ووجد في ذلك كله مزاحا يخفف من حدة مشاعره المتوترة، ورغم تجهم اليوم، ذهبا لزيارة عنايات هانم في السكاكيني، فتناولا عندها الغداء، ثم غادرا البيت قبيل المغرب، ووقفا في الميدان يتصيدان تاكسي عندما انطلقت زمارة الإنذار، وشدت بيدها على ذراعه وهمست بصوت متهدج: لنرجع.
عادا إلى العمارة، وهما يرقيان السلم انطلق مدفع مضاد فارتعدت، كما دق قلبه بعنف، واجتمعوا في حجرة مغلقة الشيش، وراحت عنايات هانم تقول محتجة: ضاع العمر من حرب لحرب لحرب، صفارات إنذار وقنابل مدافع وقنابل طيارات، ألا يحسن أن نبحث لنا عن مأوى غير هذه الأرض؟!
ولبثوا في الظلام بحلوق جافة، ودوت أربعة مدافع متباعدة، وعادت الأم تقول: سيدخل هذا الجيل الجنة بغير حساب!
وساءل عيسى نفسه في حيرة حقيقية: كيف تجرأ اليهود على مهاجمة مصر بعد أن صنعت لنفسها جيشا قويا بكل معنى الكلمة؟!
23
وهرع إلى البوديجا مساء اليوم التالي ممتلئ الرأس بأخبار الصحف المطمئنة والمشجعة، وتقاربت رءوسهم حول مائدة على الطوار في جو بديع حقا، تلاصقت أنفسهم بفعل قوة حارة عميقة يؤرقها الشعور بالخطر والأمل، وجعل إبراهيم خيرت يشب بقامته القصيرة وهو يتساءل في انفعال: أتحسبون أن إسرائيل تقدم على هذه الخطوة وحدها؟
وتبادلوا نظرات غريبة، نطقت فيها بواطنهم كأنما تذهلهم سكرة، فعاد إبراهيم خيرت يقول: وراء إسرائيل تلبد فرنسا وإنجلترا وأمريكا!
وتساءل عيسى في جزع كيف يحدد موقفه وسط هذه العواصف من الأفكار والعواطف؟!
وقال سمير عبد الباقي: يبدو أن جيشنا سيقضي عليها قبل أن يعلن حلفاؤها عن أنفسهم.
ندت ضحكات ساخرة، وكان المساء يهبط بالهدوء والخفاء، وأخفض إبراهيم خيرت من صوته وهو يقول: الآن وضح الأمر في النهاية!
صفحه نامشخص