الرواقية الوسطى: يمثلها بنايتيوس وبوسيدونيوس. ولد بنايتيوس في رودس حوالي عام 198ق.م، وتأثر بفكر أفلاطون وأرسطو، فعمد إلى تعديل بعض الأفكار الرواقية والتخفيف من صرامتها. واتسمت كتابته بالطلاوة والفصاحة. تأثر به شيشرون الذي يعد أهم من عرف الرومان بأصول الرواقية. أما بوسيدونيوس فهو مؤرخ وفيلسوف سوري الأصل، عاش من سنة 153ق.م حتى سنة 51ق.م، تتلمذ على بنايتيوس الذي توفي حوالي عام 110ق.م، واشتهر بسعة معارفه؛ فكان مؤرخا كبيرا واصل أعمال المؤرخ بوليبيوس، وعالما طبيعيا وفلكيا بارزا
10
وفيلسوفا لاهوتيا، قام بأسفار كثيرة، بعضها للدراسة المحضة، وصادق الكثيرين من عظماء الرومان، وتتلمذ عليه شيشرون وتأثر به أكثر مما تأثر بنايتيوس. حاول التوفيق بين الرواقية والأفلاطونية. وله إسهامات في الجغرافيا ونظريات في الرياضيات. وصل وبوسيدونيوس إلى أدق تقدير، في العالم القديم، لبعد الشمس عن الأرض، وقدر أنه بالإبحار غربا من قادش يمكن بلوغ الهند بعد 70,000 ستاديون (مقياس طول يوناني قديم)، وقد أخذ كولمبس فيما بعد بهذه الملاحظة وكانت وراء ثقته فيما أزمع عمله.
مذاهب الرواقية القديمة
الفلسفة عند الرواقيين طريقة حياة قبل أن تكون ترفا ذهنيا أو ثراء معرفيا. إنها ضرب من العمل أو الممارسة يكفل للمرء حياة منسجمة سعيدة، أو هي في عبارة واحدة «فن الحياة»
ars vivendi
بتعبير شيشرون؛ فالعلوم الجزئية لا تقدم لنا إلا معارف جزئية تفيدنا في معرفة ما ينبغي علينا أن نصنعه بشيء بعينه أو في مواضع بعينها، ولكنها لا تدلنا على الموقف الذي ينبغي لنا أن نتخذه تجاه الحياة في عمومها أو تجاه الأشياء في كليتها؛ فذاك أمر يحتاج إلى علم آخر فوق العلوم الجزئية، هو «الحكمة» التي لا يبلغها المرء إلا بممارسة شاقة دءوب للفلسفة. والفلسفة عند الرواقيين هي «علم الأمور الإلهية والأمور البشرية.» كما يقول شيشرون. وحيث إنهم ذهبوا إلى أن العقل عنصر مشترك بين الكائنات الإلهية والبشرية فإن الفلسفة عندهم هي علم الموجودات العاقلة، أو علم الأشياء كلها؛ الأشياء الطبيعية عندهم مندمجة في الأشياء الإلهية. والفلسفة عند الرواقيين هي الشعور بكمون العقل في الطبيعة؛ ومن ثم فإن واجب الفيلسوف هو نبذ كل ما يخالف العقل سواء في طبيعة الكون أم في سلوك الإنسان، والتفطن إلى أن ما يبدو أحيانا مخالفا للعقل إنما هو في حقيقة الأمر معقول ومقبول حين تدرجه النظرة الفلسفية العميقة في سياقه الأوسع وتسلكه في إطاره الكلي العريض.
والفلسفة مبحث واحد متصل، وإن اضطر الرواقيون إلى تقسيمه، لدواعي الدرس والتعليم، إلى ثلاثة أقسام كبرى؛ المنطق (ويتضمن عندهم الميتافيزيقا واللاهوت والنفس)، والأخلاقيات. تتراتب هذه الأقسام في الأهمية عند أغلب الرواقيين؛ فالأخلاقيات لها الصدارة لدى عموم الرواقيين،
11
وإذا كان بعضهم يقدم عليها علم الطبيعة فإنما يعني بذلك أن الأخلاقية الصحيحة تقوم على معرفة الطبيعة وتنتج عنها مباشرة؛ فمن المحال أن يكون للإنسان مذهب في الأخلاق دون أن يستند على أساس من الطبيعة والميتافيزيقا؛ إذ لا يستطيع أن يكون له قواعد للسلوك دون فكرة عامة عن الكون الذي يحيا فيه.
صفحه نامشخص