Sujood at-Tilawah and its Rulings
سجود التلاوة وأحكامه
ناشر
دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع
شماره نسخه
الأولى
سال انتشار
١٤٢٩ هـ
محل انتشار
المملكة العربية السعودية
ژانرها
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أرسله بكتابه المبين، هاديًا إلى الصراط المستقيم، جعل سبحانه أمثاله عبرًا لمن تدبرها، وأوامره هدى لمن استبصر، وشرح فيه واجبات الأحكام، وفرق فيه بين الحلال والحرام.
خاطب به أولياءه ففهموا، وبين لهم مراده فعلموا. فقراء القرآن حفظة علمه المخزون وخلفاء أنبيائه وأمنائه.
والواجب على من خصه الله بحفظ كتابه أن يتلوه حق تلاوته، ويتدبر حقائق عبارته ويتفهم عجائبه، ويتبين غرائبه قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص: ٢٩] وقال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: ٢٤].
جعلنا الله ممن يقوم بحقه، ويرعاه حق رعايته، ويقوم بقسطه ولا يلتمس الهدي من غيره.
أسباب اختيار الموضوع:
كان مما دعاني إلى اختيار هذا الموضوع للكتابة فيه جملة أمور من أهمها:
١ - أن أكون ممن قال فيهم المصطفى صلوات الله وسلامه عليه:
1 / 5
«خيركم من تعلم القرآن وعلمه» (١). ألا وإن من تعليمه؛ تعليم ما فيه القيام بحقه وهذا منه إن شاء الله.
٢ - أهمية هذا الموضوع وعدم وجود مؤلف خاص به يجمع أحكامه، يقربه ويجعله في متناول قارئ القرآن.
٣ - تباين أقوال أهل العلم في جملة من أهم أحكامه، فمن قائل بوجوبه بحيث لا يسع القارئ تركه، ومن قائل بسنيته ومثل ذلك اختلافهم في مواضع السجود وما يسجد فيه، وما لا يسجد، وكذا اختلافهم في اشتراط الطهارة له واستقبال القبلة، وستر العورة،
ومن ذلك: اختلافهم في جواز السجود في أوقات النهي عن الصلاة، أو عدم جوازه ومن ذلك التكبير في أوله، وفي القيام منه، وكذا السلام.
وغير ذلك كثير. فأحببت أن أشارك بجهد في هذا أتتبع فيه القول الذي تسنده الأدلة، وتشهد له الأصول.
منهج البحث:
وقد اتبعت في بحثي لهذا الموضوع المنهج التالي:
١ - أقوم بعرض المسألة الحاضرة بذكر مواضع الاتفاق، إن وجد ثم أتبع ذلك بموضع الخلاف، ذاكرًا القول أولًا فالقائل، ثم أتبع ذلك بذكر الأدلة، وما أورد عليها من مناقشة.
٢ - رجحت ما ظهر لي رجحانه، حين عذر علي التوفيق بين الأقوال، وإعمال جميع ما ورد في المسألة من أدلة صحيحة.
٣ - عزوت الآيات القرآنية إلى مواضعها في كتاب الله، بذكر السورة، ورقم الآية.
_________
(١) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه (٦/ ١٠٨).
1 / 6
٤ - خرجت الأحاديث الواردة في البحث، وما كان منها في صحيح البخاري أو مسلم اكتفيت به، وما لم يخرجه أحدهما أو كلاهما، خرجته من الصحاح والمسانيد المتبقية، مع بيان درجة الحديث وقد اعتمدت في ذلك على ما ذكره أهل العلم في ذلك.
٥ - خرجت الآثار الواردة في البحث من مظانها، مع بيان درجة الأثر إن وجدت في ذلك نقلًا.
٦ - ترجمت للأعلام الواردة في البحث باستثناء الصحابة، والأئمة الأربعة لشهرتهم فلا يحتاجون إلى تعريف، وجعلت ذلك في ملحق خاص تجنبًا لإثقال الحواشي.
٧ - عملت في آخر البحث فهرسًا اشتمل على ما يلي:
١ - فهرس للآيات القرآنية.
٢ - فهرس للأحاديث.
٣ - فهرس للآثار.
٤ - فهرس للمراجع.
٥ - فهرس لموضوعات البحث.
خطة البحث:
تشتمل خطة البحث على: تمهيد، وثلاثة فصول، وخاتمة:
التمهيد وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: في فضل تلاوة القرآن.
المبحث الثاني: في ما يلزم قارئ القرآن، وحامله من تعظيم القرآن وحرمته عند التلاوة.
المبحث الثالث: في التعريف بسجود التلاوة.
الفصل الأول: في حكم سجود التلاوة؛ وفيه مبحثان:
1 / 7
المبحث الأول: في حكمه للتالي.
المبحث الثاني: في حكمه للمستمع والسامع.
الفصل الثاني: في عدد سجدات التلاوة، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: ما اتفق على السجود فيه.
المبحث الثاني: ما اختلف في السجود فيه.
الفصل الثالث: مواضع السجود من آيات سجود التلاوة، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: ما اتفق على موضعه.
المبحث الثاني: ما اختلف في موضعه.
الفصل الرابع: في أحكام سجود التلاوة؛ وفيه مبحثان:
المبحث الأول: في أحكامه داخل الصلاة.
المبحث الثاني: في أحكامه خارج الصلاة.
1 / 8
التمهيد
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: في فضل تلاوة القرآن.
المبحث الثاني: في ما يلزم قارئ القرآن وحامله من تعظيم القرآن وحرمته.
المبحث الثالث: في التعريف بسجود التلاوة.
1 / 9
المبحث الأول
فضل تلاوة القرآن
حثّ سبحانه عباده المؤمنين على تلاوة كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ووعد من قام بحقه في ذلك بالأجر العظيم، والثواب الجزيل، وقد تواترت النصوص في الكتاب والسنة في بيان ذلك.
أولا: من الكتاب:
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر: ٢٩، ٣٠].
فالذين يتلون كتاب الله: هم الذين يستمرون على تلاوته ويداومونها، والمراد بالتجارة ثواب الطاعة، ومعنى ﴿لَنْ تَبُورَ﴾ لن تكسد ولن تهلك، وهي صفة للتجارة، والإخبار برجائهم لثواب ما عملوا بمنزلة الوعد بحصول مرجوهم (١).
قال مطرف بن عبد: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ ..﴾ الآية: هذه آية القراء (٢).
ثانيًا: من السنة:
١ - حديث ابن عمر؛ قال: قال رسول الله ﷺ: «لا حسد إلا في اثنتين
_________
(١) فتح القدير للشوكاني (٤/ ٣٤٨) زاد المسير لابن الجوزي (٦/ ٤٨٦).
(٢) جامع البيان عن تأويل القرآن لابن جرير الطبري (٢٢/ ١٣٣) وزاد المسير (٦/ ٤٨٦).
1 / 11
رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل، وآناء النهار فسمعه جار له: فقال ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالًا فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل» (١).
٢ - حديث عائشة عن النبي ﷺ قال: «مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام، ومثل الذي يقرؤه وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران» (٢).
٣ - حديث أبي موسى الأشعري عن النبي ﷺ، قال: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ...» (٣).
٤ - حديث أبي أمامة عن النبي ﷺ؛ قال: «اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه» (٤).
٥ - حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي ﷺ؛ قال: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» (٥).
٦ - حديث عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ؛ قال: «من قرأ حرفًا من
_________
(١) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب اغتباط صاحب القرآن (٦/ ١٠٨).
(٢) أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب سورة (عبس) (٦/ ٨٠) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الماهر بالقرآن، والذي يتتعتع فيه (١/ ٥٤٩).
(٣) أخرجه البخاري في عدة مواضع؛ منها: كتاب فضائل القرآن، باب فضل القرآن على سائر الكلام (٦/ ١٠٧) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب من يقوم بالقرآن ويعلمه (١/ ٥٥٨) حديث (٢٦٦).
(٤) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة (١/ ٥٥٣) (٢٥٢).
(٥) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب استحباب الترتيل في القرآن (٢/ ٧٣) (١٤٦٤) والترمذي في أبواب فضائل القرآن (٥/ ١٧٧) (٢٩١٤) وقال: حديث حسن صحيح.
1 / 12
كتاب الله تعالى فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقوال: ألم حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف وميم حرف» (١).
٧ - حديث أنس بن مالك؛ قال: قال رسول الله ﷺ: «إن لله أهلين من الناس» قالوا: يا رسول الله! من هم؟ قال: «هم أهل القرآن، أهل الله وخاصته» (٢).
هذا غيض من فيض؛ اخترت منه ما أحسبه كافيًا بالغرض الذي سيق لأجله.
_________
(١) أخرجه الترمذي في أبواب فضائل القرآن، باب ما جاء من قرأ حرفًا من كتاب الله ما له من الأجر (٥/ ١٧٥) حديث (٢٩١٠) وقال: حديث حسن صحيح، غريب من هذا الوجه.
(٢) أخرجه ابن ماجه في مقدمة السنن، باب فضل من تعلم القرآن وعلمه (١/ ٧٨) حديث ٢١٥ وقال في الزوائد: إسناده صحيح.
1 / 13
المبحث الثاني
في ما يلزم قارئ القرآن وحامله
من تعظيم القرآن وحرمته عند تلاوة القرآن
ذكر أهل العلم جملة من الأمور التي ينبغي على قارئ القرآن الإتيان بها عند التلاوة؛ فمن ذلك:
١ - أنه ينبغي له أن يستاك ويتخلل فيطيب فاه عند القراءة؛ إذ هو طريق القرآن (١).
٢ - أن لا يقرأ القرآن إلا على طهارة (٢)، إلا أن يكون جنبًا فيجب عليه الاغتسال قبل القراءة، ومثله الحائض عند أكثر أهل العلم فلا تقرأ شيئًا من القرآن حتى تطهر.
٣ - أن لا يمس القرآن إلا على طهارة (٣)، وهذا غير مختص بالجنب، بل هو في حق المحدث حدثًا أصغر على ما ذهب إليه جمهور أهل العلم.
٤ - ومن ذلك ترك قراءته في المواضع القذرة، وأن يختار لذلك المكان النظيف، وذلك تعظيمًا للقرآن (٤).
٥ - أنه يستحب التعوذ قبل القراءة (٥)، لقوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ
_________
(١) الجامع لأحكام القرآن (١/ ٢٧) التذكار (١٠٧) كشاف القناع (١/ ٤٣٠) التبيان (٥٨).
(٢) الجامع لأحكام القرآن (١/ ٢٧) كشاف القناع (١/ ٤٣١).
(٣) الجامع لأحكام القرآن (١/ ٢٧).
(٤) كشاف القناع (١/ ٤٣٢) التبيان (٦١).
(٥) كشاف القناع (١/ ٤٣١) الجامع لأحكام القرآن (١/ ٢٧).
1 / 14
فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل: ٩٨] وأن يقرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم) إذا كان ابتداء قراءته من أول السورة (١).
٦ - أن يحمد الله عند الفراغ من القراءة على توفيقه ونعمته بجعله من آل القرآن، وأن يسأل الثبات عليها (٢).
٧ - أنه يستحب له أن يخلو لتلاوته حتى لا يقطع عليه أحد بكلام، فإن كان ولا بد، لم يقطع قراءته ساعة فساعة بكلام الآدميين من غير ضرورة (٣).
٨ - أن تكون قراءته بتدبر، وتفهم، وخشوع، وأن يستعمل فيه ذهنه وفهمه حتى يعقل ما يخاطب به، ويتأمل الأوامر والنواهي ويعتقد قبول ذلك (٤). والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصى؛ قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: ٢٤] وقال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: ٢٩].
٩ - أن يقف على آية الوعد فيرغب إلى الله تعالى، ويسأله من فضله، وأن يقف على آية الوعيد فيستجير بالله منه (٥).
١٠ - أن يمسك عن القراءة إذا تثاءب حتى ينتهي من التثاؤب، ثم يستأنف القراءة (٦)، وقد قال ﷺ: «إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه، فإن الشيطان يدخل» (٧).
_________
(١) الجامع لأحكام القرآن (١/ ٢٧).
(٢) كشاف القناع (١٤/ ٤٣٠).
(٣) الجامع الأحكام القرآن (١/ ٢٧).
(٤) كشاف القناع (١/ ٤٣١) الجامع لأحكام القرآن (١/ ٢٧) التذكار (١٠٩) التبيان (٦٥).
(٥) الجامع لأحكام القرآن (١/ ٢٧) التبيان (٧١).
(٦) الجامع لأحكام القرآن (١/ ٢٧) كشاف القناع (١/ ٤٣١) التبيان (٩٥).
(٧) أخرجه مسلم في كتاب الزهد، باب تشميت العاطس وكراهية التثاؤب (٤/ ٢٢٩٣).
1 / 15
١١ - إذا ابتدأ القراءة فينبغي أن تكون بدايته من أول الكلام المرتبط بعضه بعضا، إذا ابتدأ القراءة من وسط السورة، وأن يقف على الكلام المرتبط، إذا لم يقف على آخر السورة (١).
١٢ - أن يمسك عن القراءة إذا عرض له ريح حتى يتكامل خروجها، ثم يعود إلى القراءة (٢).
١٣ - ومن حرمته ألا يجهر بعضٌ على بعض في القراءة فيفسد عليه، حتى يبغض إليه ما يسمع ويكون كهيئة المغالبة (٣).
١٤ - ألا يجهر بقراءته بين مصلين، أو نيام جهرا يؤذيهم (٤).
١٥ - ومن حرمته ألا يقرأه في الأسواق، ولا في مواطن اللغط واللغو، ومجمع السفهاء (٥).
١٦ - ومن حرمته إذا وضع المصحف ألا يتركه منشورًا، وألا يضع فوقه شيئًا من الكتب حتى يكون أبدًا عاليًا لسائر الكتب (٦).
١٧ - ومن حرمته أن يضعه في حجره إذا قرأه أو على شيء بين يديه ولا يضعه بالأرض (٧).
_________
(١) التبيان (٩٢).
(٢) كشاف القناع (١/ ٤٣٢) التبيان (٩٥).
(٣) الجامع لأحكام القرآن (١/ ٢٩) كشاف القناع (١/ ٤٣١).
(٤) كشاف القناع (٤٣١) الشرح الصغير (١/ ٥٧٧).
(٥) كشاف القناع (١/ ٤٣٣) الجامع لأحكام القرآ، (١/ ٢٩).
(٦) الجامع لأحكام القرآن (١/ ٢٨).
(٧) الجامع لأحكام القرآن (١/ ٢٨).
1 / 16
المبحث الثالث
في التعريف بسجود التلاوة
سجود التلاوة: أي: السجود بسبب التلاوة.
والإضافة فيه من باب إضافة المسبب إلى السبب (١)، كخيار العيب، وخيار الرؤية، وحج البيت، وأقوى وجوه الاختصاص اختصاص المسبب بالسبب (٢).
وقد أورد عليه: أن السماع سبب في حق المستمع، فكان ينبغي أن يكون التعريف: بسجود التلاوة والسماع.
وقد أجاب عنه العيني: بأن الإجماع منعقد على كون التلاوة سببًا، واختلفوا في سببية السماع، فقال بعضهم: ليس السماع سببًا، ولذلك اقتصرت إضافة السجدة إلى التلاوة دون السماع، أو يقال: إن التلاوة أصل في الباب؛ لأنها إذا لم توجد لم يوجد السماع فكان ذكرها مشتملًا على السماع من وجه فاكتفي به (٣).
_________
(١) البناية شرح الهداية للعينين (٢/ ٧٠٩) حاشية ابن قاسم على الروض المربع (٢/ ٢٣٢).
(٢) البناية (٢/ ٧٠٩).
(٣) المصدر السابق والصفحة.
1 / 17
الفصل الأول
في حكم سجود التلاوة
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: في حكمه للتالي.
المبحث الثاني: في حكمه للمستمع والسامع.
1 / 19
المبحث الأول
في حكمه للتالي
وقد اختلف أهل العلم فيه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إن ذلك واجب مطلقًا، أي: في الصلاة وخارجها:
ذهب إليه الحنفية (١)، وأحمد في رواية عنه (٢)، اختارها ابن تيمية (٣)، وقد استدل هؤلاء بما يلي:
أولا: من الكتاب:
١ - قوله تعالى: ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ﴾ [الانشقاق: ٢٠، ٢١].
ووجه الدلالة: أن الله ذمهم على ترك السجود، وإنما استحق الذم بترك الواجب (٤).
ونوقش الاستدلال من أوجه:
الوجه الأول: أنه محمول على الصلاة (٥).
الوجه الثاني: أن الآية وردت في ذم الكفار وتركهم السجود
_________
(١) انظر: الهداية (١/ ٨٧) المبسوط (٢/ ٤) بدائع الصنائع (١/ ١٨٠) البناية (٢/ ٧١٦) تبيين الحقائق (١/ ٢٠٥).
(٢) الإنصاف (٢/ ١٩٣) المبدع (٢/ ٢٨).
(٣) مجموع الفتاوى (٢٣/ ١٣٩) الإنصاف (٢/ ١٩٣).
(٤) البناية (٢/ ٧١٩) المبسوط (٢/ ٤) بدائع الصنائع (١/ ١٨٠) مجموع فتاوى ابن تيمية (٢٣/ ١٢٧) المبدع (٢/ ٢٨) المجموع (٤/ ٦١) الحاوي (٢/ ٢٠٠) المغني (٢/ ٣٦٥).
(٥) مجموع فتاوى ابن تيمية (٢٣/ ١٣٧).
1 / 20
استكبارًا، بدليل ما تعقبه من الوعيد الذي لا يستحقه من ترك سجود التلاوة (١).
وأجيب: بأن هذا خلاف قولكم؛ لأنكم تستحبون السجود في الآية.
وردت الإجابة: بأنا نسجد مبالغة في مخالفة الكفار، وترك الاستكبار، وذلك يسحب، ولهذا يستحب في المرة الثانية والثالثة ولا يجب بالإجماع بيننا (٢).
الوجه الثالث: أن معنى ﴿لَا يَسْجُدُونَ﴾ أي: لا يعتقدون فضله، ولا مشروعيته، ولذلك قال: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ﴾ [الانشقاق: ٢٢] (٣).
٢ - قوله تعالى: ﴿فَاسْجُدُوا لِلهِ وَاعْبُدُوا﴾ [النجم: ٦٢] وفي العلق ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ [العلق: ١٩] وهذا أمر، ومطلق الأمر الوجوب (٤).
ونوقش من أوجه:
الوجه الأول: أن المراد بالسجود في هذه الآيات، سجود الصلاة (٥).
الوجه الثاني: أن إيجاب السجود مطلقًا ليس يقتضي وجوبه مقيدًا وهو عند القراءة، أي: عند قراءة آية السجود، ولو كان الأمر كما زعموا لكانت الصلاة تجب عند قراءة الآية التي فيها الأمر بالصلاة، وإذا لم يجب ذلك فليس يجب السجود عند قراءة الآية التي فيها الأمر
_________
(١) الحاوي (٢/ ٢٠١) المجموع (٤/ ٢٦) المغني (٢/ ٣٦٦).
(٢) الانتصار في المسائل الكبار (٢/ ٣٩٠).
(٣) الحاوي (٢/ ٢٠١) المغني (٢/ ٣٦٦).
(٤) البناية (٢/ ٧١٩) مجموع فتاوى ابن تيمية (٢٣/ ١٣٩، ١٤٠) المجموع (٤/ ٦١).
(٥) المجموع (٤/ ٦٢).
1 / 21
بالسجود من الأمر بالسجود (١).
وأجيب: بأن المسلمين قد أجمعوا على أن الأخبار الواردة في السجود عند تلاوة القرآن هي بمعنى الأمر بالسجود مقيدًا بالتلاوة أي: عند التلاوة، وورد الأمر به مطلقا فوجب حمل المطلق على المقيد، وليس الأمر في ذلك بالسجود كالأمر بالصلاة، فإن الصلاة قيد وجوبها بقيود أخر.
وأيضًا: فإن النبي ﷺ قد سجد فيها فبين لنا بذلك معنى الأمر بالسجود الوارد فيها، أي: أنه عند التلاوة فوجب أن يحمل مقتضى الأمر في الوجوب عليه (٢).
الوجه الثالث: على فرض التسليم بأنه أمر بالسجود عند التلاوة، فإنه يتعين حمله على الندب، جمعًا بينه وبين ما ورد عنه ﷺ من ترك السجود أحيانا (٣).
٣ - قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [السجدة: ١٥].
فهذا الكلام يقتضي أنه لا يؤمن بآياته إلا من إذا ذكر بها خر ساجدا وسبح بحمد ربه، وهو لا يستكبر (٤).
ونوقش: بأن المراد به التزام السجود واعتقاده، فإن فعله ليس بشرط في الإيمان إجماعًا، ولذا قرنه بالتسبيح، وهو قوله: ﴿خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا﴾ [السجدة: ١٥] وليس التسبيح بواجب (٥).
ولأن ظاهر الآية يقتضي أن جميع الآيات يجب أن يسجد لها إذا
_________
(١) نقله ابن رشد عن الجويني، بداية المجتمع (١/ ١٦٢).
(٢) بداية المجتمهد (١/ ١٦٢).
(٣) الانتصار (٢/ ٣٩٠).
(٤) مجموع فتاوى ابن تيمية (٢٣/ ١٤١) الانتصار (٢/ ٣٩٠).
(٥) الانتصار (٢/ ٣٩١)، كشاف القناع (١/ ٤٤٥).
1 / 22
ذكرها، وهذا لا يقول به أحد، فسقط ظاهرها وعلم أن المراد بها ما ذكرنا (١).
٤ - أن أي السجدة تفيد الوجوب أيضًا، لأنها ثلاثة أقسام: قسم فيه الأمر الصريح به، وقسم تضمن حكاية استنكاف الكفرة حيث أمروا به، وقسم فيه حكاية فعل الأنبياء السجود. وكل من الامتثال، والاقتداء، ومخالفة الكفرة واجب (٢).
ويمكن أن يناقش: بأنه لا يصح من الحنفية؛ لأنهم لا يقولون بالسجود في مواضع الأمر، وأما الاقتداء فلا يجب فيما فعلوه على وجه الاستحباب، أما ما ورد في شأن ذم الكفار لتركهم السجود، فلعدم اعتقادهم فضله ولا مشروعيته، ولتركهم له استنكافًا، واستكبارًا (٣).
ثانيًا من السنة:
حديث أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ قال: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي ويقول: يا ويله، وفي رواية: يا ويلتي، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» (٤).
والاستدلال به من وجهين:
الوجه الأول: أنه قال: «أمر ابن آدم» والأمر للوجوب (٥).
الوجه الثاني: أنه قربة، فالسجدة التي أمر بها تلك كانت واجبة؛ فكذا هذه (٦).
_________
(١) الانتصار (٢/ ٣٩١).
(٢) فتح القدير (٢/ ١٣) البناية (٢/ ٧١٩).
(٣) انظر: (٢٠).
(٤) الحديث أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة (١/ ٨٧) حديث (١٣٣).
(٥) المبسوط (٢/ ٤) فتح القدير (٢/ ١٣) البناية (٢/ ٧١٩) مجموع فتاوى ابن تيمية (٢٣/ ١٥٦).
(٦) البناية (٢/ ٧١٩).
1 / 23
ونوقش من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: بأن هذا حكاية قول إبليس (١)، وهو ليس إلا قوله: ... ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: ١٢].
وأجيب: بأن النبي ﷺ أخبر بذلك ولم ينكره (٢).
الوجه الثاني: أنه إخبار عن السجود الواجب (٣).
الوجه الثالث: أنه لو سلم بأنه أمر، فقد ورد ما يصرفه عن الوجوب، وهو ما يأتي في أدلة القول الثالث.
ثالثًا: من أقوال الصحابة:
١ - ما صح عن عثمان ﵁ أنه قال: «إنما السجدة على من استمعها» (٤).
٢ - ما روي عن ابن عباس؛ أنه قال: «إنما السجدة على من جلس لها» (٥).
٣ - وعن ابن عمر؛ أنه قال: «إنما السجدة على من سمعها» (٦).
قالوا: و«على» كلمة إيجاب؛ فدل على وجوب السجود (٧).
ونوقش: الاستدلال من أوجه:
_________
(١) البناية (٢/ ٧١٩).
(٢) البناية (٢/ ٧١٩).
(٣) المسائل الفقهية من تفسير القرطبي (١/ ٢١٤).
(٤) أخرجها البخاري معلقا بصيغة الجزم، في أبواب سجود القرآن، وسننها باب من رأى أن الله تعالى لم يوجب السجود (٢/ ٣٣).
وقد وصله ابن أبي شيبة، كما في المصنف، كتاب الصلوات، باب من قال: السجدة على من جلس لها، ومن سمعها (٢/ ٥) وعبد الرزاق في المصنف، في كتاب فضائل القرآن، باب السجدة على من استمعها، وسعيد بن منصور كما في التعليق، (٢/ ٤١٢) من طريق قتادة عن سعيد بن المسيب، وقد صححها الحافظ كما في الفتح (٢/ ٥٥٨).
(٥) أخرجه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق في الموضع السابق.
(٦) أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب، والباب السابق.
(٧) المبسوط (٢/ ٤) البناية (٢/ ٧١٧).
1 / 24
الوجه الأول: أنها ليست بصريحة في الإيجاب، إذ يمكن حملها على أن السجود المستحب إنما هو في حق المستمع.
الوجه الثاني: أنها لو صحت وكانت صريحة في الوجوب لكانت معارضة بما هو أقوى منها، وهو ما ثبت عن النبي ﷺ من ترك السجود أحيانًا (١)، ومثله ما ثبت من إقرار الصحابة لقول عمر في الخطبة (إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء) (٢).
رابعًا: من المعقول:
١ - ولأنها لو لم تكن واجبة لما جاز أداؤها في الصلاة؛ لأن أداءها زيادة سجدة، وهي تطوع توجب الفساد (٣).
ونوقش: بأنها لو كانت واجبة لوجب إذا تلاها في الصلاة فلم يسجد حتى خرج من الصلاة أنه يقضيها (٤).
وأجيب عنه: بأنها وجبت بسبب التلاوة في الصلاة؛ فأصبحت لها مزية الصلاة، فكان وجوبها كاملًا وأداؤها خارج الصلاة ناقص فلا يتأدى الكامل بالناقص (٥).
ويمكن أن ترد الإجابة: بأن الحكم بنقصانها خارج الصلاة، يحتاج إلى دليل ولا دليل.
٢ - ولأنه سجود يفعل في الصلاة، فكان واجبًا كسجود الصلاة (٦).
ونوقش: بأنه ينتقض بسجود السهو فإنه عندهم غير واجب (٧).
_________
(١) انظر: (٢٧).
(٢) انظر: (٣٠، ٣١).
(٣) البناية (١/ ٧١٩) بدائع الصنائع (١/ ١٨٠).
(٤) الانتصار (٢/ ٣٩١).
(٥) الهداية وفتح القدير (٢/ ١٨، ٢١).
(٦) الحاوي (٢/ ٢٠١) المغني (٢/ ٣٦٧) المبدع (٢/ ٢٨/).
(٧) المغني (٢/ ٣٦٧).
1 / 25
وأجيب: بأن هذا غير صحيح، إذ الصحيح من المذهب وجوبه (١).
٣ - ولأنه ركن مفرد عن أركان الصلاة الأصلية شرعت قربة خارج الصلاة فوجب أن تكون واجبة، قياسًا على القيام في صلاة الجنازة (٢).
القول الثاني: إنه واجب في الصلاة، مسنون خارجها:
ذهب إليه أحمد في رواية عنه (٣).
ولم أجد مستند أحمد فيما ذهب إليه من هذا التفصيل، ولعله ما ثبت من مواظبة النبي ﷺ من السجود في الصلاة، مع ما نقل عنه من عدم سجوده أحيانًا خارج الصلاة، كما في حديث زيد بن ثابت (٤).
القول الثالث: إنه سنة مطلقًا:
ذهب إليه المالكية (٥)، والشافعية (٦)، وأحمد في رواية عنه، وهي المذهب (٧)، والظاهرية (٨)، والليث بن سعد، والأوزاعي (٩)، وإسحاق، وأبو ثور (١٠).
_________
(١) أي: مذهب الحنفية انظر: الهداية (١/ ٧٤).
(٢) البناية (٢/ ٧١٩).
(٣) الإنصاف (٢/ ١٩٣) مجموع فتاوى ابن تيمية (٢٣/ ١٣٩، ١٥٥) المبدع (٢/ ٢٨) الانتصار (٢/ ٣٨٠).
(٤) يأتي قريبًا (٢٧).
(٥) القوانين الفقهية (٦٢) المعونة (١/ ٢٨٦) المدونة (١/ ١١٠) بداية المجتهد (١/ ١٦١) المنتقى (١/ ٣٤٩) شرح الخرشي (١/ ٣٥٠).
(٦) الحاوي (٢/ ٢٠٠) المجموع (٤/ ٦١) المهذب (١/ ٩٢) مغني المحتاج (١/ ٢١٤) روضة الطالبين (١/ ٣١٨).
(٧) الإنصاف (٢/ ١٩٣) المبدع (٢/ ٢٨) المغني (٢/ ٣٤٦) الفروع (١/ ٥٠٠) الكافي (١/ ١٥٨) الانتصار (٢/ ٣٨٠) المستوعب (٢/ ٢٥١).
(٨) المحلى (٥/ ١٠٦) المجموع (٤/ ٦١).
(٩) المغني (٣/ ٣٦٤).
(١٠) المجموع (٤/ ٦١).
1 / 26