شمل كمال إحساس بالسعادة لهذه «الصداقة الجديدة»، كان يشعر بأن جانبا ساميا من قلبه استيقظ بعد سبات عميق، فاقتنع أكثر من قبل بخطورة الدور الذي تلعبه الصداقة في حياته، وبأنها عنصر حيوي لا غنى له عنه، أو يظل كالظامئ المحترق في صحراء ..
16
افترق الصديقان الجديدان عند العتبة، فعاد كمال من الموسكي والساعة تدور في الثامنة مساء، يتنفس جوا خانقا شديد الحرارة. وتمهل عند عطفة الجوهري ثم مال إليها، ومرق من ثالث باب على يسار الداخل. ورقي في الدرج حتى الدور الثاني، ثم دق الجرس، ففتحت الشراعة عن وجه امرأة قد جاوزت الستين، حيته بابتسامة كشفت عن أسنان ذهبية، وفتحت الباب فدخل صامتا، أما المرأة فقالت ترحب به: أهلا بابن الحبيب، أهلا بابن أخي ..
وتبعها إلى صالة تتوسط حجرات، فيها كنبتان متقابلتان بينهما سجادة قصيرة مزركشة وخوان ونارجيلة، وشذا بخور في الأركان. كانت المرأة بدينة، هشة من كبر، عاصبة الرأس بمنديل منمنم بترتر. مكحولة العينين تلوح فيهما نظرة ثقيلة تشي بوطأة الكيف، وفي تضاعيف وجهها آثار جمال دابر واستهتار مقيم. تربعت على الكنبة أمام النارجيلة، وأومأت إليه ليجلس إلى جانبها، فجلس وهو يسأل باسما: كيف حال الست جليلة؟
فهتفت محتجة: قل عمتي ..! - كيف حالك يا عمتي؟ - الحال معدن يا ابن عبد الجواد، .. (ثم بصوت مرتفع أجش): بنت يا نظلة ..
وبعد دقائق جاءت الخادم بكأسين مترعتين ووضعتهما على الخوان، فقالت جليلة: اشرب، طالما قلتها لأبيك في الأيام الحلوة الماضية ..
فتناول كمال الكأس، وهو يقول ضاحكا: من المؤسف حقا أني جئت بعد فوات الأوان ..
وهي تلكمه لكمة وسوست لها الأساور الذهبية التي تغطي ساعديها: يا عيب الشوم، أكنت تريد أن تعيث فسادا حيث سجد أبوك؟! ثم مستدركة: ولكن أين أنت من أبيك؟ كان متزوجا للمرة الثانية حين عرفته، تزوج مبكرا على عادة أهل زمان، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يرافقني زمنا كان أحلى الحياة، ثم رافق زبيدة ربنا يأخذ بيدها. ثم عشرات غيرنا، سامحه الله، أما أنت فلا تزال أعزب، ولا تزور بيتي مع ذلك إلا كل ليلة جمعة، يا عيب الشوم، أين الرجولة أين؟!
أبوه الذي عرفه عن لسانها غير أبيه الذي عرفه بنفسه، بل غير أبيه الذي حدثه عنه ياسين، رجل الغريزة، والحياة العارمة، لم تشغل هموم الفكر قلبه، فأين هو منه؟! حتى ليلة الجمعة التي يزور فيها هذا البيت لا يصفو له «الحب» فيها إلا بالخمر. فلولا السكر لبدا له الجو متجهما باعثا على الانهزام، وأول ليلة رمت به المقادير إلى هذا البيت ليلة لا تنسى؛ رأى المرأة لأول مرة فدعته إلى مجالستها ريثما تفرغ له فتاة، ولما جره الحديث إلى ذكر اسمه بالكامل هتفت المرأة: أأنت ابن السيد أحمد عبد الجواد التاجر بالنحاسين؟ نعم، أتعرفين أبي؟ يا ألف أهلا وسهلا .. أتعرفين أبي! .. أعرفه أكثر مما تعرفه أنت .. مازج عرقه عرقي .. وزففت له أختك .. كنت في أيامي كأم كلثوم في أيامك الكالحة .. سل عني طوب الأرض .. تشرفنا يا ستي .. اختر من بناتي من تعجبك وليس بين الخيرين حساب. هكذا فسق أول مرة في هذا البيت على حساب والده. وجعلت تنظر إلى وجهه طويلا حتى انقبض قلبه، ولولا الأدب لأعلنت دهشتها، إذن أين هذا الرأس الغريب وذلك الأنف العجيب من الوجه البدري المورد؟ ثم طال الحديث كل مطال، فعرف عنها تاريخ أبيه السري، ميزاته وجلائل أعماله ومغامراته وخفي صفاته، «وأنا من شدة الحيرة متردد أبدا بين وهج الغريزة ونسمة التصوف!»
قال كمال يجيبها: لا تبالغي يا عمتي، أنا مدرس والمدرس يحب الستر، ولا تنسي أني في العطلة أزورك كل أسبوع مرات لا مرة، ألم أكن عندك أول أمس؟ إني أزورك كلما .. «كلما لجت بي الحيرة، إن الحيرة تدفعني إليك قبل الشهوة» - كلما ماذا يا سيد نينة؟ - كلما فرغت من العمل .. - قل غير هذا الكلام .. أف من زمانكم أف، كانت فلوسنا من الذهب وفلوسكم من الحديد والنحاس، وطربنا كان من لحم ودم وطربكم راديو، وكان رجالنا من صلب آدم ورجالكم من صلب حواء، عندك كلام يا خوجة البنات؟
صفحه نامشخص