سقراط: الرجل الذي جرؤ على السؤال
سقراط: الرجل الذي جرؤ على السؤال
ژانرها
وحتى في ذلك الحين كان لا بد لشيرفون أن ينتظر أياما قبل أن يستطيع ولوج المعبد، وعلى كل حاج أن يمثل أمام الإله في دوره الصحيح، وعليه أن يقدم سؤاله للكهان قبل موعد المثول بوقت طويل، وأخيرا جاء دور شيرفون، وقدم الضحايا اللازمة ودخل خلال بهو الأعمدة الرخامية حتى بلغ الحرم المظلم حيث يقوم الحجر المقدس - مركز الأرض - إلى جوار مائدة أبولو المقدسة ذات القوائم الثلاث.
وألقى بسؤاله، وأجابت الكاهنة في صيحات بدت كأن لا معنى لها، إن أبولو كان يتكلم عن طريقها، غير أن الكهان وحدهم هم الذين يستطيعون الإدراك، ولما خرج في النهاية شيرفون إلى ضوء الشمس كان يحمل في يده الجواب الذي دونه الكهان، وكان سؤاله: «هل هناك من هو أحكم من سقراط الأثيني؟» فكان الجواب: «ليس أحكم منه إنسان.» ولم تكن هذه الإجابة في غموض الألغاز - كما كان يحدث في أغلب الأحيان - وإنما كانت في عبارة واضحة لا لبس فيها، وأسرع إلى بلده يحمل هذا النبأ.
ولما عاد إلى أثينا وتحدث عما أجاب به أبولو، كان لكل امرئ على الأمر تعليق، فقال التقاة خاشعين: إن كلمة الإله لا تؤخذ مأخذا هينا، وتحاشى أكثرهم بعد ذلك الحديث مع سقراط ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وزعم المتشككون أن الكاهنة لم تصدق دائما، فهناك تلك النبوءات المشئومة خلال الحرب الفارسية لا بد من تعليلها، ويبدو اليوم أن الإسبرطيين في حظوة عند دلفي، ومهما يكن من شيء فإن الكاهنة تمكن رشوتها، وليس الكهان إلا رجالا.
أما سقراط فلم يتحدث إلا قليلا، واعتقد أن هذه العناية الشخصية التي أخذ يظفر بها لم تكن البتة ما أراد أبولو، ولما سأله الناس قال: «لا بد أن يكون الإله قد اتخذ من اسمي مثالا، وليس من شك في أن الكاهنة تعني أن الرجل يكون حكيما عندما يدرك جهل نفسه.»
قال سقراط: إن الكاهنة اتخذت اسمه مثالا فحسب، ومع ذلك فإنها قد استخدمت اسمه، وأحس أن هناك رسالة سيقع عليه أداؤها، وكما بحث في طفولته عن معنى «للشارة المقدسة» فسر الآن رسالة الآلهة - دون أن يفخر بذلك أو يعتقد في خرافة - على أنها نداء للعمل طائعا، وهذه الإجابة التي أتت علنا دون سؤال منه - على مسمع من المدينة بأسرها - اتخذها سقراط دليلا على أن عليه واجبا عاما، وأن الآلهة قد بعثت به ليبحث وأخطرته بأن البحث لا يكون لنفسه فقط.
وهذا الإحساس بالقربى من الآلهة الذي جاء مع كاهنة أبولو قد يفسر لنا الحدث الثاني الغريب الذي وقع في ذلك الحين.
التحق سقراط بالجيش مرة أخرى في حملة على الشمال لحصار بوتيديا، وفي هذه السنوات المتوسطة من حياته كانت هناك عدة حملات، وبدأ القواد أنفسهم يلحظون أنه كان جنديا بالغ الشجاعة، كما لحظ مرافقوه أنه لم يكترث قط ببرد أو جوع أو طول مسير، وإذا لزم غيره من الناس دورهم أو لفوا أقدامهم بالجلد والفلين فلقد ذهب بأقدام عارية وبزيه العادي لا يبالي إن كان صيفا أو شتاء، وفي هذه الحملة بالذات اتخذ مكانا له في مقدمة الجيش؛ لكي يحمي صديقا جريحا مخاطرا بحياته، والصديق هو ذلك الشاب الذي يدعى إلقبيادس الذي لعب دورا هاما جدا فيما بعد في حياة سقراط، ولكن تلك قصة أخرى، أما الأمر العجيب الذي حدث في ذلك الحين فلم تكن له صلة بالسير أو القتال أو حتى الأصدقاء، إنما حدث بين سقراط وبين عقله.
كان بالمعسكر ذات صباح في الصيف، وقد انقضى فصل الشتاء بما يتطلبه من عمل لتوفير الدفء والغذاء، وكان العدو ساكنا، ولم يكن لدى أي فرد ما يعمله - اللهم إلا إن كان مكلفا بحراسة - سوى النوم، أو التقاعد للحديث عن الوطن أو اللعب لقتل الوقت.
ولأول مرة لم يكن سقراط بين المتحدثين، وربما تساءلوا ما دهاه، غير أن أحدا منهم لم يلحظ سببا خاصا حتى قارب النهار أن ينتصف، عندئذ سرت بينهم إشاعة، وأخذ حشد من الجنود المتطلعين يتجمع حول خيمته، وكان سقراط واقفا هناك كما كان منذ الفجر بشهادة الناس، قدماه العاريتان ثابتتان في الأرض، ورداؤه مدلى على كتفه في استرخاء، وعلى وجهه القبيح نظرة ساكنة بعيدة، كأن نفسه كلها قد تركزت فيما كان يفكر فيه.
ولجأ الجند إلى مختلف الحيل لكي يجتذبوا التفاته، فجذبوا رداءه ونادوه باسمه، بيد أنه لم يتحرك أو يتنبه، وبعد فترة من الزمن ملوا انتظار شيء يحدث وتشتتت كثرتهم، وبقيت قلة طيلة العصر قابعة ترقب في انتظار سقراط أن يتنبه.
صفحه نامشخص