صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان

طه حسین d. 1392 AH
121

صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان

صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان

ژانرها

ولد سوفوكليس بن سوفيلوس في قرية «كولونا» بالقرب من أثينا سنة سبع أو خمس وتسعين وأربعمائة قبل المسيح. ولسنا نعرف من حياته الأولى شيئا كثيرا، ولكن إلمامنا بما كان يسلك الأثينيون إلى تربية أبنائهم في هذا العصر من طريق، ونصوصا قليلة حفظها التاريخ يدلنا بعض الدلالة على نشأة سوفوكليس، وقد روى مؤرخوه أنه كان حسن الصورة جميل الخلق رشيق الحركة خفيفها ظريفها متأنقا في كل شيء، وتدلنا آثاره الأدبية على أنه قد جمع إلى هذه الصفات رجاحة العقل وشدة التؤدة والرزانة، وشيئا غير قليل من الاحتفاظ بالعادات الموروثة والآثار الدينية، فكان محبا للآلهة يجلهم ويتقيهم وينزلهم من نفسة منزلة ملؤها الكرامة، فإذا أردنا أن نعرف مصدر هذه الحياة التي التأمت فيها هذه الصفات المتباينة والخصال المتناقضة عرفنا أن سوفوكليس قد خضع منذ طفولته لمؤثرين مختلفين كل الاختلاف: الأول حياة القرى، والثاني حياة المدينة؛ فقد ولد في «كولونا» وهي قرية كان لها ما لغيرها من قرى أتيكا في هذا العصر من التمسك بالقديم والحرص على العادات الموروثة وعدم الكلف بالحياة اللينة والعيش السهل، فنشأ في أول أمره نشأة قروية خشنة بعض الخشونة، ولكنه لم يلبث أن انتقل إلى المدينة فتأثر بما فيها من لين العيش ونعومته ومن خفض الحياة وسهولتها ولا سيما في هذا الوقت الذي كانت قد وصلت فيه أثينا إلى شيء من الرقي المادي والمعنوي لم تعهده من قبل.

فهذان النوعان المختلفان من حياة القرية والمدينة تعاونا على أن يكسباه جسما قويا متين البنية ولكنه رشيق الحركة، وعقلا راجحا ولكنه مع ذلك سريع التنقل إلى الموضوعات المختلفة، لا يكاد يلم بموضوع حتى يأخذ منه خلاصته كالنحلة تنتقل في الرياض من زهرة إلى زهرة فتجتني رحيقها عذبا سائغا؛ ومن هنا جمع سوفوكليس في حياته المادية بين القوة والرشاقة، وفي حياته المعنوية بين الجد والفكاهة، فأصبح أحسن مثال لهذه الأرستقراطية الأدبية التي عاشت في أثينا إبان القرن الخامس قبل المسيح، فصورت الحياة اليونانية صورة خاصة عرفت في اصطلاح العلماء والأدباء باسم التأتك أو الحياة الأتيكية.

هذه الحياة الأتيكية هي المثل الأعلى لحياة الأمة اليونانية في كل شيء، نقول لحياة الأمة اليونانية؛ لأنها لم تقتصر على أهل أتيكا بل تجاوزتهم إلى غيرهم من يونان أوروبا وآسيا وأفريقيا، ونقول إنها كانت المثل الأعلى للحياة اليونانية في كل شيء؛ لأنها لم تتناول لونا واحدا من ألوان الحياة، بل تناولت الحياة في جميع فروعها، سواء في ذلك الفلسفة والسياسة والعلم والأدب والفن والاجتماع، فقد كانت أتيكا في القرن الخامس مركزا ينبعث منه الضوء فيشرق على جميع أجزاء العالم اليوناني، ومعملا - إن صحت هذه العبارة - تأخذ فيه نتائج العقل والشعور اليونانيين صورها الحقيقة. فما كان يظهر في جزء من أجزاء البلاد اليونانية عالم أو فيلسوف أو أديب إلا أحس الحاجة إلى أن يرحل إلى أثينا، ليعرض بضاعته على أهلها وينال رضاهم وإعجابهم، وما هي إلا أن ينزل هذه المدينة حتى يتأثر بها ويصطبغ بصبغتها ويصبح أثيني العقل والشعور واللغة، بل أثينيا في زيه ونظام حياته الخاصة، ولعل أصح تعبير عن هذه الاستحالة التي تناله إنما هو التعبير اليوناني؛ فقد كانوا يقولون أتك فلان أي اتخذ ما لبلاد أتيكا من عادة ونظام.

تأثر أيسكولوس بما كان لدميتير في أولوزيس من أثر ديني، فنشأ ورعا ديانا كما قدمنا. أما سوفوكليس فلم تكن القرية التي ولد فيها من شدة التمسك بالدين والحرص على الاحتفاظ به بمكان أولوزيس، ولكنها لم تكن من التهاون به والإعراض عنه بمكان المدن المتحضرة، فنشأ سوفوكليس مقتصدا في دينه، لا معرضا عنه، ولا مسرفا فيه، وسنرى أثر ذلك في حياته الشعرية.

كان أيسكولوس سليل أسرة أرستقراطية تكره الديمقراطية وتنفر منها وإن لم تجهد في ممانعتها وإشهار الحرب عليها. فتأثر بما لهذه الأسرة من عقيدة وخطة سياسيتين، ولم نعرف أنه عني بالأمور السياسية أو اشترك في أعمال الجمهورية ذات الخطر. أما سوفوكليس فلم يكن أرستقراطيا ولم يكن من سفلة الناس، وإنما نشأ في أسرة من أسر هذه الطبقات الوسطى التي تقوم بين الأرستقراطية والدهماء مقام الصلة، فتجمع إليها ما لهاتين الطبقتين من فضيلة؛ لذلك لم يكن سوفوكليس متشددا ولا متعصبا لرأي سياسي إنما كان معتدلا في السياسة، ليس بالديمقراطي المسرف ولا بالأرستقراطي المتعنت. ولئن كان فنه قد استأثر بأكثر وقته فذلك لم يمنعه من أن يبذل فضل ذكائه وحياته العملية للجمهورية؛ فقد انتخب مرتين «ستراتيجوس» أي قائدا من قواد الجيش فقبل الانتخاب ولم يسخط عليه مواطنوه. لم يكن سوفوكليس ذا مطامع سياسية ولكنه لم يكن يهمل السياسة كل الإهمال، ولقد فشل الجيش الأثيني في حملته على سقليا فشلا منكرا حمل الأثينيين على أن يحاولوا تغيير نظامهم السياسي، فانتخب سوفوكليس عضوا في الجماعة التي وكل إليها هذا التغيير، ولكنه لم يلبث أن استقال حين رأى ميل هذه الجماعة إلى الاستبداد بالحكم دون الشعب؛ فهذا يبين لنا مقدار ما كان عليه من توسط في الرأي وبعد عن الإسراف والإفراط.

كان أيسكولوس من هذه الجماعة الأتيكية التي كانت تشهد استحالة أتيكا ساخطة غير راضية، والتي كانت معجبة كل الإعجاب بالقديم قاصدة كل القصد في الرضى عن الحديث، والتي حاربت الفرس فقهرتهم، وكانت تود بعد ذلك لو أعاد لها هذا الانتصار ما كان لها من عزة وسلطان، ولكنها لم تظفر بما كانت تريد فظلت هادئة تتربص الفرص وتتريث مترقبة حوادث الأيام. أما سوفوكليس فقد نشأ إبان هذه الاستحالة فلم يتأثر تأثرا شديدا بآراء شيوخ أتيكا ومحافظيها، وإنما كان شابا يملأه مجد أمته إعجابا وفخرا فيضيف هذا كله إلى هذه الحياة الجديدة التي تناولت كل شيء فغيرته وبدلته ودانت ما بينه وبين الكمال. أتراه بعد انتصار أثينا في «سلامين» شابا لم يتجاوز السابعة عشرة قد رأس طائفة من الشباب يتغنون ويوقعون في حفل أقامه الأثينيون شكرا للآلهة على ما منحوهم من فوز، فهو يتيه ويختال ويظهر من براعته في التوقيع، ورشاقته في الحركة، ومن حسن زيه وجمال منظره ما ينبئ بمكانته في الحياة الأثينية بعد حين، أترى بعد ذلك أنه يمكن أن يميل عن نصر هذا الحديث الذي ملأ شبابه كبرا وإعجابا، والذي استبقى له في شيخوخته من الذكرى ما لم يكن لينساه.

لم نعرف كيف نشأ أيسكولوس؛ لأن نظم التربية في القرن السادس ليست بالواضحة ولا الجلية، ولكنا نعرف أن سوفوكليس لم يكد يتجاوز سن الطفولة حتى روى الشعر القصصي والغنائي وتعرف ما فيهما من جمال، وحتى اختلف إلى أساتذة الموسيقى فأحسن الأخذ عنهم، وأظهر براعته الفنية أكثر من مرة وأنه تردد إلى أماكن الألعاب الرياضية واشترك فيها، فأكسبته من قوة الجسم وجمال الخلق ورشاقة الحركة ما أشرنا إليه آنفا. فهو إذن مدين بحياته المعنوية للأدب والموسيقى وبحياته المادية للألعاب الرياضية. لم يختلف سوفوكليس إلى دروس الفلاسفة ولم يعن بحل المعضلات الفلسفية، ومع ذلك فقد كان فيلسوفا؛ أي إنه يفهم الحياة الإنسانية فهما خاصا معقولا لاءم فيه بين إرادة الإنسان وإرادة القضاء، ولكن هذه الفلسفة ليس لها مصدر إلا الذوق الذي اكتسبه من درس الشعر القديم، وإلا تجربته الشخصية التي كانت تجد من الحياة العامة والخاصة في أثينا حينئذ موضوعا حسنا للبحث والتمرين. هناك شيء لا بد من الإشارة إليه إذا أردنا أن نستقصي المؤثرات التي عملت في تكوين الآثار التمثيلية لسوفوكليس، هو هذه الجماعة الأثينية التي عاشرها الشاعر في جميع أطوار حياته منذ بلغ رشده، ولم يظفر بمعاشرتها أيسكولوس إلا بعد أن تقدمت سنه. كانت هذه الجماعة تمثل أرقى طبقة مفكرة في العالم اليوناني، بل في العالم كله حينئذ، وماذا ترى في جماعة كانت تتألف من سيمون وبيركليس وهيرودوت وفيدياس وألكمين وغيرهم من زعماء السياسة والأدب والفن. أولئك الذين ازدانت بهم أثينا وبلغت بهم أقصى ما قدر لها أن تبلغ من مجد ورقي في كل شيء. كانت هذه الجماعة محبة للحياة كلفة بلذاتها تستمع بها غير مسرفة ولا مغرقة. وكان أحب شيء إليها أن تجتمع إلى الطعام والشراب متجاذبة أعذب الحديث وأطيبه، متنقلة من جد إلى هزل متحاورة متناظرة في أطرف الموضوعات وأظرفها، وفي أشدها للنفوس استهواء وأحسنها في القلوب موقعا، فما أشد تأثير هذه الاجتماعات في ترقية الحوار وتهذيبه وجعله من الرقة والدقة بحيث يلائم هذه العقول التي كانت تفهم فتسرع في الفهم، وتتعمق فيه، وتعبر عما تريد فتنتقي أشد العبارات دلالة عليه، مجتزئة في كثير من الأحيان بالإيماء والإشارة، محملة للجملة الصغيرة أكبر المعاني وأدقها، متفننة في ذلك التفنن كله!

كل هذا تراه واضحا جليا فيما اشتملت عليه قصص سوفوكليس من حوار أو جدال. أضف إلى هذا أن مدينة أثينا في القرن الخامس كانت ملتقى الوفود اليونانية من كل أوب، وأن جماعتها السياسية والقضائية كانت تدرس أجل الموضوعات خطرا مقلبة إياها على جميع وجوهها يتناظر فيها الخطباء وزعماء القول لا يريدون إظهار مهارتهم أو الإعجاب بما كان لهم من قدرة أو تفوق، إنما يريدون المنفعة والإصلاح. فكانت هذه الحركة البرلمانية والقضائية من أشد الأشياء تأثيرا في تحسين المنطق وترقيته من جهة وفي أخذ الخطباء والمحاورين بالقصد والأناة فيما يقولون ويفكرون من جهة أخرى. وأضف إلى هذا وذاك أن العين لم تكن تقع من أثينا إلا على ما يملؤها جمالا وبهجة، فكما أن الخطباء والفلاسفة كانوا يتسابقون إلى الإجادة والاستئثار بنفوس الجمهور، وكما أن القواد وزعماء السياسة كانوا يتنافسون في رفع شأن المدينة وبسط سلطانها، فقد كان زعماء الفن الجميل يبذلون أقصى ما يملكون من جهد في تزيين المدينة وتجميلها والملائمة بين منظرها المادي وجلالها الأدبي والسياسي. فاستحالت المدينة إلى معرض من معارض الفن الجميل لا تخطو فيها خطوة إلا رأيت بناء فخما أو تمثالا جميلا، وكانت أثينا في ذلك الوقت غنية موسرة وزعماؤها أجوادا لا يبخلون بفضل مالهم بل بصميم مالهم على تشجيع المهرة من الفنيين، فقام في هذا العصر «البرتينون» وغيره من المعابد ذات الصوت الطائر وصنع فيه هذا التمثال المشهور، تمثال أثينا أقامه «فيدياس» من الذهب والعاج إلى غير ذلك مما لسنا في حاجة إلى ذكره الآن.

فإذا كان الشاعر من ذكاء القلب ورقة الطبع ونفاذ البصيرة بمكان «سوفوكليس» ثم عاش في عصر كهذا العصر لا تسمع الأذن فيه إلا جميلا ولا تقع العين فيه إلا على جميل، ولا تستشعر النفس فيه إلا مجدا وعظمة وإلا رفعة وفخارا، فليس من شك في أنه بالغ من النبوغ في شعره والوصول بفنه من الكمال درجة رفيعة إلى حيث بلغ سوفوكليس.

يذكر المؤرخون أن سوفوكليس كان هين الأخلاق حسن العشرة لطيف الحديث، متحببا إلى الناس متألفا لهم، وأنه لم يكن يبخل على نفسه بشيء من اللهو والدعابة؛ فقد كان يرى أن يستمتع بما في الحياة من لذة وأن يأخذ ما أعطته الأيام من طيبة من غير أن يسترسل في ذلك فيفسد نفسه ويضيع وقته.

صفحه نامشخص