فضحك كمال ضحكة تحمل نغمة جديدة، وقال: نشرب كأسين ونحلم بعالم واحد تسيطر عليه حكومة واحدة عادلة! - سنحتاج حتما إلى أكثر من كأسين ..
ووجدوا أنفسهم أمام حانة جديدة لم يروها من قبل، لعلها من الحانات «الشيطاني» التي تخلقها ظروف الحرب بين يوم وليلة. وحانت من كمال نظرة إلى داخلها فرأى امرأة بيضاء ذات جسم شرقي تقوم على إدارة الحانة، ثم جمدت قدماه فلم يتحرك من موقفه، أو بالأحرى لم يستطع أن يتحرك حتى اضطر صاحباه أن يتوقفا عن المسير وينظروا إلى حيث ينظر. مريم! لم تكن إلا مريم دون غيرها، مريم الزوجة الثانية لياسين، مريم جارة العمر، في هذه الحانة بعد اختفاء طويل، مريم التي ظن بها أنها لحقت بأمها! .. - أتريد أن نجلس ها هنا؟ هلم فليس بالداخل إلا أربعة جنود ..
وتردد مليا، ولكن شجاعته لم تواته فقال ولما يفق من ذهوله: كلا ..
وألقى نظرة على المرأة التي ذكرته بأمها في أيامها الأخيرة، ثم انطلقوا في طريقهم. متى رآها آخر مرة؟ منذ ثلاثة أو أربعة عشر عاما على الأقل، إنها معلم من معالم الماضي الذي لا ينسى، ماضيه .. تاريخه .. ماهيته .. كل أولئك شيء واحد، وقد استقبلته في قصر الشوق في آخر زيارة لهذا البيت قبل طلاقها، وما زال يذكر كيف شكت إليه اعوجاج أخيه وارتداده إلى حياة العربدة والمجون، شكوى لم يكن يقدر عواقبها وقد انتهت بها إلى ذلك الدور الذي تلعبه في هذه الحانة «الشيطاني»، ومن قبل ذلك كانت كريمة السيد محمد رضوان، وكانت صديقته وملهمة أحلامه في الصبا الأول، في ذلك الزمان الذي شهد البيت القديم عامرا بالأفراح والسلام، كانت مريم وردة وكانت عائشة وردة ولكن الزمن عدو لدود للورود، وربما كان من المحتمل أن يعثر عليها في بيت من هذه البيوت كما عثر بالست جليلة، ولو وقع هذا لكان وجد نفسه في مأزق وأي مأزق. هكذا بدأت مريم بالإنجليز وانتهت بالإنجليز .. - أتعرف هذه المرأة؟ - نعم .. - كيف؟ - امرأة من هاتيك النسوة، ولعلها نسيتني .. - أوه، الحانات ملأى بهن، مومسات قديمات، وخادمات متمردات، ومن كل لون .. - نعم .. - ولم لم تدخل فلعلها ترحب بنا إكراما لك؟ - لم تعد في طور الشباب ولدينا أماكن أفضل.
تقدم به العمر وهو لا يدري، منتصف الحلقة الرابعة، وكأنما قد استهلك نصيبه من السعادة، وإذا قارن بين تعاسته الراهنة وتعاسته الماضية لم يدر أيهما أشد، ولكن ماذا يهم العمر وقد ضاق بالحياة؟! حقا إن الموت لذة الحياة. ولكن ما هذا الصوت؟ - غارة! - أين نذهب؟ - إلى مخبأ قهوة ركس.
لم يجدوا في المخبأ مكانا خاليا للجلوس فوقفوا، وكان ثمة أفندية وخواجات وسيدات وأطفال، وكان الكلام يدور بشتى اللغات واللهجات. وأصوات رجال المقاومة المدنية في الخارج تهتف «أطفئ النور.» وبدا وجه رياض شاحبا، وكان يمقت دوي المدافع، فقال له كمال مداعبا: قد لا تتمكن من العبث بشخصي في روايتك ..
فضحك ضحكة عصبية وقال وهو يومئ إلى الناس: البشرية ممثلة بنسبة عادلة في هذا المخبأ ..
فقال كمال متهكما: لو اجتمعوا على خير كما يجتمعون على الخوف!
وهتف إسماعيل متنرفزا: زمان زوجي نازلة على السلم تتلمس طريقها في الظلام، إني أفكر جديا في العودة إلى طنطا غدا .. - إن عشنا! - مساكين حقا أهل لندن! - لكنهم أصل البلاء كله ..
وكان وجه رياض قلدس يزداد شحوبا، ولكنه دارى اضطرابه بالكلام فسأل كمال: سمعتك تتساءل مرة أين محطة الموت لأغادر مركبة الحياة المملة، فهل يهون عليك أن تنسفنا قنبلة الآن؟
صفحه نامشخص