فقال إبراهيم ضاحكا: مثل أبيه!
فالتفتت نحوه غاضبة وقالت: أنت جاحد كجنس الرجال!
فقال الرجل بهدوء: بل نحن صابرون ولنا الجنة ..
فصاحت به: إذا كنت ستدخلها فبفضلي .. أنا التي علمتك دينك! •••
غادر كمال وأحمد السكرية معا. وكان يقف من مشروع هذا الزواج موقف الشك والتردد. إنه لا يمكن أن يتهم نفسه بالمحافظة على التقاليد السخيفة، أو بالفتور حيال مبادئ المساواة والإنسانية، ومع ذلك فالواقع الاجتماعي الذي لا يد له في بشاعته حقيقة واقعة لا يجوز أن يتجاهلها إنسان، وقديما ولع عهدا بقمر بنت أبي سريع صاحب المقلى، فكادت - رغم جاذبيتها - تحدث له عقدة برائحة جسدها المحزنة. غير أنه كان رغم هذا معجبا بالشاب، غابطا له شجاعته وقوة إرادته وغيرهما من المزايا التي حرم هو منها وعلى رأسها الإيمان والعمل والزواج، كأنما قد بعث في الأسرة كفارة عن جموده وسلبيته. ما الذي يجعل للزواج هذه الخطورة في نظره بينا هو في نظر الآخرين لا يزيد عن السلام عليكم .. وعليكم السلام؟! - إلى أين يا فتى؟ - المجلة يا خالي، وأنت؟ - مجلة الفكر لأقابل رياض قلدس، ألا تفكر قليلا قبل أن تخطو هذه الخطوة؟ - أي خطوة يا خالي! لقد تزوجت بالفعل! - حقا؟ - حقا، وسوف أقيم في الدور الأول من بيتنا نظرا لأزمة المساكن .. - يا له من تحد سافر! - نعم، ولكنها لن توجد في البيت إلا حين تكون أمي قد نامت ..
وبعد أن أفاق من وقع الخبر سأله باسما: وهل تزوجت على سنة الله ورسوله؟
فضحك أحمد أيضا وقال: طبعا، الزواج والدفن على سنن ديننا القديم، أما الحياة فعلى دين ماركس!
ثم وهو يودعه: خالي، ستعجبك جدا، سترى وتحكم بنفسك، إنها شخصية ممتازة بكل معنى الكلمة ..
45
يا لها من حيرة، كأنها مرض مزمن، فكل أمر يبدو ذا وجوه متعددة متساوية يتعذر فيها الاختيار، تستوي في ذلك المسألة الميتافيزيقية والتجربة البسيطة من الحياة اليومية، فإزاء كل تعترض الحيرة والتردد. أيتزوج أم لا؟ كان ينبغي أن يقطع برأي لكنه يدور حول نفسه حتى يصيبه الدوار ويختل منه ميزان الروح والعقل والحواس ثم تنجلي الدوامة عن موقف لم يتغير وسؤال لم يظفر بالجواب بعد وهو: أيتزوج أم لا. قد يضيق أحيانا بحريته فيثقل عليه الشعور بالوحدة أو يضجر من معاشرة الأشباح الفكرية الخاوية فيحن إلى الأليف وتئن في محبسه غرائز الأسرة والحب تروم متنفسا، ثم يتخيل نفسه زوجا قد برأ من التركيز في ذاته وتبددت أوهامه لكنه فني في الوقت نفسه في الأبناء واستغرقه الرزق ومطالبه فتراكمت عليه مشاغل الحياة اليومية، فينزعج أيما انزعاج ويقرر الاستمساك بانطلاقة مهما تجشم من وحشة وعذاب، بيد أنه لا ينعم بالاستقرار طويلا فلا يلبث أن يعود إلى التساؤل مرة أخرى، وهكذا وهكذا، فأين المقر؟ وبدور فتاة ممتازة حقا، لا يعيبها اليوم أن تركب الترام ما دامت قد ولدت وشبت في جنة الملائكة التي شغفت قلبه قديما؛ فهي كالشهاب الساقط، وهي فتاة ممتازة حقا في حسنها وخلقها وثقافتها، ثم إنها ليست عسيرة المنال فهي الزوجة الواعدة بكل معنى الكلمة إذا أراد أن يتقدم، وما عليه إلا أن يتقدم، وإلى هذا كله فهو لا يسعه إلا أن يسلم باحتلالها مركز الاهتمام من وعيه؛ فهي آخر ما يودع من أطياف الحياة قبل النوم وهي أول ما يستقبل من أطيافها عند الاستيقاظ، ثم لا تكاد تغادر خياله طوال يومه، وما إن يحظى برؤيتها البصر حتى يخفق الفؤاد مرددا أنغاما شجية من أوتار علاها الصدأ، ثم إن دنياه لم تبق كما كانت، دنيا حيرة وعذاب ووحشة، داخلتها نسائم وجرى فيها ماء الحياة، فإن لم يكن هذا هو الحب فما عسى أن يكون؟! وطوال الشهرين الماضيين جعل من شارع ابن زيدون مقصده كل أصيل، يقطعه على مهل، مسددا عينيه إلى الشرفة حتى تلتقي بعينيها ثم يتبادلان الابتسام كما يجدر بزميلين، وقد بدا ذلك كما تقع المصادفات، ثم تكرر وقوعه كأنما عن عمد، فما يجيء ميعاده حتي يجدها بمجلسها من الشرفة تقرأ في كتاب أو تسرح الطرف، فأيقن أنها تنتظره؛ إذ لو شاءت أن تمحو هذا المعنى من ذهنه ما كلفها ذلك إلا تجنب الشرفة دقائق كل أصيل. ولكن ماذا تظن بمروره وابتسامته وتحيته؟! لكن مهلا، أن الغرائز لا تخطئ، كلاهما يود أن يلقى صاحبه، وقد استخفه لذلك الطرب وأسكره السرور، وملأه إحساس بجدوى الحياة لم يشعر به من قبل، غير أن هذا الهناء كله لم يمض دون قلق يشوبه، كيف لا وهو لم يجمع بعد على عزم، ولم يتضح له سبيل، ولكن تيارا جرفه فاستسلم له وهو لا يدري كيف مجراه ولا أين مرساه! قليل من العقل يوجب عليه أن يتدبر أمره ولكن فرحة الحياة صدته في إشفاق، فثمل سرورا دون أن يخلو من قلق. وقال له رياض: أقدم فهذه فرصتك، ورياض منذ أن لبس خاتم الخطوبة وهو يتحدث عن الزواج كأنه غاية الإنسان الأولى والأخيرة في هذه الحياة. فيقول مزهوا أنه سيقتحم هذه التجربة الفريدة غير هياب فيتاح له أن يفهم الحياة فهما جديدا صادقا؛ ومن ثم يفتح أبواب قصصه للحياة الزوجية والأطفال .. أليست هذه هي الحياة أيها الفيلسوف السابح فوق الحياة؟ فأجابه متهربا: أنت اليوم خصم؛ فأنت آخر من يصلح حكما، وسوف أفتقد فيك المشير الصادق! وبدا له الحب من ناحية أخرى «دكتاتورا»، وقد علمته الحياة السياسية في مصر أن يمقت الدكتاتور من صميم قلبه؛ ففي بيت عمته جليلة كان يهب عطية جسده ثم سرعان ما يسترده وكأن ما كان لم يكن، أما هذه الفتاة المستكنة في حيائها فلن تقنع بما دون روحه وجسده جميعا إلى الأبد، ولن يجد من شعار يأتم به بعد ذلك إلا الكفاح المرير في سبيل الرزق ليؤمن حياة الأسرة والأبناء، مصير غريب يجعل من الحياة الحافلة بالجلائل مجرد وسيلة «لتحصيل» الرزق، وقد يكون الفقير الهندي سخيفا أو مجنونا ولكنه أحكم ألف مرة من الغارق حتى أذنيه في سبيل الرزق، فأنعم بالحب الذي كنت تفتقده وتتحسر عليه .. ها هو يبعث حيا في فؤادك جارا وراءه المتاعب! وقال له رياض: «أمن المعقول أن تحبها وأن يكون في وسعك أن تتزوجها .. ثم تمتنع عن زواجها؟» فأجابه بأنه يحبها ولكنه لا يحب الزواج! فقال محتجا: «إن الحب هو الذي يسلمنا للزواج؛ فما دمت لا تحب الزواج كما تقول فأنت لا تحب الفتاة!» فأجابه بإصرار: «بل أحبها وأكره الزواج.» فقال: «لعلك تخاف المسئولية»، فأجابه محتدا: «إني أحمل من أعباء المسئولية في بيتي وفي عملي ما لا تحمل بعضه»، فقال: «لعلك أناني أكثر مما أتصور»، فقال ساخرا: «وهل يتزوج الفرد إلا مدفوعا بأنانيته الظاهرة أو الخفية؟» فقال باسما: «لعلك مريض فاذهب إلى دكتور نفساني لعله يحللك»، فقال له: «من الطريف أن مقالتي القادمة في مجلة الفكر عن: «كيف تحلل نفسك»، فقال له: «أشهد لقد حيرتني»، فقال: «أنا الحائر إلى الأبد».»
صفحه نامشخص