78
إذا كان الفقه الشافعي على وجه الخصوص، والفقه الإسلامي في العموم، لا يمثلان «تيارا سائدا» طويل الأمد انضم إليه الصوفيون لأول مرة في نيسابور، فإن ما قدمه العلم الفقهي كان طريقة أكثر فاعلية لاكتساب المعرفة بالنص القرآني واستخدامها عمليا، تلك المعرفة التي لطالما اهتم بها المتخصصون من الصوفيين ومن غيرهم، وجعلت هذه الفاعلية الصوفيين والملامتية يلزمون أنفسهم بممارساتها. تمثلت طبيعة هذه الفاعلية في الطريقة التي منح من خلالها المذهب الشافعي لطلابه نظام «إجازة»، كان الشاهد الاجتماعي فيه على مرجعيتهم شهادة مكتوبة من شيوخهم، ومنهجا شرعيا واضحا يمكن تطبيقه، بدلا من حفظ عدد هائل من الأحاديث وتكوين طرق خاصة متفردة لفهمها.
79
هذه الفاعلية الجديدة، التي جعلت ممارسة الفقه أيسر ، وضمنت أيضا التعامل الجدي مع أحكام الفقهاء، كانت نتيجة مكانة معترف بها على نطاق نظام بأكمله، وليس نتيجة سمعة شخصية، وجذبت مختلف الأفراد والحركات ليتبنوا المذهب الشافعي؛ مما أدى إلى اجتماع كل من الصوفية والملامتية على اتباع هذا المذهب وأوساطه الاجتماعية وحلقاتها الدراسية.
بعد أن جذبت الشافعية هاتين الحركتين، أمدت كلتيهما بمزيد من الأدوات الخطابية. كان إحدى هذه الأدوات نموذج نقل المعرفة من خلال التسلسل من الشيخ إلى المريد، الذي أطلق عليه الصوفية «السلسلة»، وهذا ما سوف نناقشه بمزيد من التفصيل لاحقا. وهذا بدوره شجع المريدين على الاقتداء بسلوك شيوخهم بطريقة مثلت محاكاة لفكرة السنة النبوية.
80
وحاز أيضا الفهم التام للحديث الشريف على أهمية متزايدة؛ حيث استخدم الصوفيون الشافعيون في هذه الفترة، أمثال أبي عبد الرحمن السلمي (المتوفى عام 1021)، هذه المعرفة الخبيرة في وضع كتب تجميعية وتفسيرية للسنة النبوية تدعم الصوفية بدلا من الطريقة الكرامية.
81
وهذا لا يعني على الإطلاق قول إن كل الصوفيين في خراسان، أو في غيرها من الأماكن، أصبحوا منذ هذه الفترة أتباعا للمذهب الشافعي. إلا أنه في نيسابور وما حولها خلال القرنين العاشر والحادي عشر أدى اختراق الصوفية للمؤسسة المحلية الصاعدة، المتمثلة في الفقهاء الشافعيين، إلى حصولهم على نقطة انطلاق مهمة في منطقة خراسان، التي كان يسيطر عليها في السابق الكرامية والملامتية.
يوجد أمران واضحان إلى حد كبير بصرف النظر عن مدى إمكانية ارتباطهما المباشر بتوسع المذهب الشافعي في خراسان، وهما أن الصوفيين في المنطقة كانوا إلى حد كبير من أتباع المذهب الشافعي، وظهر بين هؤلاء الصوفيين نموذج لنقل المعرفة وتوثيقها يشبه في فاعليته النموذج الشافعي في هذا الصدد. في نهاية المطاف، إن عواقب هذا التطور - لا أسبابه - هي الأكثر أهمية. فما رأينا ظهوره في نيسابور وما حولها، وانتقاله منها إلى خراسان ونحو الغرب أيضا إلى العراق، وصولا إلى الأندلس؛ كان علاقة جديدة بين الشيخ والمريد، ستغير إلى الأبد طبيعة منهج الصوفية وتربطه بمجموعة قوية من العلاقات الاجتماعية الجديدة. وصف «نموذج نيسابور » هذا بأنه نموذج «يلزم فيه الشيخ المبتدئ، بموجب تعهد، بالطاعة المطلقة، وتنفيذ كل الأوامر، والكشف عن كل أفكاره السرية وحالاته الداخلية دون استثناء ... وفي الوقت نفسه لن يتغاضى الشيخ عن أي خطأ من جانب المبتدئ، ويمكنه أن يوقع في حقه أي نوع يرغب من العقاب.»
صفحه نامشخص