يمكن تلخيص هذا التحول في الأفكار على أنه تحول للحب من صفة مكتسبة لا بد أن يكنها السالك إلى الله، إلى صفة مطلقة لله نفسه، التي من خلال الانهماك فيها يصل السالك إلى أبعد نقطة في الطريقة الصوفية. وعلى النقيض من السهروردي وابن عربي، لم يكن الرومي منظرا، والسبب في شهرته يعود إلى حد كبير إلى إنتاجه الشعري مقارنة بإنتاجه الفكري، على الرغم من أنه عندما استخدم أشكال الشعر السردي، كما سنرى لاحقا، أصبح الشعر نفسه وسيلة لنقل تعاليمه. وبينما لا يعدو الرومي عن كونه واحدا من عدد من الصوفيين الذين طرحوا، بداية من القرن الثاني عشر، فكرة الحب باعتباره وسيلة وغاية للطريقة الصوفية، فإنه من خلال تكوين خلفائه طائفة صوفية أصبح الأكثر تأثيرا بين متصوفي الحب هؤلاء. وحتى بعيدا عن التأثير المباشر لطائفته، فإن انتشار نسخ وإنشاد مخطوطات قصيدته السردية الرائعة - التي سيطلق عليها لاحقا «القرآن الفارسي» - جعل كثيرا من الصوفيين من الأناضول حتى الهند وآسيا الوسطى يعتبرون طريقة الرومي في الحب الطريقة الأسمى (وإن كانت الأكثر غرابة) من بين الطرق العديدة للوصول إلى الله.
ومع تنويع الصوفيين لأفكارهم في القرون التالية للقرن الثاني عشر، استمروا على نحو واع في الاعتماد على التقليد القديم الذي اعتبروا أنفسهم ورثة له. كان الصوفيون دءوبين للغاية في محاولات السير على الطريقة التي وضعتها الأجيال السابقة التي عرفوها من خلال سلاسلهم وسيرهم، لدرجة أن صوفيي فترة العصور الوسطى كانوا غالبا ما يدرسون معاجم خاصة تسرد المصطلحات الفنية المقدسة.
25
وكما سنرى لاحقا، فحتى عندما بدءوا الكتابة بلغات أخرى غير العربية - لغة القرآن ولغة الصوفيين الأوائل في العراق - استخدموا المصطلحات العربية هذه بصفتها كلمات مقترضة في اللغات التي تتنوع في نهاية الأمر من الفارسية والتركية إلى اللغة الولوفية واللغة الملايوية. مرة أخرى، فإن هذا التوجه التقليدي لم يمنع حدوث تطورات جديدة، ولا يظهر ذلك على نحو أكثر وضوحا إلا في جماعات «القلندريين» (وكلمة «قلندر» تعني «الخارج عن الأعراف»)، التي تكونت تقريبا منذ القرن الثالث عشر على صورة مجموعات من الصعاليك الصوفيين المتجولين.
26
وسواء من خلال التجول عرايا، أو تعاطي المخدرات والخمر علنا، أو تعذيب الأجساد بالمسامير والجنازير، رفض القلندريون عمدا كل الأعراف الاجتماعية بطريقة كانت مناقضة تماما للتيار الصوفي السائد الملتزم. وعلى الرغم من زعمهم أن الطريقة الصوفية الحقيقية تكمن في التخلي عن كل شيء، بداية من الممتلكات والاحترام وحتى العائلة والقانون، فقد استخدموا أيضا مصطلحي الفقر وإذلال الذات، اللذين قد أصبحا في ذلك الوقت من المصطلحات الصوفية التقليدية، كي يزعموا أنهم الصوفيون الوحيدون الذين ينفذون الأفكار النظرية عمليا. إذا كانت المجازات والمصطلحات نفسها تتوارث، فمن الممكن أن تتغير على نحو كبير السبل التي تستخدم بها؛ فالتقليد عبارة عن مصدر مرن. وأوضح مثال على ذلك هو تغير الطريقة الصوفية نفسها، التي أصبحت منذ القرن الثاني عشر تشير إلى تكوينات اجتماعية لم تكن موجودة في السابق. في الفصل الأول، شهدنا بالفعل حدوث تطورات مؤسسية معينة في خراسان ستجعل التقليد مصدرا أكثر استقرارا وقابلية لإعادة الإنتاج. إلا أنه ما بين القرن الثاني عشر والقرن الرابع عشر ستكتمل هذه العملية من خلال الدمج المفاهيمي والتنظيمي للطريقة في مجموعة من «الطرق أو الطوائف» الصوفية. وإلى هذه المؤسسات الجديدة لا بد أن نلتفت الآن. (3) إضفاء الطابع المؤسسي على الطريقة الصوفية
رأينا في الفصل الأول كيف قدم الصوفيون الأوائل منهجهم في صورة «طريقة»، وكيف اكتسبت تلك الطريقة على مدار القرن الحادي عشر سمتا رسميا على نحو أكبر من خلال وضع قواعد لها، وكيف اكتسبت طابعا مؤسسيا على نحو أكبر من خلال تأسيس الخانقاوات. سوف نلتفت هنا إلى العملية التي من خلالها ترسخت وتوسعت هذه التطورات، لا سيما التطورات التنظيمية والمفاهيمية ذات الصلة، التي واجه قادة الصوفيين من خلالها العقبات الأساسية المتمثلة في إعادة الإنتاج عبر الزمان والمكان، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بقدر من الاتساق؛ من خلال تكوين آليات لتوحيد الممارسة والمعتقد.
27
رأينا بالفعل كيف أن تكوين إحساس بوجود «تقليد» قد شجع الصوفيين على أن ينظروا إلى طريقتهم باعتبارها شيئا موروثا عن شيوخهم، الذين عاشوا في أزمنة سابقة وفي أماكن أخرى. إلا أن إدراك وجود تقليد ليس مثل وجود آلية فعلية له؛ فمن الممكن أن يعتقد المرء أنه ينقل تعاليم القدماء دون أن ينقلها في واقع الأمر. ما نشهد ظهوره بين منتصف القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر هو آليات التقليد الأكثر رسمية.
هذا لا يعني القول إن تلك الآليات لم تكن موجودة تماما بين الصوفيين الأوائل، الذين كانوا غالبا مهتمين جدا بوسائل نقل المعرفة التي طورها حفظة القرآن وجامعو الحديث. إلا أن وسائل نقل المعرفة تلك لم تكن آليات تقليد صوفية مميزة؛ فبينما كانت السبل الرسمية للتعليم والانتساب والتنظيم، التي شهدنا ظهورها حول نيسابور، مميزة إلى حد كبير (على الرغم من أنها لم تكن كذلك على نحو كامل)، فقد كانت على الرغم من ذلك وسائل محددة نسبيا مختصة بشيوخ معينين في أماكن معينة؛ فهي لم تكن قد تطورت بعد لمستوى آليات التقليد القادرة على إعادة إنتاج الطريقة الموحدة والخاصة بأحد الصوفيين عبر الزمان والمكان. ومن أجل فعل ذلك سيحتاج الصوفيون إلى تكوين شبكة توزيع جغرافي أكثر رسمية، ونظام توارث عابر للأجيال، بالإضافة إلى آليات «وسم» مميزة على نحو أكبر قادرة على تمييز تقليد كل شيخ عن تقليد الشيوخ الأخرى. وكان تكوين هذه الآليات هو السبب وراء ما يراه المؤرخون عادة تكوينا ل «الطرق» أو «الطوائف» الصوفية، ذلك التكوين الذي كان إدراكه صعبا بسبب استخدام الصوفيين أنفسهم مصطلح «الطريقة» للإشارة إلى كل من الطريقة الصوفية المصاغة على نحو غير محكم في القرون الأولى، وإلى الطرق الصوفية المنظمة التي تعود للفترات اللاحقة.
صفحه نامشخص