5
ويعترف إنجلز - على ما يقال - بأنه يؤمن بفكرة اسپينوزا القائلة: إن الامتداد والفكر صفتان لجوهر واحد؛ لأن الفكرة ليست لها من دلالة سوى الدلالة المادية.
6
هذا الازدواج والتضاد في تفسير فكرة الله عند اسپينوزا - وبالتالي في تفسير الاتجاه العام لفلسفته - أمر طبيعي؛ ذلك لأنه حين يصبح الله علة كامنة أو حالة في العالم، يغدو من الطبيعي أن تتشعب التفسيرات في اتجاهين متضادين: اتجاه يذهب إلى أنه صبغ الطبيعة والكون بالصبغة الإلهية، واتجاه آخر لا يستخلص من ذلك سوى أن اسپينوزا قد أنكر فكرة العلة الأولى، وفكرة الخلق، ووجود علاقة مزدوجة بين الله والطبيعة؛ وبالتالي أنكر كل موجود يعلو على الطبيعة.
هذان الاتجاهان ممكنان «نظريا» على الدوام. ومن المحال أن يتمكن الباحث من المفاضلة بينهما طالما كان يفسر فلسفة اسپينوزا تفسيرا حرفيا. ومع ذلك، فهناك في رأينا وسائل للمفاضلة بين هذين التفسيرين. وهذه الوسائل تؤدي حتما إلى إنكار التفسير اللاهوتي، وتأكيد التفسير «الطبيعي» للفكرة. (أ)
إحدى هذه الوسائل هي ربط الفكرة بالسياق العام لحياة اسپينوزا ومذهبه، فحين تختبر الفكرة في سياق حياته، التي كانت حافلة بمظاهر الثورة على التقاليد ولا سيما الدينية منها، والتي كان من وقائعها الحاسمة طرده من الطائفة اليهودية وعدم اعتناقه أي مذهب آخر بعد ذلك؛ عندئذ يبدو التفسير «الطبيعي» مرجحا على التفسير اللاهوتي إلى حد بعيد.
ويزداد هذا الترجيح قوة إذا ما نظر إلى الفكرة في ضوء بقية أوجه مذهب اسپينوزا، بل إن هذه الأوجه تكاد تفقد كل معنى لها إذا فهمت فكرة الله عنده فهما لاهوتيا؛ فلماذا، مثلا، اعترض اسپينوزا على فكرة حرية الإرادة؟ ولماذا سعى إلى القضاء على ثنائية النفس والجسم، مؤكدا أنهما وجهان لحقيقة واحدة؟ ولماذا أكد الحتمية وسيادة العلية، وحمل بقوة على كل تفسير للظواهر من خلال فكرة العرضية أو الاتفاق؟ ولماذا كرس كل هذه الجهود لمحاربة فكرة الغائية؟ إن كل وجه من هذه الأوجه في مذهبه لا يكون مفهوما على الإطلاق إلا في ضوء تغليب فكرة الطبيعة في المعادلة المشهورة: الله = الطبيعة. وإذا كانت نصوص اسپينوزا وأسلوبه المباشر يؤديان في كثير من الأحيان إلى بث الحيرة في نفس القارئ، ويدفع الكثير من الشراح إلى الإتيان بتفسير صوفي أو روحي لفكرة الله عنده، فعلى هؤلاء أن يذكروا دائما أن هذه الفكرة ترتبط بسياق عام ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار، وأن هذا السياق يتضمن مجموعة كاملة من الآراء التي تؤدي كلها - سواء شاء المرء أو لم يشأ - إلى استبعاد العناصر الروحية وتأكيد الفهم الحتمي الدقيق للعالم. ولا جدال في أن الاحتكام إلى هذا السياق كلما تعذرت المفاضلة بين التفسيرات يؤدي إلى وضع حد لكل شك على الفور. (ب)
والوسيلة الثانية هي النظر إلى الفكرة من خلال التفسير الذي قدمناه للمنهج الهندسي، وهو التفسير الذي أكدنا فيه التجاء اسپينوزا إلى طريقة استخدام المصطلح المدرسي واللاهوتي التقليدي بمعان جديدة كل الجدة، وقلنا بوجوب البحث من وراء الألفاظ البريئة عن معانيها الثورية العميقة الكامنة. وبتطبيق هذا المنهج على المشكلة التي نحن بصددها، تغدو فكرة الألوهية هي المحور الذي تدور حوله عملية التعبير الحذر عند اسپينوزا، ويكون أقوى مظاهر الحذر عنده هو تكرار لفظ «الله» في فلسفته إلى الحد الذي يوحي للقارئ الساذج بأن الفكرة، بكل ارتباطاتها المقصودة تكون مختلفة كل الاختلاف عن هذه الدلالة الظاهرة.
وبعبارة أخرى: فعلينا هنا أن نجيب على سؤال أساسي: هل يتحدد موقف اسپينوزا من فكرة الله على أساس كثرة استخدامه لها؟ ألا يمكن أن يكون قد أنكر أصول الفكرة ذاتها رغم تكراره الشديد لها؟ وهل العلامة الوحيدة لإنكار الفكرة هي الامتناع عن استخدام اللفظ ذاته، أم أن هناك علامات أخرى أهم وأخطر؟ من المؤكد أن معظم من كتبوا عن اسپينوزا، أو من تأملوا أفكاره بطريقة رومانتيكية، قد تأثروا بالوجه اللفظي لفلسفة اسپينوزا وتجاهلوا معانيها الحقيقية إلى حد بعيد، واستبعدوا تماما أن يكون اسپينوزا قد أنكر فكرة الله، طالما أنهم رأوا اللفظ ذاته يردد على الدوام. أما المعاني ذاتها فقد توارت أهميتها إلى حد كبير في ظل الارتباطات الانفعالية القوية التي يثيرها «اللفظ» مجردا، في الأذهان. أما اسپينوزا ذاته، فهو، على الأرجح، لم يكن ممن يهتمون بالألفاظ، وطالما ردد أنه لا يعبأ بالاسم الذي نطلقه على أي معنى، ما دام المعنى ذاته معترفا به، وهو على أية حال لم يكن يهمه في قليل أو كثير، أن يدخل في صراع مع لفظ
Deus
صفحه نامشخص