وقد رأى القراء فيما تقدم وسيرون فيما يلي أن سن ياتسن كان شديد الحذر من هذه القدوة الخاطئة، فإن الفدرالية كانت صلة الاتحاد بين الولايات الأمريكية المتفرقة، أما الفدرالية في الصين فهي تفريق للأمة المتحدة بين أصحاب المطامع والخوارج المتمردين.
ولم تملك حكومة الشمال أن تتجاهل نفوذ سن ياتسن بعد هذه المحاولات التي أحبطها جميعا باعتراضه عليها، واتهامه للأغراض المبيتة من ورائها، فتوسلت إليه تدعوه إلى زيارة بكين للتفاهم على قواعد الوحدة، وكانت هذه الدعوات تأتيه من قبل فيرفضها لضعف مركزه في الجنوب وخوف أنصاره في بكين من الظهور بتأييده، فاعتقد أنها فخاخ تنصب لاغتياله أو اعتقاله واسترهانه لمساومة أعوانه الجنوبيين على التسليم، فلم يستجب لتلك الدعوات واكتفى بشرح آرائه ومطالبه في المسائل المعروضة عليه.
أما هذه الدعوة فقد جاءته والقوة في جانبه والرأي العام في بكين نفسها يناصره ويشيد بذكره، وحكومة بكين مهددة مستضعفة بين المتمردين عليها والمتربصين بها من رعاياها، فاستجاب لها وأرسل قبل سفره إلى بكين طائفة من المقترحات وبيانا بالهيئات التي تدعى إلى الجمعية الوطنية لتمثيل الأمة برمتها، واشترط أن يشهد تلك الجمعية مندوبون عن الجامعات ومعاهد الصناعة وغرف التجارة ولجان الفلاحين والعمال، وسائر الطوائف من جميع الطبقات.
ثم أزمع السفر فبلغه في الطريق أن حكومة بكين رفضت مطالبه ومقترحاته، فلم يشأ أن يعود أدراجه، وواصل المسير إلى عاصمة الشمال، فوصل إليها في الحادي والثلاثين من شهر ديسمبر (سنة 1924) وأراد أن يواجه حكومتها بما يلزمها الحجة ويرد عليها دعواها التي تعودت أن ترميه بها، كلما أبى أن يقرها على سياستها.
إلا أنه لم يكد ينزل بالعاصمة حتى تراكمت عليه متاعب السفر ومتاعب المرض الذي كان يعاوده ولا يجد متسعا من الوقت لعلاجه، فانتقل إلى المستشفى وأجمع الأطباء على التعجيل بإجراء العملية الجراحية، وظنوا أنه يشكو خراجا في الكبد فظهر أنه سرطان مزمن لا أمل في شفائه ولا جدوى من علاجه، ولم تخف الحقيقة على الطبيب المريض فقضى أيامه الباقية في بيت صغير يلقى فيه أصحابه وزواره ولا يشغله عن الاستعداد للموت إلا أن يملي على خلفائه وصايا العمل من بعده، وهو يعلم وهم يعلمون أنها أيام معدودات يفارقهم بعدها الفراق الأخير. •••
مات سن ياتسن في الثاني عشر من شهر مارس (سنة 1925) وآخر كلمة في وصيته أن تنعقد الجمعية الوطنية لتوحيد الأمة وإلغاء المعاهدات الجائرة وتبادل الصداقة مع الأمم التي تعامل الصين على سنة المساواة.
الأحزاب والتلاميذ
أقسى المصائب ما يصيب الإنسان أو الشعب في كبريائه، وهو كذلك أنفعها له وأفعلها في تنبيهه لعيوبه وإيقاظه من غفلته، وقد كانت هزيمة الصين في حربها مع اليابان (سنة 1895) إحدى هذه المصائب النافعة، فأخذت تتساءل عن علة هزيمتها وعوامل القوة التي أتاحت لجارتها المحتقرة أن تنتصر عليها، فاتفقت آراء المفكرين فيها على تعليل ذلك بنظام الحكم وضرورة العمل بالأنظمة العصرية التي أخذت اليابان بنصيب منها.
وشرع الإمبراطور الناشئ في اقتباس النظم النيابية بمشورة نصحائه، وصدرت مراسيمه الأولى (سنة 1898) ببعض التعديلات الدستورية تمهيدا لاتباعها بغيرها، واستعد ولاة الأمر للسير المتدرج على هذا المنهج لولا المرأة المشئومة التي كانت تسيطر على البلاط في ذلك الحين، واسمها - لسخرية القدر - تزوهسي أي «الأمومة السعيدة»!
فهذه المرأة المشئومة تطيرت من حركة الإصلاح فأحكمت دسائسها داخل القصر وخارجه لانتزاع السلطان كله من يدي الإمبراطور الناشئ، وخيل إليها أن هذه الحركة الدستورية ألاعيب أطفال وأنها تعرف الأساليب التي تطرد بها الأوروبيين من مملكة ابن السماء ، فكان تدبيرها لفتنة الملاكمين إحدى هذه الأساليب، وشاء القدر على غير قصد منها أن تضرب العهد القديم كله بيديها، فارتدت اللكمات إلى صدرها، كما قال المستهزئون، وما أكثرهم في أيام المحن والأزمات.
صفحه نامشخص