السُّمُوُّ الرُّوحِيُّ الْأَعْظَمُ
وَالْجَمَالُ الْفَنِّيُّ فِي
الْبَلاَغَة النَّبَوِيَّة
بقلم الأديب الكبير الأستاذ
مصطفى صادق الرافعي
رفع الله قدره ورحمه
(١٨٨٠ - ١٩٣٧م)
تحقيق
وائل بن حافظ بن خلف
عفا الله عنه
بسم الله الرحمن الرحيم مقدَِّمة المحقق للطبعة الثانية رب يسر وأعن يا كريم إن الحمد لله نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. مَن يهده اللهُ فلا مضل له، ومَن يضللْ فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله. أما بعد: فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ (ﷺ)، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد: فها هي ذه الطبعة الثانية (١) من تحقيقي لكتاب "السمو الروحي الأعظم والجمال الفني في البلاغة النبوية" للأديب الأروع، والشاعر الثائر المبدع، صاحب الذوق الرقيق، والفهم الدقيق، الغواص على جواهر المعاني، الضارب على أوتار مثالثها والمثاني (٢)، مصطفى صادق الرافعي (قدس الله سره). وهذه الطبعة لا تخلو من زيادة في التحقيقات، وتقييد لفوائدَ مستحسنات، وتصويب لما وقع في الطبعة الأولى من هنات يسيرات. واللهَ أسألُ أن ينفع بها كما نفع بسابقتها، وأن يجزي المؤلف والمحقق والطابع والناشر خير الجزاء. إن ربي لسميع الدعاء. وكتب وائل بنُ حافظ بنِ خلف غفر الله له ولوالديه، وأحسن إليهما وإليه _________ (١) صدرت الطبعة الأولى بمعرفة "دار البشير" للثقافة والعلوم بالقاهرة مذ سنة تقريبًا. قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ترقيم الصفحات موافق للطبعة الأولى (ط دار البشير)، لكن نص هذه النسخة الإلكترونية هو للطبعة الثانية أهداها المحقق - بارك الله فيه - للشاملة (٢) وصفه بذلك الإمامُ العلامة، الحبر الفهامة محمد رشيد رضا (منشئ مجلة المنار) ﵀ في عرضه لكتاب "إعجاز القرآن" للرافعي [(ص١٧) ط/ دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان].
بسم الله الرحمن الرحيم مقدَِّمة المحقق للطبعة الثانية رب يسر وأعن يا كريم إن الحمد لله نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. مَن يهده اللهُ فلا مضل له، ومَن يضللْ فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله. أما بعد: فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ (ﷺ)، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد: فها هي ذه الطبعة الثانية (١) من تحقيقي لكتاب "السمو الروحي الأعظم والجمال الفني في البلاغة النبوية" للأديب الأروع، والشاعر الثائر المبدع، صاحب الذوق الرقيق، والفهم الدقيق، الغواص على جواهر المعاني، الضارب على أوتار مثالثها والمثاني (٢)، مصطفى صادق الرافعي (قدس الله سره). وهذه الطبعة لا تخلو من زيادة في التحقيقات، وتقييد لفوائدَ مستحسنات، وتصويب لما وقع في الطبعة الأولى من هنات يسيرات. واللهَ أسألُ أن ينفع بها كما نفع بسابقتها، وأن يجزي المؤلف والمحقق والطابع والناشر خير الجزاء. إن ربي لسميع الدعاء. وكتب وائل بنُ حافظ بنِ خلف غفر الله له ولوالديه، وأحسن إليهما وإليه _________ (١) صدرت الطبعة الأولى بمعرفة "دار البشير" للثقافة والعلوم بالقاهرة مذ سنة تقريبًا. قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ترقيم الصفحات موافق للطبعة الأولى (ط دار البشير)، لكن نص هذه النسخة الإلكترونية هو للطبعة الثانية أهداها المحقق - بارك الله فيه - للشاملة (٢) وصفه بذلك الإمامُ العلامة، الحبر الفهامة محمد رشيد رضا (منشئ مجلة المنار) ﵀ في عرضه لكتاب "إعجاز القرآن" للرافعي [(ص١٧) ط/ دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان].
صفحه نامشخص
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدَِّمة المحقق للطبعة الأولى
الحمد لله وكفى، «والصلاة والسلام على مَن مَدَّتْ عليه الفصاحةُ رِوَاقها، وشَدَّت به البلاغة نطاقها، المبعوث بالآيات الباهرة والحجج، المنزَّل عليه قرآنٌ عربي غير ذي عوج» (١)، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
فهذا بحث بديع سطره الأديب الأريب الحُذاقيّ اللوذعيّ، واللَّسِن المِصْقَع الحصيف الألمعيّ، والفصيح البارع الحِبْل البَلْتَعيّ ... أبي السامي مصطفى صادق الرافعيّ، رحمة الله عليه.
بدا لنا أن نعيدَ بهاءَهُ، ونجددَ رُواءَهُ؛ ففعلنا وحققناهُ.
_________
(١) اقتباس من كلام العلامة جمال الدين ابن هشام [المتوفى سنة ٧٦١هـ] (أثابه الله، وبل بالرحمة ثراه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه) في فاتحة شرحه لكتاب "قطر الندى وبل الصدى".
1 / 5
وهو خليق بأن يصل ليد كل عربي قارئ، ومَقْمَنَةٌ لأن يُتلى على كل أمي عابئ.
وحسبك دلالة على أهميته ونفاسته أن تعرف الجهدَ المبذولَ فيه من رجل مثل الرافعي (قدس الله روحه ونور ضريحه).
قال الأستاذ محمد سعيد العريان ﵀ في كتابه "حياة الرافعي" [ص٢١٥ - ٢١٦ - ط/ المكتبة التجارية الكبرى - الطبعة الثالثة (١٣٧٥هـ - ١٩٥٥م)]:
«أنشأ الرافعي هذا البحث إجابة لدعوة جمعية الهداية الإسلامية بالعراق؛ لتنشره في ذكرى المولد النبوي (١).
وقد لقي من العناء في إنشاء هذا الفصل ما لا أحسب غيره يقوى عليه.
وحسبك أن تعلم أن الرافعي لم يتهيأ لكتابة هذا
_________
(١) سنة ١٣٥٢ هـ.
1 / 6
الفصل حتى قرأ "صحيح البخاري" كله قراءة دارس، وأنفق في ذلك بضعة عشر يومًا، وهو وقت قليل لا يتسع للقارئ العجل أن يقرأ فيه "صحيح البخاري" قراءة تلاوة؛ فكيف به دارسًا متمهلًا يقرأ ليتذوق بلاغة الأسلوب ودقة المعنى؟
ولكن ذلك ليس عجيبًا من الرافعي الذي كان يقرأ كل يوم ثماني ساعات متوالية لا يمل، فلا ينهض عن كرسيه حتى يَوْجَعَهُ قَلْبُهُ!
وكتب الفصل بعد ذلك في ثلاثة أيام، ثم دفعه إليَّ لأكتبه بخطي ولم يمله عليَّ، فأنفقت في كتابته ثلاثة أيام أخرى» ا. هـ.
ولعمري ما إخال الكلمات - مهما كثرت ومهما كان شأن قائلها بلاغة ومقامًا - في الثناء على الرافعي تفي بمعشار حقه وقدره، وَقِدْمًا كان يقال: «إنما يعرف
1 / 7
الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل» (١).
والرافعي - بحق - سابق حلبة المقالة الأدبية، والصدر المُقَدَّم لمنشئي عصرنا وإن رغمت أنوف شُمَّخ - تُؤْبَن بالحيف - تريد أن تزحزحه عن الساحة لغرض أو لآخر!
وما قلناه واقع ما له من دافع، وحقيقة حينما أتذكرها تخطر بِخَلَدي عبارةُ الغزاليِّ الخالدة:
«لا أعرف مظلومًا تواطأ الناس على هضمه، ولا زهدوا في إنصافه، كالحقيقة»!.
ألا ليت شعري بأي وجه من دين أو خلق يستجيز منصف متجرد عن الهوى تقديمَ "عُوير"، أو "كُسير"، أو ثالثٍ " دِفْنَاس ما فيه خير"، أو رابعٍ "هِلْبَوث فَدْم"، أو خامس "فَقْفَاقَة رَذْل"، أو سادس "بين يديْ عَدْل" (٢) ...؟!!
_________
(١) يُروى هذا الكلام مرفوعًا إلى النبي (ﷺ) ولا يصح من قول الرسول. راجع - إن شئت غير مأمور - "فيض القدير شرح الجامع الصغير" للعلامة المناوي شرح الحديث رَقْم (٢٦١٣) [(ج٣ص١٢) ط/ مكتبة مصر]، و"سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة" لمحدث الشام العلامة محمد ناصر الدين الألباني، الحديث (٣٢٢٧).
(٢) يُقال: فلان بين يديْ عدل: أي: هالك قد يُئِسَ منه، وهذه العبارة قد يستخدمها بعض علماء الجرح والتعديل من المحدثين في الراوي يكون ضعيفَ الحديث غيرَ ضابطٍ له ولا ثقة فيه، ويظن كثيرٌ من المبتدئين في هذا العلم الشريف أنها عبارة تعديل لا تجريح، ولا كذلك. قال العلامة ابن منظور ﵀ في "لسان العرب" [(ج٦ص١٢٧) ط/ دار الحديث بالقاهرة] تبعًا للجوهري في "الصحاح" [(ص٧٤٣) ط/ دار الحديث] نقلًا عن ابن السكيت: «وقولهم للشيء إذا يُئِسَ منه: "وُضِعَ على يَدَيْ عَدْل": هو العَدْلُ بنُ جَزْء بنِ سعدِ العشيرة، وكان وَلِيَ شُرَطَ تُبَّعٍ، فكان تُبَّعٌ إذا أراد قتلَ رجلٍ دفعه إليه، فقال الناس: وُضِعَ على يَدَيْ عدل، ثم قيل ذلك لكل شيء يُئِسَ منه» انتهى. وهذه فائدة نفيسة، طالما غفل عنها كثيرون، فخذها شاكرًا الله (تعالى)، وكن منها على ذُِكر.
1 / 8
ولكن هكذا الظِّلِّيم المأفون لا يفتأ يأتي بالفواقر والبَهَالِق، والطامات والبوائق .. يخطئ ويزل، «ويعثر عثرات يَدْمَى منها الأظَلّ، ويدحض دَحْضَات تخرجه إلى سبيل مَن ضل» (١) ... تراه يصرخ في لِدَاته وأترابه، ويرفع عقيرته بين أتباعه وطلابه: لِيبلغ الشاهد منكم الغائب، وَلْيوصِ السابق منكم اللاحق: لَمَا علمتم من أديب يزعم أن الأدب هو: «السُّمُو بضمير الأمة» (٢)، وأن الأديب هو: «مَن كان لأمته وَلِلُغتها في مواهب قلمه لقبٌ مِن ألقاب التاريخ» (٣)؛ لتجهزن عليه ولا تتركونه! ولتكونن عونًا لمن ناوأه وإن كان في الأدب
_________
(١) ما بين القوسين مقتبس من كلام للسهيلي ﵀ في تعقب له على ابن سيده، وقد نقله العلامة ابن منظور في "لسان العرب" (ج١ص٣٣٤).
(٢) من كلام الرافعي في مقال له بعنوان: "الأدب والأديب". وهو منشور في الجزء الثالث من "وحي القلم".
(٣) من كلام الرافعي في مقال له بعنوان: "الأدب والأديب". وهو منشور في الجزء الثالث من "وحي القلم".
1 / 9
من جنس المنخنقة، والموقوذة، والمتردية والنطيحة! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم!!.
وتلك شِنْشِنَة نعرفها مِن أَخْزَمَ، وصدق مَن قال: «لن ترضى شَانِئَةٌ إلا بِجَرْزَةٍ» (١)!!
وَأَجْمِلْ بقول أبي الطيب المتنبي:
يُؤْذِي القَلِيلُ مِنَ اللِّئَامِ بِطَبْعِهِ ... مَنْ لا يَقِلُّ كَمَا يَقِلُّ وَيَلْؤمُ
الظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوسِ فَإِنْ تَجِدْ ... ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظْلِمُ
وَمِنَ البَلِيَّةِ عَذْلُ مَنْ لا يَرْعَوِي ... عَن جَهِلِهِ وَخِطَابُ مَنْ لا يَفْهَمُ
فدع عنك الأغماز والطَّغام، والدخلاء والأغتام، والمَوْقَى والهُوج، والرُِّعاع والهَمَج ... واحفظ جيدًا:
_________
(١) قال الإمام ابن فارس ﵀ في "مقاييس اللغة" (ص١٦١): «العرب تقول في أمثالها: «لن ترضى شانِئَةٌ إلا بجرزة» أي: إنها من شدة بَغضائها وحسدها لا ترضى للذين تُبغضهم إلا بالاستئصال» ا. هـ.
1 / 10
«إن لم يكن البحر فلا تنتظر اللؤلؤ، وإن لم يكن النجم فلا تنتظر الشعاع، وإن لم تكن شجرة الورد فلا تنتظر الورد، وإن لم يكن الكاتب البياني فلا تنتظر الأدب» (١). والسلام.
وخطه بيمينه
أبو عبد الرحمن البحيري
وائل بنُ حافظ بنِ خلف
غفر الله له ولوالديه، وأحسن إليهما وإليه
كفر الدوار - البحيرة - جمهورية مصر العربية
مساء الأربعاء: ١٤جُمادى الأولى ١٤٣١هـ
٢٨/ ٤/٢٠١٠ م.
*****
_________
(١) من كلام الرافعي في تصديره لمعلمته النفيسة "وحي القلم".
1 / 11
وصف البلاغة المحمدية
قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ [المتوفى سنة ٢٥٥ هـ] في كتابه "البيان والتبيين" (١) واصفًا كلامَ رسولِ اللهِ ﷺ الذي لا يوازى فصاحة، ولا يبارى بلاغة:
«هو الذي قَلَّ عددُ حروفه، وكثر عدد معانيه، وجلّ عن الصنعة، ونزه عن التكلف، وكان كما قال اللهُ ﵎: قل يا محمد!: ﴿وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ﴾ [ص:٨٦].
فكيف وقد عاب التشديق، وجانب أهل التقعير، واستعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في
_________
(١) (ج٢/ص٨ - ٩) ط/ دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان. ذلك، ولنا دراسة خاصة حول الجاحظ وكتابه هذا، كان الباعث على جمعها مناقشة جرت بيني وبين أحد الدكاترة الأفاضل في شأنه. وستنشر قريبًا بإذن الله.
1 / 12
موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي. فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُفَّ بالعصمة، وشُيّد بالتأييد، ويسر بالتوفيق.
وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة، وغشّاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام. ومع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يَبُذُّ الخطبَ الطوالَ بالكلم القصار، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفَلَج إلا بالحق، ولا يستعين بالخِلابة، ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز، ولا يلمز، ولا يبطئ، ولا يعجل، ولا يسهب، ولا يَحْصَر.
1 / 13
ثم لم يسمع الناس بكلام قَطُّ أعم نفعًا، ولا أصدق لفظًا، ولا أعدل وزنًا، ولا أجمل مذهبًا، ولا أكرم مطلبًا، ولا أحسن موقعًا، ولا أسهل مخرجًا، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين عن فحواه؛ من كلامه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم كثيرًا ...
قال محمد بن سلام: قال يونس بن حبيب: «ما جاءنا عن أحد مِن روائع الكلام، ما جاءنا عن رسول الله ﷺ»
ولعل بعض مَن لم يتسع في العلم، ولم يعرف مقادير الكلام، يظن أنا تكلفنا له من الامتداح والتشريف، ومن التزيين والتجويد ما ليس عنده، ولا يبلغه قدره!
كلا والذي حرم التزيد على العلماء، وقَبَّح التكلف عند الحكماء، وبهرج الكذابين عند الفقهاء! لا يظن هذا إلا مَن ضل سعيُه ا. هـ
[وقال القاضي عياض المالكي ﵀ في كتابه الماتع "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" (١/ ٥٦ - ٥٧):
«وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول: فقد كان ﷺ من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل؛ سلاسة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معانٍ، وقلة تكلف.
أُوتي جوامع الكلم، وخُص ببدائع الحِكَم، وعلم ألسنة العرب. يخاطب كل أمة منها بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويباريها في منزع بلاغتها، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه وتفسير قوله.
ومَن تأمل حديثه وسبره علم ذلك وتحققه» ا. هـ] (*)
_________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليست في المطبوع، فهو مما زاده المحقق في الطبعة الثانية
1 / 14
السُّمُوُّ الرُّوحِيُّ الْأَعْظَمُ وَالْجَمَالُ الْفَنِّيُّ فِي الْبَلاَغَةِ النَّبَوِيَّةِ
«أنا لا أعبأ بالمظاهر والأغراض التي يأتي بها يوم وينسخها يوم آخر. والقِبلة التي أتجه إليها في الأدب إنما هي النفس الشرقية في دينها وفضائلها. فلا أكتب إلا ما يبعثها حية، ويزيد في حياتها وسمو غايتها، ويمكِّن لفضائلها وخصائصها في الحياة؛ ولذا لا أمس من الآداب كلها إلا نواحيها العليا؛ ثم إنه يُخيل إليَّ دائمًا أني رسول لغوي بُعثت للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه ...»
(مصطفى صادق الرافعي)
تحقيق
وائل بن حافظ بن خلف
عفا الله عنه
1 / 15
بسم الله الرحمن الرحيم
لما أردت أن أكتب هذا الفصل (١) وهممت به، عرضت لي مسألة نظرت فيها أطلب جوابها، ثم قدرت أن يكون أبلغ فلاسفة البيان في أوربا لعهدنا هذا رجلًا يحسن العربية المبينة، وقد بلغ فيها مبلغ أئمتها علمًا وذوقًا، ودرَس تاريخ النبي ﷺ دَرْس الروح لأعمال الروح، وتفقه في شريعته فقْه الحكمة لأسرار الحكمة، واستوعب أحاديثه واعتبرها بفن النقد البياني الذي يبحث في خصائص الكلام عن خصائص النفس؛ وتمثلت أني لقيت هذا الرجل فسألته: ما هو الجمال الفني عندك في بلاغة محمد ﷺ؟
_________
(١) بسطنا الكلام في كتابنا "إعجاز القرآن" عن بلاغة النبي ﷺ من وجوه كثيرة، وبقي هذا المعنى الذي تراه، فهذه المقالة كالتكملة على ما هناك. (الرافعي).
1 / 16
وماذا تستخرج لك فلسفة البيان منه؟ وما سره الذي يجتمع فيه؟
ولم يكد يَخْطِر لي ذلك حتى انكشف الخاطر عن وجهٍ آخرَ، وذلك أن يكون معنى هذا السؤال بعينه قد وقع في شيء من حديث النفس لأبلغ أولئك العرب الذين رأوا النبي ﷺ، وآمنوا به، واتبعوا النور الذي أنزل معه، وقد صحبه فطالت صحبته، لا يفوته من كلامه في الملأ شيء، وخالطه حتى كان له في الإحاطة بأحوال نفسه كبعض التاريخ، فتدبر ما عسى أن يكون سر الجمال في بلاغته ﷺ، وما مرجعه الذي يرد إليه؟
لو دار السؤال دورتيه في هذه السليقة العربية المحكمة التي رجعت أن تكون فلسفة تشعر وتحس، وفي تلك الفلسفة البيانية الملهمة التي بلغت أن تكون سليقة تدرس وتفكر لما خلص من كلتيهما إلا برأي
1 / 17
واحد تلتقي عليه حقيقة البيان من طرفيها، وهو: أن ذلك الجمال الفني في بلاغته ﷺ إنما هو أثرٌ على الكلام من رُوحه النبوية الجديدة على الدنيا وتاريخها.
وبعد:
فأنا في هذه الصفحات لا أصنع شيئًا غيرَ تفصيلِ هذا الجوابِ وَشَرْحِهِ، باستخراجِ معانيه، واستنباطِ أدلته، والكشفِ عن أسراره وحقائقه؛ ولقد درست كلامَهُ ﷺ، وقضيت في ذلك أيامًا أتتبع السر الذي وقع في التاريخ القفر المجدب فَأَخْصَبَ به، وَأَنْبَتَ للدنيا أزهاره الإنسانية الجميلة، فكانوا ناسًا إِنْ عِبْتَهُمْ بشيء لم تَعِبْهُم إلا أنهم دون الملائكة؛ وكانوا ناسًا، دارت الكرة الأرضية في عدهم ثلاث دورات: واحدة حول الشمس، وثانية حول نفسها، وثالثة حول أصحاب النبي ﷺ.
1 / 18
ثم تركت الكلام النبوي يتكلم في نفسي ويُلهمني ما أُفصح به عنه، فلكأني به يقول في صفة نفسه: إني أصنع أمة لها تاريخُ الأرضِ مِن بعدُ، فأنا أقبل من هنا وهناك، وأذهب هناك وهنا، مع القلوب والأنفس والحقائق، لا مع الكلام والناس والوقت.
إن ههنا دنيا الصحراء ستلد الدنيا المتحضرةَ التي من ذريتها أوربا وأمريكا؛ فالقرآن والحديث يعملان في حياة أهل الأرض بنورٍ مُتَمِّمٍ لما يعمله نورُ الشمسِ والقمرِ.
وقد كان المسلمون يَغزون الدنيا بأسلحة هي في ظاهرها أسلحةُ المقاتلين، ولكنها في معانيها أسلحة الأطباء؛ وكانوا يحملون الكتاب والسنة، ثم مَضَوْا إلى سبيلهم وبَقِي الكلامُ من بعدهم غازيًا محاربًا في العالم كُلِّهِ حربَ تغيير وتحويل إلى أن يدخل الإسلام على ما
1 / 19
دخل عليه الليل (١).
_________
(١) في الحديث الشريف: «ليدخلن هذا الدين على ما دخل عليه الليل». وكأن العبارة نص على أن الإسلام يعم حين تظلم الدنيا ظلامها الشعري ... إذا طمست الإنسانية بلذاتها، وأظلمت آفاقها الروحانية؛ فيجيء الإسلام في قوة أخلاقه كشباب الفجر، يبعث حياة النور الإنساني بعثًا جديدًا؛ وهذا هو رأينا في مستقبل الإسلام: لا بد من انحلال أوربا وأمريكا، كما يصفر النهار، ثم يختلط، ثم يظلم، ثم تطلب الطبيعة نورها الحي من بعد. (الرافعي). وأقول: عن تميم الداري ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل. عزًّا يعز الله به الإسلام، وذلًا يذل الله به الكفر». وكان تميم الداري ﵁ يقول: «قد عرفت ذلك في أهل بيتي؛ لقد أصاب مَن أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافرًا الذل والصغار والجزية». هذا حديث صحيح: أخرجه الإمامُ أحمدُ بنُ حنبل ﵀ في "المسند" (٤/ ١٠٣)، والإمام أبو القاسمِ الطبرانيُّ في "المعجم الكبير" كما في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (٦/ ١٤)، وقال راقمه ﵀: «رجالُ أحمدَ رجالُ الصحيحِ»، والإمام الحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (٤/ ٤٣٠ - ٤٣١) (٨٣٢٦)، وقال: «صحيح على شرط الشيخين»، ووافقه الإمام الذهبي في "تلخيص المستدرك"، وتعقبهما الشيخ الألباني - في "تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد" حاشية (ص١١٨ - ١١٩) - بأنه على شرط مسلم فقط. وزاد عزوه إلى ابن بشران في "الأمالي" (٦٠/ ١)، وابن منده في كتاب "الإيمان" (١/ ١٠٢)، والحافظ عبد الغني المقدسي في "ذكر الإسلام" (١/ ١٦٦)، وقال هذا: «حديث حسن صحيح». قال الألباني: «وله شاهد عند الحاكم (٤/ ٤٣٠) (٨٣٢٤)، وعند ابن منده من حديث المقداد بن الأسود ﵁، وهو على شرط مسلم» ا. هـ. قلت: وهو أيضًا عند الطبراني في "الكبير" (٢٠/ ٦٠١)، وصححه ابن حبان (٦٦٩٩، ٦٧٠١ - إحسان) (١٦٣١، ١٦٣٢ - موارد الظمآن)، وقال الحافظ نور الدين الهيثمي ﵀ في "المجمع" (٦/ ١٤): «رجال الطبراني رجال الصحيح».
1 / 20
هذا منطلق الحديث في نفسي. وقد كنت أقرؤه وأنا أتمثله مُرْسَلًا بتلك الفصاحة العالية من فم النبي ﷺ حيث يَمُرُّ إعجاز الوحي أولَ ما يخرج به الصوتُ البشري إلى العالم، فلا أرى ثَمَّ إلا أن شيئًا إلهيًا عظيمًا متصلًا بروح الكون كله اتصالَ بعض السر ببعض السر، يتكلم بكلام إنساني هو هذا الحديث الذي يجيء في كلمات قوية رائعة، فنها في بلاغتها كالشباب الدائم.
1 / 21
كنت أتأمله قطعًا من البيان، فأراه ينقلني إلى مثل الحالة التي أتأمل فيها روضة تتنفس على القلب، أو منظرًا يَهُز جمالُه النفسَ، أو عاطفة تَزيد بها الحياة في الدم، على هدوء ورَوْح وإحساس ولذة؛ ثم يزيد على ذلك أنه يصلح من الجهات الإنسانية في نفسي، ثم يرزق الله منه رزق النور فإذا أنا في ذوق البيان كأنما أرى المتكلم ﷺ وراء كلامه.
وأعجب من ذلك أني كثيرًا ما أقف عند الحديث الدقيق أتعرف أسراره، فإذا هو يشرح لي ويهديني بهديه؛ ثم أُحِسُّه كأنما يقول لي ما يقول المعلم لتلميذه: «أفهمت؟».
وقفت عند قوله ﷺ: «إِنَّ قومًا ركبوا في سفينة، فاقتسموا، فصار لكل رجل منهم موضع، فنقر رجلٌ منهم موضعه بفأس، فقالوا له: ما تصنع؟ قال: هو مكاني أصنع فيه ما شئت! فإن أخذوا على يده نجا
1 / 22
وَنَجَوْا، وإن تركوه هلك وهلكوا» (١).
_________
(١) روى البخاريُّ هذا الحديثَ على وجهٍ آخرَ، وفيه زيادةٌ من الجمال الفني؛ قال: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا! فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا». فهذا تمثيل لحالة طائفة في "الأسفل" تعمل لرحمة من هم في "الأعلى": عاطفة شريفة ولكنها سافلة، وحمية ملتهبة ولكنها باردة، ورحمة خالصة ولكنها مهلكة؛ ولن تجد كهذا التمثيل في تصوير البلاغة الاجتماعية والغفلة الفلسفية لأناس هم عند أنفسهم أمثلة الجِد والعمل والحكمة، فكأن النبي ﷺ يقول لهؤلاء من ألف وثلاثمائة سنة: أنتم المصلحون إصلاحًا مخروقًا!. (الرافعي). وأقول: الحديث أخرجه الإمام البخاري ﵀ في موضعين من "صحيحه": الأول باللفظ المزبور أعلاه: في [كتاب الشركة - باب هل يُقْرَع في القسمة؟ والاستهمامِ فيه] حديث رَقْم (٢٤٩٣)، ثم رواه في [كتاب الشهادات - باب القرعة في المُشْكِلات] حديث رقم (٢٦٨٦). والحديث أخرجه أيضًا الإمام أحمد في "المسند" (٤/ ٢٦٨، ٢٧٠)، والإمام أبو عيسى الترمذي في "جامعه" [كتاب الفتن] حديث رقم (٢١٧٣)، وقال: «حديث حسن صحيح»، والإمام البيهقي في "السنن الكبير" [كتاب العتق - باب إثبات استعمال القرعة] (ج١٠ص٢٨٨).
1 / 23