم، لا لشيء إلا لأنهم ليسوا بيهود، فأنكر الإسلام هذه المعاملة الخسيسة، وشرع الوفاء العام للناس جميعا، لا فرق بين ملة وملة: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون * بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين). وسار الإسلام على هذه القاعدة وهو يتعقب الرذائل، ويطهر الأرض من الظلم والفسوق والعصيان. فلما أعلن على النفاق حربا شعواء، واستثار همم المسلمين ليقاتلوا المنافقين- وهم جبهة واحدة- وعندما أوصى بأن لا تأخذهم هوادة فى منابذتهم بالخصومة ومصارحتهم بالبغضاء، قال: ص _031 (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا). ثم كشف عن خبيئة نفوسهم وحقيقة موقفهم من الدعوة إلى الله، ورغبتهم الكامنة فى أن تطوى الأرض ظلمات الكفر والضلال. وعلى بينة من هذه النيات الخبيثة قال: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا). (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم). بل إن الإسلام يؤخر التناصر الثابت بحق الأخوة المشترك فى الدين، ويقدم عليه المعاهدات المعقودة، ولو مع قوم كافرين! وفى هذا يقول الله تعالى: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير). ويبدو أن هذه المعاملة الفاضلة القائمة على رعاية العهود والمبالغة فى احترامها بدأت من جانب واحد فقط، أما الجانب الآخر فقد أظهر الموافقة والقبول، وأضمر التربص والكيد، ريثما تواتيه الفرصة المناسبة ليعلن غدره ويوقع مكره. فهو يستمسك بالوفاء ما دام ضعيفا، ويحرص عليه ما ظل يستفيد منه، فإذا أحس بالدفء والقوة تحرك ليلدغ، وبسط يده وفمه بالأذى. وقد ظل المسلمون الأولون حينا من الدهر يتعلقون بمثاليتهم، ويحاولون الإبقاء على عهودهم مع مخالفيهم فى الدين، من اليهود والنصارى والمشركين، بيد أن هذه المحاولات ضاعت سدى، فقد نقض يهود المدينة معاهدتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ظنوا الفرصة سنحت للقضاء على المسلمين فى معركة الأحزاب كما نقض المشركون عهد "الحديبية "مع أن بنوده كانت لمصلحتهم. ص _032 وعدا بعض أمراء الشام على رسول للنبى صلى الله عليه وسلم فقتلوه! واستبان من اطراد الحوادث أن المسلمين يعاملون رجالا من نوع لا شرف لديه ولا وفاء، فأصبح لزاما عليهم أن يعدلوا مسلكهم، وأن يحسموا عهودا لم يحترمها منذ أبرمت إلا طرف واحد ! وفى ضوء هذه الملابسات نزلت سورة براءة، وفيها تسمع دمدمة الآيات ومن ورائها قعقعة السلاح: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين). وفى هذه السورة أعلن- فى جلاء- أن المعاهدات السابقة قد ألغيت، وأن ألاعيب المشركين الكثيرة قد وضع لها حد أخير! والإنسان يستمع إلى الآيات التى تضمنت "حيثيات " هذا الإلغاء، فيجد فيها دلائل الغضب من مسالك المشركين النابية، وتقريعا شديدا على مخالفاتهم الماضية، ونصا حاسما على أن الوفاء لا موضع له إلا مع أهل الوفاء فحسب، ومن ثم قيد القرآن هذا النقض العام ليوفر الأمن والسلام مع من حسنت سيرتهم، وصدقت كلمتهم، فقال : (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين). ثم تفيض الآيات فى سرد أسباب النقض وضرورات الإلغاء التى أنهت هذه المعاهدات فتقول: (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين * كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون). ص _0 ص ثم يؤكد مشاعر الحقد المضطرمة فى هذه النفوس الغادرة: (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون). ويرسم القرآن بعد ذلك الطريق لمعاملة أمثال أولئك القوم، فيضرب السيئة بالسيئة، ويعالج الغدر بالقصاص: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون). وفى تحريض المسلمين على قتال هؤلاء الناكثين لتطهر الأرض من رجسهم،وتخلص الحياة من عبثهم، يقول الله: (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين * قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم ). إن الإسلام على قدر تنويهه بالمواثيق، وتشديده فى المحافظة عليها، يصب نقمته على المتلاعبين بها والمستغلين لها، ويعتبرهم دواب تضرب بالسياط، لا بشرا يقادون " من ضمائرهم، ويأمر أن تكال الضربات لهم على نحو يثير الرعب فى غيرهم، حتى يكون التنكيل بهم عبرة لمن يلهو لهوهم ويحنث حنثهم: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون * الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون * فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون * وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين). وقد قررت الحكومة المصرية أن تلغى معاهدة سنة 1936 للأسباب التى جعلت المسلمين الأوائل يلغون معاهداتهم مع اليهود والمشركين، بل الأمر فى حالتنا أشد نكرا ص _034 وأبعد أثرا فالمعاهدة المنقوضة اليوم لا تعدو فى حقيقتها أن تكون ميثاقا يعطى اللص الحق فى سكنى البيت الذى سطا عليه، والتجول فى غرفاته وردهاته كيف يشاء، فهى معاهدة باطلة أصلا، وتحليل الحرام لا يقره دين ولا عقل! وقد احتل الإنجليز هذا الوادى لسلب خيراته، ونهب أقواته، وتعويق نهضته، ووأد حريته. ومنذ سبعين سنة وأهله يسعون حثيثا لاسترجاع حقوقهم المغصوبة، وقد خضبوا بالدم كل خطوة استطاعوا أن يثبوها إلى الأمام! ذلك أن الإنجليز كانوا يبذلون جهودا متتابعة للدفع بالبلاد إلى الوراء حتى تتخلف عن ركب الحضارة، وتحيا على ما يشتهى أولئك الإنجليز حياة الرقيق الأذلين فى بلد لا يرفع رأسه، ولا يكرم نفسه! فكيف تضفى على هذه الحال الشائنة صفة قانونية؟ وكيف يقوم تشريع لحماية السلع المسروقة وتسخير الأم الحرة؟ ثم كيف يتوقع أن يستكين الإسلام لهذا الضيم؟ أو يرضى أبناؤه بهذه السبة؟؟ إن الجهاد إلى الرمق الأخير فريضة ماضية إلى قيام الساعة حتى يقذف بهؤلاء الإنجليز إلى الأمواج التى رمت بهم على شواطئنا أو يلقوا المصير الذى يلقاه كل معتد استهوته المغامرات الطائشة، فدفع روحه فيها ثمنا! وقد بين القرآن الكريم أن موالاة المعتدين وإيثار صداقتهم والشذوذ عن رأى (الجماعة) فى كفاحهم، وتقديم أى لون من ألوان المساعدة لهم، أو التجسس لحسابهم، والعمل لمصلحتهم، أو السعى لمصالحتهم.. بين القرآن أن ذلك كله ارتداد عن الإسلام ومروق من الملة، وفى هذا يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة). وهذا القول تصوير صادق لدعاة الهزيمة، وأولى الريبة فى مستقبل كل كفاح يدور بين الحق والباطل، فتخوفهم من الهزيمة يبيح لهم الاتصال بالعدو ليأمنوا على أنفسهم، ويؤمنوا على حياتهم، وقد اتفقت قوانين العالم كله على عد هذا المسلك خيانة عظمى، وجعلت العقوبة له القتل. ص _035
صفحه ۳۵