أرق أرق الأعشى وما أغمض عينيه، فصاحت الديوك وحضرته مستيقظ، وغدت البنت عليه تحمل فنجان القهوة ووكدها في الجواب، فما كادت تطل حتى صاح بها: «حرمتني النوم يا بنتي، يا ليتني نمت في الخان وما نمت عندكم!»
إن هذا ما أصابني أنا تماما، إنني أحمل هاتين الأذنين منذ ثمانية وستين عاما وما فكرت بهما إلا ليلة أمس، تصورت أنني بأذن واحدة وكيف يكون منظري، فقلت: «ربما جعلتا للتوازن؛ فالطبيعة مهندس عبقري، تبدع الأشياء طبقا للبركار والزاوية.» ولكنني عدت وقلت: «في الدنيا مشاهد كثيرة أبشع من منظر إنسان بأذن واحدة، ومع ذلك يتعودها الإنسان ويألفها.»
وأعدت الكرة فامتحنت العينين فوجدت الحالة فيهما غير حالة الأذنين؛ فالأعور غير الأصلم. وبعد تفكير غير عميق انقلبت إلى الشفتين فقلت: «لهاتين حاجة لا تنكر، وكذلك الأسنان، ولكن اللسان لماذا جعل واحدا؟ ولماذا لم نخلق بلسانين؟»
وانقضى الليل وأقبل الصبح وجاء هذا الفكر معه، ولولا انشغالي بما علي من واجبات لأصبحت من أصحاب الفكرة الثابتة.
وكان لي جار تعجبني روحه الخفيفة وذكاؤه الطبيعي، رجل أمي علمه الدهر؛ إذ لم يعلمه أبوه، فما رأيته مقبلا يهدج حتى مرحبته من بعيد، فتهلل وجهه كعادته، ثم أخذ يتهيأ للقعود حدي، وبعد جهد وعناء برك تحت أثقال التسعين، ولما تمكن من مجلسه تنهد ثم قال: «خير إن شاء الله؟ ما وراء هذا السلام الذي رشقتني به؟»
فقلت له: «عقدة لا يفكها أحد غيرك، حرمتني النوم وأفسدت علي يومي، وأخيرا قلت: ما لها غير بو حسن.»
فتأوه وقال: «وماذا بقي من بو حسن؟ خرف عمك بو حسن، صرنا بربع عقل.» - عقلك كامل يا شيخ الشباب، ما عندنا عقول مثل عقلك. - هذا لطف منك، رحنا ...
والتفت لأرى هل ضاعت ثقته بنفسه حقا، فرأيت على وجهه اطمئنانا دلني على أنه لا يصدق ما يقول، وهو يوصوص عينيه كأنه يستجمع قواه ليتلقى الضربة؛ فهو من الذين لا يقولون لا أعرف، فصيح طبعا، وكل فصيح لا يتلكأ عن الجواب أخطأ أم أصاب؛ فقلت: البارحة يا عمي بو حسن فكرت بأذني، وقلت: «لماذا لم تخلقنا الطبيعة بأذن واحدة؟» وقد جربت الأذن فوجدتها بعكس العين.
فقال: «وما سألت نفسك لماذا خلقنا بلسان واحد؟»
قلت: «خطر على البال هذا السؤال، ولكنه كان ضيفا غير ثقيل.» فاستضحك وقال: «مع أن أذنيك غير كبيرتين.»
صفحه نامشخص