يتلاعبون بالسودان، ويدعون ادعاء باطلا أن لوزارة الأشغال المصرية حق الإشراف على ماء النيل والتصرف به، ويعتبرون الوكالة الإنجليزية بالقاهرة «الوسيط» بين مصر والسودان فيعطونها باسم الوساطة السلطة على ماء النيل، ويعدون على السودان القروض المالية لبناء الخزانات لري 300 ألف فدان، ولا يحسبون لمصر شيئا مما دفعت من الأموال ولا تزال تدفع إلى الآن، ويدعون ملكية البلاد باسم أموال الشركات وليس للشركة إلا منفعة ما ملكت، ويدخلون الأوغندا في الإشراف على ماء النيل ويعدونها «قوة ثالثة» حتى جعلوا ماء النيل في نظرهم مشاعا بين مصر والسودان والأوغندا، وقد يدخلون الحبشة غدا «قوة رابعة» فيزداد إشراف إنكلترا وحدها على هذه القوى الثلاث أو الأربع، ثم توقع بين هذه الأقطار لتظل لها سلطة الحكم. إن الإنكليز سائرون معنا على الطريقة التي اتبعوها في الهند، فالواجب علينا أن نعرف غرضهم وأسلوبهم؛ لنعرف كيف نحفظ حقوقنا، وكيف نحول دون لعبهم بنا، وكيف نتمسك بملك السودان الذي إذا ضاع ضاعت لضياعه مصر وثروتها واستقلالها الذي نمني النفس به ونجاهد ونكافح في سبيله.
الهند بلاد ذات مدنية قديمة معروفة بالتاريخ كمدنية المصريين. دخلها الإنكليز بشركة تجارية تسمى «شركة الهند الشرقية» وهي إذا قورنت بشركة استثمار أراضي الجزيرة في السودان كانت شديدة الشبه بها بل كانت هي هي. فتلك الشركة التجارية التي دخلت الهند صعب عليها في حين من الأحيان مواصلة عملها فاشترتها الحكومة الإنكليزية، فصارت أملاك تلك الشركة «أرضا للتاج» وهذه الأرض «أرض التاج» ليس فيها راجات ولا أمراء وهي محوطة بعدة مقاطعات مستقلة كحيدر آباد وبلوخستان، وفيها مندوب سام بريطاني كما نحن نرى الآن في السودان والأوغندا وفلسطين، وأن يكون حاكم السودان وسردار الجيش المصري لا يلقب بالمندوب فإنه بسلطته العليا على السودان وهي سلطة مستمدة من حكومة جلالة الملك، ألغى قرارا أصدرته حكومة مصر بإيقاف العمل بخزان مكوار. فحدث أن المندوب السامي في المقاطعة الهندية المستقلة طلب السماح له بتحويل المياه الضائعة بمقاطعة إلى جهة أراضي التاج؛ لإحيائها ولنفع الأهالي ممن هم تحت رعاية جلالة الملك بها، فتم لهم ما يريدون؛ لأنهم هم الذين يطلبون وهم الذين يعطون، ومهمة المندوب السامي في الهند كحكم بين المقاطعات.
وإليك نبذة مما كتبته مجلة المهندسين الهندية عن مشروع يسمى مشروع باريار، وهو أكبر مشروع للري بالهند، فقالت في 12 أغسطس 1922 عن هذا المشروع: «إن مشروع «باريار» لهو أكبر مشروع للري في الهند فلم يكن يستفاد في ما مضى من المياه الغزيرة في أراضي حكومة ترافانكور؛ لأن نهر «باريار» كان يجري من منبعه إلى مصبه في البحر دون أن تجتنى أدنى فائدة كبيرة من مياهه؛ فحكومة مدارس أدركت فوائد هذا النهر الجسيمة ففاوضت حكومة ترافنكور بشأنه للتوصل إلى اتفاق للاستفادة من المياه الضائعة، وفي النهاية تم الاتفاق بينهما، ورضيت حكومة ترافنكور بإنشاء سد وحوض عظيم على النهر تتحول به المياه إلى مقاطعات واسعة واقعة في المنطقة البريطانية.
وكان المشروع عظيما أنفق عليه ملايين من الروبيات، وعندما أكمل ظهر أنه خير وسيلة للاستفادة من ملايين الأطنان من المياه التي تجري إلى مقاطعات يسكنها ألوف من الناس، ويستخدمونها للزرع والضرع.
وقد أنشئ السد في 7 سنوات فتم إنشاؤه سنة 1895.
وتروي مياه هذا السد أراضي واسعة جدا تحولت من صحراء جدباء إلى مروج خصبة، ولم يكن هذا المشروع ثروة عظيمة للمزارعين فقط؛ بل كان عملا ماليا جليلا، وقد بدأت أرباحه بالظهور منذ ابتدائه تقريبا، وما زالت في ازدياد متواصل، وزادت في سنة 1915-1916 على مائه ألف روبية، وكان دخله نحو
في المئة، وهكذا نرى أن مشروع «باريار» لم يقتصر على إحياء ألوف من الأفدنة من الأرض الموات؛ بل عاد على الحكومة بأرباح النفقات التي أنفقتها» ا.ه.
أفلا يشتم القارئ من ذلك رائحة مشروع الجزيرة، وتحويل أحد النهرين الكبيرين إليه برضا المندوب السامي الذي وصفوه بأنه خير وسيط بين مصر والسودان كما فعل المندوب السامي بين باريار وترافنكور. •••
لا ننسى أن إنكلترا تذرعت قبل اليوم بكل الوسائل ليكون مكتشفو ينابيع النيل من الإنكليز على نفقة الحكومة المصرية؛ لأنها كانت ترمي بأنظارها إلى مصر منذ أخرجت منها ناپوليون سنة 1798، ومنذ فسخت معاهدة أميان سنة 1805، فأطلق صموئيل باكر والذين تقدموه اسم ملكتهم وولي عهدهم على منابع النيل كبحيرة فيكتوريا وبحيرة ألبرت نيانزا، لا احتراما لملكتهم وزوجها فقط؛ بل لتظل هذه الأسماء راسخة في أذهان الشعب الإنكليزي يشعر بأنه ورثها عن آبائه وأجداده لا يجوز أن ينازعه فيها منازع، وإذا كان بعد النظر في الأفراد فضيلة فإنه في سياسة الدول والأمم من أجل الفضائل وأسناها وأسماها، فالإنكليز لم يكتفوا بما تقدم بل زادوا عليه بعد احتلال السودان محو أسماء المصريين كإبراهيم وإسماعيل وغيرهما بعد أن أطلقت على الأنهر والبحيرات والمدن والمواقع والقلاع والحصون التي أقامها المصريون في تلك البقاع والأصقاع فصارت إنكليزية بعد أن كانت مصرية فامحت من تلك البلاد أسماء المصريين وحلت محلها أسماء الإنكليز.
وإذا ما أردنا شاهدا أجنبيا غير تاريخ الإنكليز في مصر والهند والسودان فلدينا كتاب أوجين أوبين في «الإنكليز بالهند ومصر» بعدما صرف هذا الباحث السنين الطوال في الهند وصرف مدة غير قصيرة في مصر، فقال في الصفحة 217: «إن مصر إقليم زراعي قوام حياته ووجوده الري، والمصريون شعب هادئ، يعرف الإنكليز عنهم ذلك، وقد دلهم طول الاختبار في بلاد الهند على أقوم طريق وأسهل سبيل في حكم المصريين، فوضعوا منذ الساعة الأولى يدهم على الري وعلى البوليس، فبواسطة البوليس والري استعبد الإنكليز مصر.»
صفحه نامشخص