هوامش
بعد الاتفاقين
بعد جلاء الفرنساويين عن فاشودة وقبل إبرام اتفاق 19 يناير بين مصر وإنكلترا واتفاق 21 مارس 1899 بين إنكلترا وفرنسا، تساءل الإنكليز - وقد خلا لهم الجو فباتوا ولا منازع ولا خصيم لهم - يتساءلون: أي السياسة يتبعون؟ أيضمون السودان إلى أملاكهم؟ إنهم إذا ما فعلوا لا يجدون مقاوما بعد إغضاء أوربا وخمول تركيا، وقالوا: إذا ما ضمت إنكلترا السودان إلى أملاكها بات السودان وكأنه الزورق المعلق به خيط كل ذي نسمة حية في مصر وضربة واحدة من مقص خفيف على ذلك الخيط النحيف تقطع الخيط، وضربة معول في مجرى النيل تحول ماءه أو بعض ذلك الماء عن مصر، وقال أصحاب هذا الرأي منهم: إن إنكلترا إذا ضمت السودان إلى أملاكها لا تعمل شيئا جديدا ولكنها تحول الموقوت إلى دائم. ألم ترفع علمها على الأوغندا وخط الاستواء وأونيور وبحر الغزال والخرطوم؟ ألم تنزل جنودها في سواكن وزيلع وبربره؟؟
على أن قوما آخرين اعترضوا على الضم، وأخذت الحكومة توازن بين الفائدة والخسارة، ولم يخطر ببالها أن تنظر إلى المسألة من الوجهة القانونية ولا إلى مواعيدها بالجلاء ولا إلى ما ماثل ذلك وحاكاه؛ بل نظرت إلى المنفعة.
وكانت للورد كرومر في النهاية الكلمة العليا فأبرم اتفاق 19 يناير 1899 بنصه وآرائه، وإليك خلاصة ما قاله عن ذلك في تقريره لعام 1899 وقد كان ذلك القول قاعدة سياستهم في ما بعد:
السودان هوة تبتلع الملايين كما يذوب الثلج في حر الشمس فهو سبب وهن المالية المصرية وضعفها، وقد أنفقت فيه إنكلترا مبالغ طائلة أملت استعادتها عند تصفية الحساب، ففي 4 أغسطس 1884 قرر مجلس النواب فتح اعتماد 300 ألف جنيه لحملة ولسلي لينقذ غوردون فوصل هذا الاعتماد الضئيل إلى 11 مليون جنيه، وفي سنة 1896 وعدت الوزارة مجلس النواب بأنها لا ترتكب مثل هذه الهفوة مرة أخرى. فإذا ضمت السودان إلى أملاكها فإنها تضاعف تلك الهفوة.
ذلك ما دعا اللورد كرومر إلى جعل السودان شركة بين مصر وإنكلترا فتغنم إنكلترا وتتحمل مصر متاعب الخدمة وأعباء النفقة، فمصر أنفقت على حملة دنقلة وحدها 8 ملايين جنيه، وإنكلترا أقرضت مصر مبلغ 798802ج ثم تنازلت لها عن هذا المبلغ، وأخذت حكومة مصر تبيع ما استطاعت بيعه بأمر إنكلترا، فباعت البواخر الخديوية والحياض، وحولت جميع الاعتمادات المفتوحة في أبواب الميزانية إلى نفقات السودان، وباعت التفاتيش والأراضي؛ حتى أخذت صحافة مصر تعنون تلك المبيعات بعنوان: «مصر في المزاد».
وقبل أن يعلن ذلك الاتفاق خطب اللورد كرومر في الخرطوم في 5 يناير فأشار إلى هذه الشركة الغريبة.
غريبة لأنه إذا ما قيل إن من الشركة بالحكم ما يكون مثنويا فإن هذه الشركة لا توازن فيها بين الشريكين؛ لأن لإنكلترا على ما نص قانون الشركة التفرد بالسيادة، وإذا ما قيل إن من الشركة في الحماية ما هو معروف كحماية إنكلترا وأميركا وألمانيا لجزر سامواي نفى الفعل هذا القول؛ لأن الحكومة الإنكليزية تعتبر السودان المصري أرضا مفتوحة بقوة جيوشها ويتولى إدارتها رجالها. قال المسيو دبانيه: «المسألة ليست مسألة قول وكلام فمصر تحت نظام الحماية الإنكليزية، وأما السودان فإن عمل مصر السلبي فيه يجعله فعلا أرضا من أملاك إنكلترا» أما إذا نظرنا إلى الاتفاق من الوجهة القانونية فإنا نحكم بلا تردد بأنه اتفاق باطل؛ لأنه لم يكن يسوغ لمصر عقد مثل هذا الاتفاق، ولا يسوغ للخديوي توقيعه وهو مولى من السلطان مع أملاك سلطانية، ولا يجوز لإنكلترا إبرامه لارتباطها بعهود ومواثيق مع الدول، وفوق هذا كله أنه لا يحق لمصر ولا لإنكلترا المساس بحقوق للدول.
ولما سئل اللورد سالسبوري في مجلس نوابهم في 6 فبراير 1899 عن اتفاق 1899 كان جوابه غريبا كقوله: «لقد ينقضي زمن طويل قبل أن يستولى الهدوء والسكون على السودان كما يستولى الآن على أحد شوارع لندن، وأوجه نظر السائل إلى رجل اشتهر في تاريخ إنكلترا حتى لقبوه بغليوم الفاتح على أنه لم يفتح إنكلترا وبلاد الغال كلها - إلى أن قال - إنا نضع يدنا على السودان لسببين؛ الأول: أن السودان من أملاك مصر التي نحتلها، والثاني: حق الفتح.» ولكن هذا القول يدفعه كتاب بطرس باشا غالي إلى اللورد كرومر في سنة 1898 وصدور الأمر الخديوي في 15 يناير 1884 بإلحاق السودان بوزارة الحربية، فالسودان لم يكن في حين من الأحيان «ملكا بلا مالك» حتى يصلح الادعاء فيه بحق الفتح وإنكلترا ذاتها احتجت على هذا الادعاء في سنة 1898 لما وصل مارشان إلى فاشودة، فقالت: إن للسودان مالكا هو الخديوي فلا يجوز لدولة من الدول احتلال هذا الملك مع وجود مالكه، أما حق الفتح فهو محفوظ لمصر وحدها؛ لأن محمد علي وإسماعيل لم يكونا مندوبي إنكلترا في فتح السودان، وإذا كانت إنكلترا قد ساعدت الخديوي عباسا الثاني على استعادة أملاكه أو بالأحرى على تسكينها وقطع دابر الثوار فيها، فهي لم تدع إلى ذلك ولم تشترط على الخديوي شرطا في عمل تطوعت له وتبرعت به، ولو أنها عقدت معه شروطا لكانت تلك الشروط باطلة؛ لأنه لا يملك حق التعاقد على أرض هي تحت سيادة سلطان تركيا. فأصح من قول اللورد سالسبوري يومئذ قول وزير الخارجية برودريك في جلسة 18 فبراير 1899: «نحن لم نرتبط في مسألة السودان بعهد ولا بقانون ولا نظام.»
صفحه نامشخص