ومن ثم عند تتبع الورثة المعاصرين للتقليد الصوفي الذي يعود لقرون طويلة، يجب أن نضع في اعتبارنا أن كثيرا من هؤلاء الورثة اختاروا عدم وصف أنفسهم ب «الصوفيين». ومع تحول العصر الاستعماري إلى عصر عولمة ما بعد استعماري، لم تبق فقط المؤسسات الصوفية القديمة التي قاومت عواصف القرنين الماضيين من خلال التحالفات الذكية والاستثمارات المربحة، بل ظهرت أيضا في كاليفورنيا وكذلك في القاهرة أشكال جديدة من الصوفية راقت للاحتياجات والأذواق الحديثة، وكان من السمات الجذابة الضرورية لهذه الصوفية الجديدة تقديمها في صورة جديدة كممارسة «تصوفية» صرفة، متمثلة في مجموعة أساليب يحقق الفرد من خلالها التواصل الشخصي مع الله، دون المشتتات المتمثلة في الطقوس والمعتقدات؛ ومن ثم فإن هذه الصوفية المعزولة عن السياسة وعن جذورها الأصلية، والتي أصبحت تصوفا صرفا من خلال قطع علاقاتها بطوائف تبجيل الأولياء القائمة على الخرافة والدول الراعية «الفاسدة»، كانت نفسها نتيجة لعملية تاريخية متمثلة في الاستمرارية التراكمية للتقليد، التي طالها الرفض في النهاية هي وتأثير الأيديولوجيات الحديثة من قبل النقد الاستعماري والإصلاح الإسلامي. وكما سنرى في الصفحات المقبلة، فإنه فيما يتعلق برفض الصوفية وإعادة اختراعها، كان ظهور كل منهما في القرنين التاسع عشر والعشرين ردا على التجربة التاريخية في الفترة المعاصرة والسابقة له. (2) من المقاومة إلى التوافق: الصوفية تحت حكم الاستعمار، منذ حوالي عام 1800 إلى عام 1950
نظرا لأن تأثير الاستعمار على الصوفية يمكن تتبعه فعليا من خلال تفاعلات الإمبراطوريات الاستعمارية مع المؤسسات الصوفية والصوفيين، فإن الصفحات المقبلة ستركز كثيرا على هذه التفاعلات الملموسة إلى حد كبير قبل الالتفات إلى توجهات كل من الأوروبيين والمسلمين الذين استولوا على الصوفية أو رفضوها، أو أعادوا اختراعها بطرق مختلفة في عصر ما بعد الاستعمار. في العموم، يمكن رؤية تاريخ التفاعلات الاستعمارية مع الصوفيين على أنه نسق ثنائي الاتجاه، يقوم على الثورات على الاستعمار والتحالفات المؤيدة له، وهذا النسق يمكن رؤيته في حالات كثيرة كتطور تدريجي لثورات فاشلة سمحت بتحالفات قائمة على التفاوض.
9
لذلك، في أوقات مختلفة لم تقمع الإمبراطوريات الأوروبية الصوفيين فقط، بل ناصرتهم أيضا في بعض الأحيان. وكما هو الحال مع التفاعلات السابقة التي تتبعناها بين الصوفيين والإمبراطوريات الإسلامية السابقة للاستعمار، فمن أجل فهم نوعي السياسات التي انتهجهما الاستعمار يجب أن ندرك الاختلافات الداخلية بين الصوفيين أنفسهم، نظرا لاختلاف ردود أفعال الصوفيين باختلاف أنواعهم تجاه الوجود الاستعماري، واختلاف معاملة الحكام الاستعماريين لهم في المقابل. في العموم، بدأ سياسة التمرد والمقاومة صوفيون هامشيون نسبيا، كانوا يقودون أتباعا قليلين أو يحظون بسلطة قليلة موروثة قبل قيادة التمردات التي قاموا بها. واستمرارا لنهج القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، مال أيضا هؤلاء الصوفيون المتمردون للانتماء إلى الاتجاه الشرعي الذي كان في الغالب مهما للمسلمين وللطبقة الاستعمارية الحاكمة على حد سواء. وعلى النقيض من ذلك، كانت سياسة التحالف والتوافق ينتهجها صوفيون راسخون يمتلكون بالفعل السلطة والمكانة في مجتمعاتهم المضيفة، بالإضافة إلى الأراضي الممنوحة لهم من قبل القوى ما قبل الاستعمارية. وفي بعض الأحيان، يمكن ملاحظة عملية تحول بين هذين الطرفين؛ نظرا لأن ورثة الصوفيين - الذين اكتسبوا الأتباع والمكانة من خلال قيادة التمردات التي كانت غير ممكنة الاستمرار في نهاية المطاف - كونوا تحالفات مع القوى الاستعمارية نفسها التي هزمت آباءهم أو أجدادهم. (2-1) الإمبراطورية البريطانية
مع زحف الإمبراطورية البريطانية على المناطق الإسلامية في شمال الهند في بداية القرن التاسع عشر، كانت أبرز حركات «المقاومة» التي واجهتهم على نحو مباشر هي حركة الجهاد بقيادة سيد أحمد بريلوي (1786-1831)، وعلى الرغم من أن بريلوي يعتبر أحيانا مناهضا للصوفية، أو «وهابيا»، فقد تلقى تعليما صوفيا على يد الصوفي النقشبندي شاه عبد العزيز الدهلوي (المتوفى عام 1823)، ابن شاه ولي الله الدهلوي (المتوفى عام 1763)، الذي رأيناه في الفصل الثالث يدعم مكانة الشريعة في الحياة الصوفية.
10
الأمر المهم في بريلوي هو تبنيه مصادر التقليد الصوفي من أجل تأسيس حركة جديدة سماها «الطريقة المحمدية» (في محاكاة للاستخدامات السابقة للاسم المذكور)، وعلى الرغم من أن بريلوي انتسب إلى العديد من الطرق الصوفية التي كانت موجودة من قبل (مثل الجشتية والنقشبندية)، فيبدو أن هدفه من تأسيس الطريقة المحمدية كان إنشاء مؤسسة جامعة قادرة على جذب الأتباع من أي من الطرق الموجودة، عن طريق زعم أنها «الطريقة» النبوية الأصلية. وعلى الرغم من إعلان بريلوي انفصاله عن الطرق القائمة، والاتهامات الشرسة بالابتداع التي وجهها هو وأتباعه إلى منافسيهم الصوفيين، فإن الطريقة المحمدية تبنت الكثير من الأساليب التنظيمية والمعتقدات الصوفية، فكان أعضاؤها ينتسبون لها عن طريق البيعة الصوفية المعروفة، ويدرجون في السلسلة الروحانية. وإذا كانت تلك المؤسسة تقدم الشريعة على أنها أساس التقوى الإسلامية، فقد ظلت تعلم أنماط الذكر الصوفية.
11
ومن الناحية التنظيمية، كانت هذه الطريقة تحاكي هيكل الطرق الموجودة سابقا؛ من حيث إنها كانت تدار من قبل الولي المحوري صاحب الشخصية الجذابة سيد أحمد بريلوي، وخلفائه المعينين المعروفين. ونظرا لفرض السيطرة البريطانية على دلهي عام 1803، وأسفار بريلوي وأتباعه البارزين إلى كبرى المدن الاستعمارية مثل كلكتا وبومباي، أدرك أتباع الطريقة المحمدية تمام الإدراك غلبة السلطة «المسيحية» الجديدة على الأراضي المغولية القديمة، وفي منتصف مسيرة بريلوي، أصبحت خسارة السلطة الإسلامية هذه تحتل مكانة محورية في فكره. وعندما عاد بريلوي من الحج في مكة في أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر، مشبعا بحماس جديد لقمع «البدع» التي تسللت إلى الإيمان، تعهد بتأسيس دولة إسلامية جديدة قائمة على الالتزام بالشريعة. وأثناء وجوده في مكة، كان اثنان من أتباعه قد سافرا بالفعل إلى كلكتا لاستخدام التقنية الاستعمارية التي كانت تتطور هناك من أجل الطباعة باللغات الإسلامية، وفي عام 1823 نشرا كتاب «الصراط المستقيم» الذي ضم تعاليم بريلوي.
12
صفحه نامشخص