وتحاول أن تهرب فلا يدعك، يستمهلك ليفرغ جرابه، وجرابه هاوية هيهات أن يدرك آخرها، وإذا ضاق الحرف معه عاد إلى صحتك الغالية فيسأل عنها، وقد لا ينسى في ذاك المضيق أن يسأل عن كل ما عندك من مال ناطق وصامت، وعليك أن تجيبه على كل سؤال، وإلا فأنت متكبر لا تكلم الناس إلا من فوق. كل هذا وهو ممسك بيدك الكريمة لا يفلتها، بل يظل يعصرها حتى لا يبقي في عنقودها غير العماشيش.
وقد تكون على موعد فتحاول أن تتفلت منه، ولكن من أين لك ذلك وقد علقت في شراكه علوق الذبابة في عش الرتيلاء؟
هذه ضروب العناء التي تصادفها مشيا. أما إذا رمتك الأقدار بزائر يرى من الضرورة أن يقص عليك تاريخ حياته منذ دب وشب واكتهل وشاخ، وما صادف من أهوال وما فعل من فعلات كبار في حياته، فهناك الويل والبلاء فإنه يصل بعض أقاصيصه ببعض لا يقسمها كشهر زاد؛ لأنه يعتقد أن زيارته لك يجب أن تكون حافلة بالأعاجيب السندبادية، فينتقل بك من حكاية إلى حكاية يصلها ببراعة عجيبة، بينما تكون أنت ساهيا صامتا تنتظر النهاية ولا نهاية.
وماذا تقدر أن تعمل؟ هل تتركه في مكتبك أو في بيتك وتودعه على أمل اللقاء؟ أما هو فلا يدعك حتى يشبع، وإذا تحلحل للذهاب وقلت له: اقعد، أناخ عليك بكلكل ليل امرئ القيس.
عدت مرة سيدة ثرثارة، وكنت آنذاك مقيدا بمواقيت معينة لا تستقدم ولا تستأخر، فغاصت حضرتها في بحر الحديث وراحت تصارع غماره، فلا تذهب موجة حتى تجيء واحدة أكبر منها. وظللت أنتظر النهاية وأنظر إلى عقارب الساعة ولا أدري ماذا أصنع، وبماذا أحتال لأخرج من هذا البحر الهائج، فمن قلة الذوق والكياسة أن تودع محدثك وتنصرف وهو في منتصف حديثه. وبينما كنت أنا في التفكير كان الله في التدبير، جاءتها نوبة حادة من السعال فتعذر عليها الكلام، واغتنمت الفرصة وودعت معتذرا: «صار الوقت ...» وخرجت أهرول، كنت لا أزال شابا فقطعت في خمس دقائق مسافة يقتضى لها ربع ساعة، وهكذا لم يفتني قطار المدرسة ونجوت من لوم مديري.
وإذا دخلت دكانا لتشتري حاجة - ولو صغيرة - اضطررت إلى الوقوف ساعة تقضيها في المساومة، ويدق قلبك تسعين دقة، وتروح وتجيء حتى ينزل السعر نصف قيمته إن لم يكن ثلاثة أرباعه، فكأن صاحب ذلك الدكان لا شغل له، وهو ينتظر رجلا يباحثه ويجادله فلا يبيعه شيئا إلا بعد كر وفر في الجدال والنضال، فلو قال صاحبنا هذه الكلمة الفصل أما أراح واستراح؟
وكما في البائعين كذلك في الشارين أناس يعتقدون أن كلمة «السعر محدود» خلطة، أو أنها أحبولة تصطاد بها الزبائن؛ ولذلك يقبل بعضنا على المخازن التي تساوم فيكر فيها ويفر، ويفتح ميدان الكذب من الجانبين والله ينصر من يشاء.
تلك حالات من أحوالنا وعادات من عاداتنا، نحب تكرار الكلام، ونعتقد أنه ضرب من الوفاء والإخلاص والفصاحة واللسن، ولو عدلنا لأقللنا من هذه العبارات المملولة التي هي على حد قول جميل بثينة: «لكل خطاب يا بثين جواب.» فما أجمل الحديث متى كان أخذا وردا، وليس فيه من التكرار الذي يفلق السامع وقائله يظن أنه السحر والدر!
يقول شيشرون أمير المنابر: «الاختصار هو خير الكلام لمن كان عضوا في مجلس الأعيان أو خطيبا في المحافل.» أما أنا فأقول: «الإيجاز أوجب ما يكون في السوق، وفي الطريق إلى مراكز الأعمال، وفي الزيارات في مكاتب الأشغال، فقد يكون الرجل الذي تفجر على رأسه هذه القنابل الشفوية قد جاء متأخرا عن موعده لسبب من الأسباب، فكيف نزيد في طينة تهاونه بلة؟!»
قال أحدهم: «الكلمات كأوراق الأشجار، فحيثما تتلبد يندر أن يكون تحتها ثمر.» إن لوثر المصلح الديني المشهور يرى أن الصلاة الأكثر اختصارا هي الأشد وقعا لديه تعالى.
صفحه نامشخص