ظللت أراقب سحابات الأبخرة قليلا ثم قمت لأتفقد مقر إقامتي، فوجدت أحدورا آخر عند مخرج البهو حيث أشار لي، يفضي إلى غرفة يحيطها ثلاثة أروقة، بأحدها سرير من الخشب المذهب على اليمين، ويقابله مغطس من الحجر مليء بالمياه المعطرة، وتسبح فوقها أزهار البردي، وورد النيل، وبأحد جدرانه يوجد باب آخر، يفضي إلى حمام بقاعدة حجرية، وبجواره قوارير المياه، وفي الجهة الثالثة المواجهة لمحور الدخول، يوجد رواق به مجلس من مصطبتين متقابلتين، وفي المنتصف يوجد باب، حاولت فتحه ولكن لم أتمكن فعدت حيث السرير الخشبي، ضربته بكف يدي مرتين لأشعر بالأحبال الكتانية المشدودة، ثم جلست عليه لتتحول جلستي لتمدد.
وضعت كفي أسفل رأسي، وواجهت السقف البديع المزين بقرص الشمس الذهبي وأجنحة «إيزيس»، ابتسمت مليا عند ذكر «إيزيس»؛ فدوما أتذكر كبيرة الكهنة «ابنة تحوت» أو ابنة القمر.
لا أعرف إن كانت نظرتي لها قد تغيرت بعد ما شاهدته اليوم من طقس جنزي لتقديم القرابين، ورؤيتي كل هؤلاء الرجال والنساء يلعقون جسدها المقدس، ويرشفون الحليب، والنبيذ، والدم من فوق جسدها، وهي ثابتة لم يرتعش جسدها، ولم تطرف عينها، لا أعرف شيئا عن بقية الطقوس، لكنني أحبها منذ كانت ترافق الملكة الأم لزيارتها للمعبد وأنا أقوم بمتابعة الأعمال به، وحين كنت أنحني للملكة الأم كنت أختلس النظر دوما ل «ابنة القمر»، لا أعرف كم عمرها، سمعت أنها من عمر الآلهة، لكنها تجمع جمال «حتحور» ونعومة الأفعى، وعذوبة السماء، وخصوبة الأرض، الآن ستصبح معلمتي، لا أكترث بأمر الدولة، ولا ما يريده مني كبير الكهنة، كل ما أفكر فيه هي «ابنة القمر»، وبدأت الأسئلة تمطرني بويلاتها، وأنا مستسلم لها في انتظار ما سيحل بي من قدر بعد اكتمال دورة القمر، وأنا برفقة «ابنة القمر».
الكواليس
- يبدو أن الأيام القادمة ستشهد بعض التوتر بين القصر ومجموعة من ضباط الجيش. - ماذا لدينا عن هؤلاء الضباط؟ - مجموعة من الضباط الشباب يتوسطهم بكباشي يدعى جمال عبد الناصر. - وماذا نعرف عنه؟ - شارك في مفاوضات حصار الفالوجة، فهو يعرف بعض الإنجليزية، وله تأثير في رفقته، ويقوم بتدريس الاستراتيجية العسكرية بكلية أركان الحرب، وعلى علاقة بجميع التيارات السياسية. - هل نحن بصدد مولد فرعون جديد؟ - لا يمكن الجزم بعد سيدي، لكن الأمور تشير إلى رغبته وزملائه لتغيير قادة الجيش. - ألا يمكنهم التطرق لما هو أبعد من قيادة الجيش؟ - تقصد القصر سيدي؟ - نعم أقصد القصر، وفاروق بالتحديد؛ فليس هو رجل تلك المرحلة، ومصر في حالة من الاستعداد لولادة نظام جديد تحتاجه الولايات المتحدة في المرحلة القادمة. - صدقت سيدي، آن الأوان لجنود المملكة المتحدة بالتراجع قليلا من المنطقة، وترك مساحة كافية لنفوذنا، ولكن كيف نساعدهم ليساعدونا في تبني ولادة إمبراطورية أمريكية بمفهوم جديد في المنطقة؟ - ما هو موقف القصر من هؤلاء الضباط؟ - تم استصدار أمر اعتقال لهم، ويقوم البوليس الحربي بتتبعهم الآن. - وما موقف نجيب الهلالي، هل يشعر بالتهديد بعد؟ - لا أعتقد سيدي بأن نجيب باشا يدرك أبعد من أن هناك بعض التوتر في صفوف الجيش. - الملك رضخ لصديقنا مايلز لاميسون منذ عشر سنوات حين حاصر قصره بالدبابات، وأعتقد أنه سيوقع وثيقة التنازل هذه المرة لو أعيد الحصار بقوات مصرية، ويجب أن يدرك هؤلاء الضباط أن الوقت قد سنح لتلك الخطوة، فقط عليهم التحلي بالشجاعة والتطلع لهدف أعلى من إمكانياتهم. - هل تقترح الاتصال بهم؟ - لا ليس بعد؛ فهم سيتصلون بنا لو يملكون الذكاء الكافي للتغيير، وسيتصلون أيضا بأصدقائنا بسفارة المملكة المتحدة، وسيتصل فاروق أيضا؛ فهو متردد ضعيف لكنه ليس غبيا. - ما تقترحه حين يتصل كل من الضباط والملك؟ - نتعامل مع الأمر كشأن داخلي، بشرط حماية الأجانب ومصالحهم في مصر، لن نطلب من الضباط ما يخيفهم في تلك المرحلة، ولن نساند فاروق في الحفاظ على هيبته وربما عرشه، فإن لم يكن قادرا على فرض هيبته، فهو لا يستحق عرش مصر. - ماذا عن أصدقائنا البريطانيين؟ - ماذا عنهم؟ - هل تعتقد سيدي بأنهم قد يتدخلون في الأمر؟ - لا تكن مضحكا، الإنجليز يتوقون لاختفاء فاروق وحكومات الأقلية من جهة وحكومة الأغلبية بعد خيانة النحاس لهم وإلغائه معاهدة 36 العام الماضي مما كلفهم الكثير في حركات المقاومة المسلحة، هم بحاجة لهدنة طويلة الآن، وسيساندون هؤلاء الضباط وربما يدفعونهم لما هو أبعد من كوبري القبة (يقصد قيادة الجيش). - ولكن إلغاء النحاس لمعاهدة 36 ألا يضع الإنجليز بمثابة العدو الأول لهؤلاء الضباط سيدي؟ - وظننتك قد تعلمت منا! سيتوقف الأمر كله على هؤلاء الضباط وطموحهم؛ فلو وصل تطلعهم للقصر فإنهم سيحتاجون حيادنا وحياد الإنجليز، وفي هذه الحالة سنكون حلفاء بعدم التدخل، ولو اقتصر طموحهم كمعظم المصريين على أهداف لا تبتعد عن أنوفهم، فسيقوم الإنجليز بخطوة التحالف لدفعهم للمزيد . - هل تعتقد باحتمالات صدامات مسلحة بين صفوف الجيش؟ - لا أعتقد ذلك؛ فالجيش ناقم على فاروق منذ حرب 48، ربما يتعاطف رجال البحرية قليلا معه وخصوصا لأنه بينهم الآن في الإسكندرية، لكن لا تنس موقفه الذي لا يحسد عليه، ما هي معلوماتنا عن موقف الإنجليز؟ - لا شيء بعد سيدي، نحن في الانتظار لنرى. (يرن الهاتف.) - نعم، حسنا، نعم، هل هناك أي صدامات؟ حسنا، شكرا (يغلق الهاتف ويستطرد) قام الضباط بالاستيلاء على مقر قيادة الجيش بدون صدامات، ويبدو أنهم ألقوا القبض على قيادات الجيش. - لقد بدءوا مبكرا، أتمنى بأن يكونوا بالذكاء الكافي لعدم التوقف. - هل أتصل بالسفير البريطاني الآن؟ - لا، هم سيتصلون بنا، فقط أرسل تقريرا كاملا الآن للشئون الخارجية بالعاصمة واطلب منهم النصيحة.
أغلق السيد «كمال الراعي» رئيس هيئة الدفاع الوطني (المخابرات العامة) ملفا بيده، ووضعه على طاولة بجوار كرسيه، وقال مخاطبا السيد «محسن رضوان»: لا أريد أحدا في الغرفة عندما يستيقظ. وأجابه: «مفهوم كمال بك.»
سمعت آخر جملتين، ميزت صوت «محسن رضوان»؛ فما زالت كلمة «معاليك» تصدي بأذني، لكن لم أكن أعرف الصوت الآخر، لكن تصورته شخصا ذا أهمية بسبب لهجة «محسن رضوان» المستسلمة هذه المرة، حاولت القيام من سرير لا أعرف كيف وصلت إليه، وما إن فعلت حتى توقفت الأصوات تماما.
فتحت عيني على إضاءة معتدلة، وسقف يعلوني بستة أمتار على الأقل، إن لم يكن أكثر، بلون كريمة الحليب بالشاي، ومذهب بزخارف بارزة من القرن التاسع عشر من طراز الباروك، يتدلى منه ثريا تبدو من الذهب الخالص، تحمل إضاءة متوسطة ومريحة، لم يضايقني النظر لنورها الذي يرتفع حوالي أربعة أمتار تقريبا من مكاني، تحركت عيناي من السقف للكرانيش المذهبة، فورق الحائط الفرنسي، النقوش باللونين الكريمي والأبيض، وخيوط الذهب داخل إطارات خشبية مذهبة أيضا، لم أحتج لكثير من الوقت لأدرك أنني في إحدى غرف النوم بقصر عابدين، أعتقد لو عرف الفرنسي «دي كوريل روسو» مصمم القصر أنني سأنام في إحدى غرف نومه، لما صممه «للخديوي إسماعيل» في المقام الأول.
اعتدلت بصعوبة ، وسندت ظهري على مراية السرير الخلفية، بالفعل لا أنكر إحساسي بالمكان، إحساس بالفخامة غير عادي، رأيت تلك التصميمات كثيرا، لكن شعور استعمالها مختلف تمام الاختلاف، اقترب من السرير رجل وسيم لم أستطع معرفة عمره الحقيقي من كم تأنقه وعنايته بمظهره، لم يكن غيره بالغرفة، فعرفت أنه من أعطى أوامره «لمحسن رضوان» بالخروج من الغرفة، اقترب من السرير وأومأ برأسه محييا بابتسامة واثقة، وعين يكاد بريقها يفوق الثريا المتدلية وتعبر عن ذكاء حاد، اقترب أكثر من السرير وكنت شبه جالس، وبدأ الحديث دون أن يحول عينه من عيني. - حمدا لله على سلامتك سيادة الرئيس، محمد كمال الراعي، رئيس هيئة الدفاع الوطني.
عقدت حاجبي فاستطرد مبتسما «المخابرات العامة»، حاولت تقييم الموقف بسرعة، أنا في إحدى غرف النوم بقصر عابدين، ورئيس المخابرات العامة يدعوني «بسيادة الرئيس»؛ أول ما خطر لي أنها إحدى طرق الاستجواب، ربما يظنونني رئيس أحد التنظيمات السرية لذلك يدعونني سيادة الرئيس، استرجعت بسرعة ما تذكرته من أحداث عن يوم التصوير، وجنود الحرس الجمهوري ورئيس الديوان وسقوطي، قررت أن أحاول معرفة ما يحدث فسألت بصوت متشكك. - رئيس ماذا؟
صفحه نامشخص