سودان
السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية (الجزء الثاني)
ژانرها
لمناسبة الأحوال السياسية الحاضرة في وادي النيل وما تبديه صحف لندن من مختلف الآراء بشأن السودان أود أن ألفت الرأي العام البريطاني بواسطة جريدتكم - إذا أذنتم - إلى الوقائع الآتية:
لما وقعت حادثة مارشان الشهيرة في السودان، كان الإنكليز يقولون: إن السودان لمصر ومن مصر. ثم ادعوا أنهم شركاء فيه بإرادة مصر. فلما أعلنت مصر بطلان هذه الشركة قالوا: إنهم ساعدوا على استرجاعه ولولاهم لما تم هذا الاسترجاع.
ولما كانت إعانتهم لمصر في استرجاع السودان قد حصلت فعلا أردنا هنا أن نبين للقارئ أنهم هم الذين كانوا السبب في ضياعه، وأنهم وإن كانوا أعانوها على استرجاعه، فقد كانت في غير حاجة إلى هذه الإعانة، وإلى القارئ الأدلة: (1)
أن مصر فتحت السودان وحدها سنة 1820م، وبقيت سلطتها فيه قائمة لم يعترها ضعف ولا وهن إلى سنة 1881م والسودان يومئذ آهل بسكانه زاخر برؤسائه وملوكه. فمن قدر على فتحه في هذه الحال وعلى حفظ نفوذه وسلطانه عليه اثنتين وستين سنة. فلا شك أنه يكون قادرا على استرجاعه بدون مساعد. (2)
أن الثورة العرابية ابتدأت في مصر في 6 فبراير سنة 1881م، وابتدأت الثورة المهدية في السودان في 12 أغسطس سنة 1881م أيضا، كأنما الثورتان كانتا على ميعاد. فلما اختل الأصل - وهو مصر - اختل الفرع وهو السودان. ومن سوء الحظ أن حكمدار السودان وقتئذ كان رؤوف باشا، وهو رجل خلو من الكفاءة والتدبير ، إذ لو كان على شيء منهما لقضي على ثورة المهدي في السودان في إبانها. فقد أبلغه رئيس كبير موثوق به وهو السيد محمد الشريف أكبر مشايخ الطرق في السودان أمر هذا المدعي وحذره عاقبة الإهمال، فلم يأبه لقوله ولم يستيقظ من سباته حتى أرسل إليه هذا المفتون كتابا يدعوه فيه إلى الدخول في شيعته والإيمان به. وبدلا من أن يرسل إليه عقب ذلك من يقبض عليه في الحال أرسل ينصح له فرده خائبا. ثم بعد لأي وتردد، أرسل إليه تجريدة صغيرة أوقع بها المهدي وهزمها شر هزيمة، فكان هذا أول وهن أصاب هيبة الحكومة في السودان، فقد انتشر خبر هذه الواقعة في جميع أنحائه وتناقل الرواة حديثها بغلو كبير، وعدتها العامة من المعجزات التي تدل على صدق محمد أحمد في دعوى المهدية. ثم جرد عليه تجريدات أخرى كان نصيبها نصيب الأولى. فانحطت كرامة الحكومة في عيون أهل السودان وصدقوا دعوى المهدي.
ولما بلغت هذه الأخبار السيئة الحكومة عينت عبد القادر حلمي باشا بدلا من رؤوف باشا؛ وحسنا فعلت فإن هذا الحكمدار الجديد أظهر همة عالية وكفاءة نادرة في قمع الثورة بعدما استطار شررها واستفحل أمرها، وكان قد طلب من الحكومة عشرة آلاف جندي. ولما لم تجبه إلى طلبه لارتباكها بالثورة العرابية جند من أهالي السودان جيشا صغيرا، دربه بنفسه وضم إليه ست أورط كانت في السودان الشرقي، وحمل بهذا الجيش الصغير على الثوار فأبادهم وشتت شملهم ورفع الحصار عن حامية سنار. فهدأت الحال وخمدت جذور الثورة، ولم يبق في يد المهدي سوى مديرية واحدة هي مديرية كردفان ولا من أتباعه العصاة في النواحي سوى نفر قليل في الجزيرة بقيادة زعيم لهم يدعى أحمد الكاشف.
فأنت ترى أن عبد القادر حلمي باشا بجيشه الصغير استرجع السودان أو كاد، ولو أرسل إليه الجيش الذي أرسل إلى هكس؛ لتم على يديه استرجاع السودان بدون عناء. ولكن عندما وصلت هذه الأخبار السارة إلى مصر، وكان ذلك في أوائل سنة 1883م وقد احتلتها الإنكليز وأصبح في يدهم تصريف أمورها صدرت الأوامر بعزل عبد القادر باشا لهذا السبب المقلوب في الوقت الذي قال في حقه المهدي في إحدى خطبه: «ليس بين رجال الحكومة التي أناوئها رجل كعبد القادر كثير الدهاء والحيل مع الشجاعة؛ مما يجعلني أضرع إلى الله أن يكفيني وأصحابي شره. وإنني أحتم على كل المؤمنين الذين دخلوا في دعوتي أن يجتنبوا القيام في الجزيرة بأي مشاغبة تضطرهم إلى الوقوف في ساحات الحرب مع عبد القادر باشا. وأوصيهم بكتمان دعوتي وعدم الظهور بها في الجزيرة ما دام عبد القادر باشا متوليا على السودان، وليواظب كل أصحابي على رفع أصواتهم بعد كل صلاة بهذه الدعوة: «اللهم يا قوي يا قادر، اكفنا شر عبد القادر.»
وقد كتب عبد القادر باشا بعد عودته من الخرطوم تقريرا وافيا للحكومة بما يجب عليها عمله. وملخصه عدم تسيير حملة إلى المهدي في كردفان والاكتفاء بإقامة الحصون على حدودها وحصر المهدي فيها حتى تنضب منها موارد اليسار القليلة التي لا يمكن أن تقوم بنفقات الملتفين حوله، فلا يمضي زمن حتى يشعروا بالضيق فيطلبوا الخلاص من جور المهدية. ولا سبيل لهم إلى نيل هذا الغرض إلا بمظاهرة الحكومة وموالاتها فيسهل عليها حينئذ قهر المهدي بقوة يسيرة.
هذا كان رأي عبد القادر باشا، ولكن حكومة ذلك الوقت التي عزلته بسبب ما أظهره من الكفاءة وأحرز من الانتصار، ليس من المعقول أن تعمل برأيه؛ فضربت بتقريره عرض الحائط، وعينت بدلا منه علاء الدين باشا. فتولى علاء الدين باشا منصب حكمدار السودان. ولكن حصرت سلطته في الإدارة الملكية وجعل سليمان نيازي باشا قائدا عاما وهكس باشا رئيسا لأركان حربه، وأرسل إلى السودان بقيادته جيش وصل إلى الخرطوم في مارس سنة 1883م، وهو مؤلف مما يأتي:
آلاي رقم 1 مشاة تحت قيادة الميرالاي سليم عوني بك عدده
صفحه نامشخص