وعلى الرغم من أنه من الأفضل اعتبار السنائي شاعر بلاط عن اعتباره من المتصوفين - إذ تراوحت قصائده ما بين الاحتفاء بالخمر إلى تقديم المواعظ حول السلوك الجيد؛ نظرا لأنها كانت تغنى وفقا للحالة المزاجية لأسياده - فإن قصائده المطولة وضعت أسس استخدام الشعر كوسيلة تعليمية؛ ففي أعمال مثل «حديقة الحقيقة وشريعة الطريقة» و«سير العباد إلى المعاد»، حول السنائي القوافي إلى خرائط رمزية للكون تكشف رحلة الروح عبر العوالم الكونية المتعددة.
114
في أغلب الأحيان، أدى ثراء المفاهيم والمصطلحات الصوفية المتخصصة في قصائد السنائي إلى اعتبارها «موسوعة» المعتقد الصوفي، إلا أنه نظرا لكون السنائي فنانا ماهرا ومبدعا، فقد كان متنوعا أكثر مما كان منهجيا. وعلى الرغم من أن الصوفيين أخذوا قصائده ومنحوها تفسيرات باطنية، فإن مصادره كانت أكثر تنوعا؛ إذ كانت تعكس مزيجا من الفلاسفة والعلماء والمتصوفين الذين ترددوا على البلاط الغزنوي. وبعد قرن، وفي خراسان أيضا، منح فريد الدين العطار (المتوفى عام 1220 تقريبا) مزيدا من الاتساق العقائدي للقصيدة السردية التعليمية الفارسية التي كتب منها العديد من النماذج المهمة.
115
وكان «منطق الطير» أبرز هذه القصائد، وفيها ضربت أنواع مختلفة من الطيور مثلا لأنواع البشر، وكان بحثها عن «سلطان الطير» عبر الوديان السبعة التي حملت أسماء مثل «العشق» و«الحيرة» يرمز إلى المقامات الموجودة على طريق الوصول إلى الله. وربما في أشهر التوريات في الأدب الفارسي كله على الإطلاق، يدرك الثلاثون طائرا (سي مرج بالفارسية) التي تصل إلى وجهتها النهائية أنها نفسها كانت متطابقة مع الكائن الأسطوري الجرفين الذي سماه «سيمرج» الذي كان ملكها؛ أي إنه عندما يدمر الصوفي نفسه الدنيا من خلال اتباع الطريقة، فإنه لا يبقى في نهاية الرحلة إلا الله.
من منظور قياس الانتشار الناجح للصوفيين، الذي كان سمة محورية للغاية في إسلام فترة العصور الوسطى، من المهم أن ندرك أنه في ظل السياقات الثقافية في عصر ما قبل التصنيع مثلت تلك القصائد نوعا من أنواع الترفيه؛ فهذه القصائد التي كان يحفظها الشعراء المحترفون شكلت ساعات من الترفيه التي يمكن بسهولة نقلها وإعادة إنتاجها للجمهور الذي سيكتسب فكرها بالإضافة إلى التسلية. وإذا نظرنا إلى جلال الدين الرومي من منظور زمنه، فسنجد أن هذا الأمر ينطبق عليه بصفة خاصة، فهو أعظم شعراء السرد الصوفيين، الذي اعتمد في عمله «مثنوي» بأريحية كبيرة على التراث والحكم والفكاهة الشعبية؛ بحيث بلغ به الأمر أن ارتكزت إحدى قصصه الرمزية على افتتان جارية بقضيب حمار.
116
وكما في حالة القصائد الغنائية المعدة لأن تكون مصحوبة بالموسيقى، فمن خلال النكات والقصص التي نسجها الصوفيون في شعرهم تمكنوا من ربط رسالتهم بوسائل رحب بها العوام وغير المتعلمين في قراهم. ومقارنة بالكتيبات العقائدية، وحتى بالرسائل المتهورة وإن كانت معقدة، فقد كانت تلك القصائد تلقى قدرا أكبر من الاستحسان والفهم الفوريين. وإذا كان الأدب النثري العربي الذي رأينا الصوفيين يكتبونه منذ أوائل أيامهم في بغداد قد ساعدهم في الحفاظ على مكانتهم في الطبقة الدينية المسيطرة، فإن استخدامهم لأنواع الترفيه المحلية هذه مكنهم من الوصول إلى جمهور عام أكثر. وإذا كان تقديس الأولياء قد أكسبهم تبعية هائلة قائمة على القوة والاحترام، فإن إضفاء الطابع المحلي على تعالميهم ضمن أن تكون هذه العلاقة أيضا علاقة تملؤها العاطفة ويغذيها على الأقل قدر من الفهم.
إن الحياة الفعلية لشعراء مثل العطار والرومي تؤدي بنا إلى سمة أخرى مهمة من سمات انتشار الفارسية، مع خروج اللاجئين الهاربين من خراسان في أعقاب الغزو المغولي.
117
صفحه نامشخص