كان كل شيء في مكانه، ملابس، كتب، أسطوانات أفلام، شاشة عرض، سجائر، سيجار، كل شيء، لم أبحث عن السيجار الكوبي تلك المرة، لم أبحث أيضا عن سجائر العنبر، فقط سحبت علبة من سجائري المفضلة، ومنفضة دخان فضية لخادمتين تحملان قدرا مستديرا، توقعت صناعته بهذا الشكل في مطلع القرن العشرين؛ فخطوطه تعلن بدايات الانتقال من عصر «الأرت نوفو» إلى عصر «الأرت ديكو» ولو كانت القطعة أصيلة فستكون مدموغة بسنة صنعها، قلبتها في يدي، وبالفعل كان أسفلها دمغة الفضة وبجوارها 1917، لا أشعر بارتياح كبير لتلك الفترة؛ اتفاقية سايكس-بيكو، نهاية الحرب العالمية الأولى، معاهدة فيرساي، ثورة صناعية، عصبة أمم، حتى خروج مصر من الولاية العثمانية تماما لم يذكره التاريخ بأكثر من تغيير العملة وإصدارها باسم السلطنة المصرية، حتى أصبحت الأمور «آخر سلطنة».
تمددت بالسرير ساندا ظهري، أنفث الدخان في الهواء وأراقب تلك النقوش من حولي والدخان ينسحب، لم أكن أفكر فيما سأفعله، أو ما يجب علي فعله، بل كنت أتساءل وقتها عما أريده حقا، ليس من الصعب علي تعلم التقاليد الرئاسية، ليس من الصعب تعلم أي شيء، كادت النقوش تختفي من كثرة الدخان، وما زلت عند نفس السؤال، هل هي الفرصة؟ أم هي الورطة؟
أخذني التفكير مرة أخرى للملك «توت» هل حقا كان ابنا «لأخناتون»؟ أم أن «المعبد» و«الجيش» قررا وقتها أنه الحل الآمن لعودة السلطة لطيبة؟ كيف مات أخوه؟ أو الملكة تي المنتحلة صفة أخيه؟ لماذا تولى الوزير «آي» الحكم بعده وهو ليس من ذوي الدم الملكي؟ وكيف مات أيضا؟ ما دور «حور محب» قائد جيش «أمنحتب الثالث» وصديق «أخناتون»؟ كيف أصبح هو أيضا ملكا لمصر؟ وبدأت في السقوط في النوم، أو في الماضي، كنت أراه، مجموعة من الصور المهزوزة وكأنني جزء منه، حتى تملك مني، إعلان رحيل الملك، رحيل الملك.
ابنة القمر
انساب عطرها يطرد بقوة أبخرة الصندل الممزوج بالأزهار البرية من الغرفة، ويتربع الهواء معلنا حضورها، «ابنة القمر»، ومن خلفها أربع خادمات، أقلهن جمالا تستحق أن تكون إلهة الجمال، لكنهن بجانبها مجرد خادمات، دخلت من الباب الذي لم أتمكن من فتحه، وغلق من خلف موكبها.
تقدمت نحوي بخطوات واثقة، تتهادى فوق أجنحة النسيم، وقفت لترمقني بنظرة جعلتني أعتدل على فراشي، جلست، وحين حاولت الوقوف، أشارت ببنانها الذي رأيته مضيئا كالصولجان، وأعطتني ظهرها، وتحركت بموكبها نحو المغطس، وعند منتصف البهو، أسقطت رداءها، وظلت في التهادي عارية، حتى وصلت للمغطس لينساب جسدها كما انساب عطرها بعذوبة تفوق عذوبة الماء، وجلست الخادمات على ركباتهن، وفتحن الصناديق التي يحملنها، وأخرجن الزيوت، والدهون العطرية التي لم أعرف أن امرأة تستعملها سوى «ابنة القمر»، حتى الملكة الأم لم تملك مثل تلك الرائحة يوما.
لا أعرف ما كان يجب علي فعله، فقط تسمرت، جالسا أراقبها، وخادماتها يعبثن بجسدها بالزيوت، والدهون، ويعبثن بعقلي معهن، وهي يبدو عليها الاستمتاع، وكان الجميع يتحرك بنظرة آمرة مستكينة من عينها، كأنها تقود معزوفة بتلك النظرات، الواثقة، الحالمة، القاطعة، لم أكن أدري ما علي فعله، هل يجب أن أتحدث؟ أم أترك لها شرف البداية؟ هل يجب علي الاستمرار في البحلقة بعدما تجاوزت مرحلة اختلاس النظرات ؟ رنت ضحكتها الساخرة كأنها تقرأ حيرتي، فأشعرتني بالخجل، تملكني الخوف من أنها قد تكون بالفعل قادرة على قراءة أفكاري، فبدأت أردد بعقلي: «ابنة القمر سيدة عظيمة، ابنة القمر سيدة عظيمة ...» لكن يبدو أن حيلتي لم تنجح عندما سمعتها تقول: «أنا أكبر من كامي، وأصغر من طفلة لا تقوى على عصر ثدي أمها.» (ورنت ضحكتها الساخرة مرة أخرى)؛ فقد كنت أفكر كم عمر تلك المرأة المخيفة.
تملكني الرعب، ولا أدري فيم كنت أفكر، أو كيف انصرف الخادمات، ومتى توشحت بذلك الرداء الحريري الناعم، وتحلت بتلك الثعابين الذهبية، فقط وجدتها تجلس على الأرض أمامي في دلال لم أر مثله من قبل، كنت صغيرا حينها أو هكذا كنت أظن. - هل تعرف لماذا أنت هنا؟ (قالتها مبتسمة.) - لا أعرف، بل أعرف، أو أعرف ما قاله لي كبير الكهنة (قلتها مرتبكا). - دورة قمر واحدة وقد تصبح الملك، ابن الإله، أو الإله ذاته، أو تصبح قربانا تذبح على المذبح الحجري تعبيرا عن أسف الكاهن الأعظم لخطأ ظنه فيك.
شعرت بكل مياه النهر تهدر بعروقي، وكأن القلب يفيض غضبا، لم أعرف كيف أبوح بما في داخلي، فقد أذبح قبل انتهاء الدورة، أي ظلم هذا! أي عبث بي الذي يفعله الكاهن الأعظم وعشيقته! كيف أذبح إن أخطأ هو؟! كيف ...؟ كيف ...؟ كيف أخرج من هذا المكان؟ أخرجني من ثورتي المكبوتة صوتها الساخر مرة أخرى: «لا يمكنك الخروج يا صغيري.» - لست صغيرك (قلتها صارخا). - اهدأ، لقد أعجبني ما فعلته بمعبد الملكة الأم، تلك العاهرة لا تستحق كل هذا الجمال.
استمر صياحي وأنا أجوب تلك المقبرة اللعينة التي حبست بها. - ليست عاهرة، أراك تتحدثين عن العهر كما لو كنت إيزيس العفيفة، أنت العاهرة، نعم أنت، وهذا المعتوه هو قوادك، نعم هو قواد ولص، وأنت العاهرة.
صفحه نامشخص