وما تكاد تضع حروب الشرق أوزارها حتى تتحالف قبائل جرمانية قوية شمال الدانوب، الماركوماني والقادي والصرامطة والقاتي، لتهاجم الحدود الشمالية للإمبراطورية وتهدد إيطاليا وبانونيا واليونان، فيزحف إليها ماركوس وفيروس على رأس فرق رومانية لتأمين جبهة الدانوب.
وفي روما ذاتها كان الطاعون، الذي انتقل من الشرق مع جيش فيروس، يفتك بالناس. وأتلفت فيضانات التيبر كميات هائلة من الحبوب وتسببت في مجاعة شديدة اضطرت ماركوس إلى بيع المجوهرات الملكية ليواجه المجاعة ويدبر الاحتياجات الملحة. وفي عام 169م مات فيروس فجأة، وانفرد ماركوس بإدارة الإمبراطورية، وظل في رباط بقية عمره، وتمكن من تحقيق الاستقرار في الإمبراطورية ومن قهر أعدائه بفضل حنكته العسكرية وحكمته في اختيار قادة جيوشه.
وفي عام 175م فجع ماركوس بخيانة أفيديوس كاسيوس
Avidius Cassius
قائد جيوشه في آسيا، والذي حاز مجدا في الحروب البارثية؛ إذ أعلن نفسه إمبراطورا على الرومان ظنا منه أن ماركوس، المعتل الصحة في ذلك الوقت، قد مات. وقبل أن يصل ماركوس إلى آسيا لمواجهة هذا الأمر قتل كاسيوس على يد بعض ضباطه. وحين وصل ماركوس إلى آسيا قدم إليه رأس كاسيوس فأسف لمقتله ورفض مقابلة قاتليه لأنهم حرموه من غبطة تحويل عدو إلى صديق، وأبدى رأفة مذهلة بأسرة كاسيوس وأنصاره، ولا تزال رسالته إلى مجلس الشيوخ، يناشدهم فيها الرفق بالجناة، باقية حتى اليوم تشهد بنبالة هذا الرجل وسعة صدره وصفاء سريرته.
خلال هذه الرحلة إلى الشرق توفيت زوجته فاوستينا فجزع لموتها جزعا شديدا، وظل وفيا لذكراها حتى آخر يوم من حياته. وما لبث أن استأنف حروبه على الجبهة الشمالية مكللة بالنصر. غير أنه أصيب في معسكره بعدوى قاتلة، قيل إنها الطاعون، وقضى نحبه في السابع عشر من مارس عام 180 وهو يوصي جنوده بألا يبكوه بل يقاوموا الوباء الذي يفتك بالناس؛ فكان يوم وفاته، على حد قول إرنست رينان، «يوما مشئوما على الفلسفة وعلى المدنية.» وخلفه ابنه كومودوس، الوحيد من أبنائه الباقي على قيد الحياة آنذاك، وحكم روما اثنتي عشرة سنة، فكان إمبراطورا ضعيفا فاشلا، وأفسد كثيرا من حملات أبيه بعقد سلام متسرع غير حصيف، وكان مستبدا عنيفا على غير طائل؛ حتى ليقال إن العيب الوحيد الذي ينال من مكانة ماركوس أوريليوس هو أنه أنجب مثل هذا الغلام التافه الدموي.
على أن أخطاء ماركوس لا تقتصر على إنجابه كومودوس، فقد كان إشراكه فيروس، أخاه بالتبني، في الحكم خطأ كبيرا تغمده عفو الأقدار بصلابة ضباطه وبوفاته المبكرة. غير أن هذه السابقة التي استنها ماركوس أعقبت وبالا على الإمبراطورية في عصر دقلديانوس وشقت الإمبراطورية إلى نصفين. ومن أخطاء ماركوس مركزيته الزائدة في الإدارة المدنية، وكذلك اضطهاده للمسيحيين، أو، بالأدق، تراخيه عن حمايتهم من الاضطهاد.
2
أما مزايا حكمه فأكثر من أن تحصى؛ فقد كان قائدا عسكريا قديرا، على تواضع بنيته، وإداريا حصيفا ذا ضمير حي. وعلى الرغم من ممارسته للفلسفة وشغفه بها فإنه لم ينزلق إلى محاولة إعادة تشكيل العالم وفقا لأي مخطط نظري أو تصور مسبق، وهو منزلق من السهل أن يقع فيه أي فيلسوف يتسنى له، مثل ماركوس، حكم العالم، بل اكتفى بالسير على الطريق الذي مهده أسلافه، لا يطمح إلا في أن يؤدي واجبه جهد ما يستطيع، ويقاوم الفساد ما أمكنه. يقول ماركوس: «لا تؤمل في جمهورية أفلاطون الطوباوية، بل اقنع بأصغر خطوة إلى الأمام، ولا تستهن بهذا الإنجاز، ما أتفه أولئك البؤساء الذين ينخرطون في الأمور السياسية ويظنون أن أعمالهم لها صفة فلسفية. إنهم جميعا يهرفون. ومن ذا يستطيع أن يغير آراءهم؟ وبدون تغير الرأي ماذا يكون هناك غير العبودية؛ أناس يئنون وهم يتظاهرون بالطاعة؟ امض إذن، وحدثني الآن عن الإسكندر وفيليب وديميتريوس الفاليري؛ فقد كنت خليقا أن أتبعهم لو أنهم رأوا ما تريده طبيعة العالم وتتلمذوا عليها. أما إذا كانوا ببساطة يمثلون أدوار أبطال الدراما، فأنا بحل من أن أقلدهم، بسيطة هي ومتواضعة مهمة الفلسفة، فلا تمل بي إلى الخيلاء والغرور» (التأملات: 9-29).
انصرف ماركوس في إدارته إلى إرساء العدالة وحماية الولايات من الظلم وإعانة المدن المنكوبة، وإيجاد قوانين داخلية لحماية الضعفاء والتخفيف عن العبيد، ورعاية الأطفال الضعفاء والأيتام وتعليمهم، جاعلا من نفسه أبا لمن فقد أباه وراعيا لمن فقد الرعاية.
صفحه نامشخص