وأنه، مع نزوعه إلى التصوف، كان مفكرا «يساريا» بالمعنى الحديث، يؤمن باشتراكية التملك وبضرورة التخلي عن أخلاق المال وقيم التجار. ومنهم من يصوره مفكرا متحالفا مع البورجوازية، يفلسف قيم الطبقة الرأسمالية الآخذة في الظهور في عصره ويقبل هذه القيم بكل ما فيها من خير وشر، ويدافع عن طريقتها الجديدة في الحكم بكل قوته.
4
أما المفكرون اليهود، ولا سيما ذوو الاتجاهات الصهيونية المتعصبة منهم؛ فقد استغلوا كون اسپينوزا قد ولد لأبوين يهوديين، فحاولوا أن ينسبوا إليه - كما سنرى فيما بعد - شتى الأفكار المناصرة لدعواتهم، متجاهلين تماما واقعة خروجه على الطائفة اليهودية وطرده منها وإعلانه العداء الصريح لها.
وفي العهد النازي نجد من المفكرين الألمان من جعلوا منه عدوا خطيرا للأمة الألمانية - أو للجنس الجرماني على الأخص.
5
وأحدث ما في هذه التفسيرات، بطبيعة الحال، هو ذلك الذي يستغل اسپينوزا في الحرب الباردة، وبالفعل نجد من الكتاب من يؤكد أن اسپينوزا يفيد أمريكا في محاربتها للشيوعية، وأن تعاليمه يمكن أن تقتبس أثناء وضع الخطط اللازمة للدفاع ضد العدوان السوڨييتي في مجال الفكر، ويجد في بعض نصوصه ما يعتقد أنه يؤيد الرأي القائل بوجوب حل المنازعات بين الدول بالالتجاء إلى الأمم المتحدة!
6
كل هذا، وغيره كثير، يقال على الفيلسوف الذي كان أكثر من غيره حرصا على الكتابة بأسلوب غير شخصي، وعلى تجنب الإهابة بالعوامل الذاتية في كتاباته.
أما المنهج الهندسي؛ فقد كان خليقا بأن يستهوي العلماء أو ذوي الأذهان العلمية قبل غيرهم. وقد كان هذا بالفعل شأن ذلك المنهج. ومع ذلك تعود المفارقات السابقة إلى الظهور مرة أخرى في هذا السياق؛ فمن العجيب حقا أن هذا المنهج، الذي روعيت فيه الكتابة بلغة جافة، وعلى صورة نظريات وبراهين هندسية، والذي أكدت فيه الحتمية والضرورة العلمية بكل قوة، وانطوى على حملة شديدة على كل تشبيه بالإنسان، وإنكار لوجود أي مغزى أو دلالة لقيم البشر في الكون ذاته؛ هذا المنهج ذاته قد استهوى الشعراء إلى أبعد حد. وكان كتاب «الأخلاق»، الذي طبق فيه هذا المنهج من أقوى الكتب إلهاما لروح الشعر، وكم تغنى به شعراء مثل جيته ونوفالس! وهذا أمر غريب حقا، إذا أدركنا أن من مقومات الشعر الأساسية وجود نوع من تشبيه الطبيعة بالإنسان، أو صبغ الكون بصبغة القيم البشرية، ومن الإيمان بالانفعالات والعواطف (التي كانت عبودية في نظر اسپينوزا)، وبنوع من الحرية (التي أنكرتها حتمية اسپينوزا).
وهكذا يؤدي كتاب «الأخلاق» إلى نتائج تتعارض تماما مع صورته الظاهرة، ومنهجه الشكلي، ومع المقاصد والغايات التي أعلن مؤلفه نفسه أنه كان يستهدفها.
صفحه نامشخص