20
وفي العقود الأولى من ذلك القرن، كان الفريق العقلاني مؤثرا على نحو كاف فيما يتعلق بتقديمه للعقل على النقل؛ بحيث أقنع قائد الإمبراطورية الإسلامية، الخليفة المأمون (الذي حكم من عام 813 إلى عام 833)، ببدء «محنة» (أي تحقيق تعسفي) في محاولة استمرت على مدار ثماني عشرة سنة لفرض معتقد يقول إن القرآن ليس نصا أبديا، بل مخلوق في زمن سياقي تاريخي.
21
على الجانب الآخر من الجدل، كان يوجد علماء متعددون سعوا إلى الدفاع عن سلطة الوحي، لا سيما أنه بدا أنه يقدم أسسا أكثر ثباتا (أو دستورية إن جاز التعبير) للتشريع، ووجد الكثيرون أنه أقل عرضة للتلاعب به من قبل الطبقة الحاكمة مقارنة بالعقل. واعترضوا بصفة خاصة على مزاعم الخليفة المأمون المتعلقة بموثوقية رؤيته لمعنى النص القرآني. وبالإضافة إلى الدفاع عن مكانة القرآن، كان هؤلاء العلماء مهتمين أيضا بالدفاع عن آلاف الروايات الخاصة بأقوال وأفعال محمد المعروفة بالحديث، وإبراز مكانتها. ووسط هذه الجدالات التي تجمعت بطبيعة الحال في بغداد بصفتها عاصمة الخلافة العباسية، بدأ في الظهور ما يعرف اليوم بالإسلام السني. إن تلك «الكتلة الدستورية» القائمة على افتراض أن المسلمين يمثلون مجتمعا معنويا أكثر منه سياسيا، يربط بين أفراده التزام تجاه رسالة القرآن والسنة النبوية كما هي مدونة في الحديث؛ أعطت بالرغم من ذلك مكانة خاصة لعلماء الدين الذين كانت لديهم خبرة في فهم النصوص الدينية تمكنهم من تحديد ماهية الرسالة الفعلية للقرآن والحديث.
22
على الجانب الآخر، كان يوجد أشخاص ظلوا أوفياء للفكرة الإسلامية القديمة التي ترى تمثل السلطة والمعرفة الدينية في شخص واحد، وعلى الرغم من أن أفكارهم استغرقت أيضا عقودا طويلة حتى تبلورت، فقد احتفظوا بلقبهم القديم وهو الشيعة؛ حيث إنهم كانوا أنصار الإمام علي، قائدهم الأول وصهر النبي محمد. وبعد قرنين من رحيل النبي محمد عن مجتمع المسلمين الذي أسسه، كانت هذه الجدالات محاولات لفهم المصادر التي تركها لذلك المجتمع؛ سواء تلك التي مصدرها الوحي المتمثل في القرآن، أو سنته المتمثلة في الحديث، أو أسرته المتمثلة في نسل علي.
يحظى سياق الجدالات المستمرة والمصادر الثقافية هذا بالأهمية ؛ إذ إنه يمنعنا من الوقوع في شرك اعتقاد أن الصوفيين بصفتهم «متصوفين» كانوا في الأساس أشخاصا يسعون إلى تكوين علاقة مباشرة مع الله؛ ومن ثم لم يكونوا في حاجة كبيرة إلى إرشاد القرآن أو السنة النبوية. وسوف يمنعنا هذا السياق أيضا من افتراض أن الصوفيين منذ نشأتهم كانوا في منافسة مع علماء الدين.
23
على النقيض من ذلك، فمن خلال أقدم المصادر التي لدينا عنهم، بدا أنهم كانوا مهتمين بشدة بالقرآن والسنة النبوية، وهذا الاهتمام بالنصوص المكتوبة هو ما مكننا من كتابة تاريخهم. ونظرا لأنه في هذه الفترة كانت تعاملات معظم هذه الشخصيات مع القرآن والحديث من خلال الحفظ الشفهي بدلا من اللجوء المنتظم إلى الكتب المكتوبة بخط اليد، فإن التركيز يجب أن يتحول من الجانب المكتوب إلى الجانب الشفهي، لكن ستظل الفكرة العامة هي أن الصوفية وعلماء الدين كانوا على حد سواء في اهتمامهم بالنصوص الشفهية والنصوص المكتوبة، مع مجادلة الصوفيين في مدى تبيان التجربة للمعاني الحقيقية لهذه النصوص.
24
صفحه نامشخص