46
وهكذا يربط المؤلف اقتصار اسپينوزا على نسقين أو منظورين فقط (هما الفكر والامتداد) وبين حالة العلم في عصره، حين كانت للرياضة والفيزياء أهمية كبرى، بينما كانت بقية العلوم في مهدها أو لم تكشف بعد. وهو يرى أن كل علم آخر وصل بعد ذلك إلى مرحلة التقدم، كالاجتماع والكيمياء والأنثروبولوجيا وعلم الحياة ... إلخ. يمكن أن يعد نسقا أو منظورا ينضم إلى المنظورين الممكنين اللذين قال بهما اسپينوزا. (وبهذا يكون اسپينوزا قد توقع على الأقل إمكان كشف منظورات أخرى، حين قال إن صفات الجوهر لا متناهية، وإن لم نكن نعرف منها إلا اثنتين.)
وهذا التفسير في رأينا فيه قدر غير قليل من الإسراف؛ ذلك لأن الفكر والامتداد لا يقاسان بأية منظورات أخرى، كالمنظور الكيميائي أو البيولوجي مثلا، وإنما هما في مجال التجريد حدان نهائيان لا يقف إلى جانبهما شيء؛ أي إن ظواهر الكيمياء أو البيولوجيا مثلا يمكن، في نهاية الأمر، أن ترد إما إلى الفكر أو إلى الامتداد أو، على الأصح، إليهما معا مع فارق في درجة التأكيد. وكشف أي مجال علمي جديد لا يعني أننا نعرف الجوهر أو الكون، من خلال هذا المجال، عن طريق صفة أخرى تقف على قدم المساواة مع صفتي الامتداد والفكر ويكون لها قدر ما لهما من العمومية والتجريد؛ وعلى ذلك يمكن القول، بمعنى معين: إن قول اسپينوزا باقتصار المعرفة على صفتي الفكر والامتداد هو قول مستقل عن حالة العلم في أي عصر، لأنه يتعلق بتلك الصفات التي يمكن أن يرد إليها، آخر الأمر، أي وجه أو منظور آخر يكشف للواقع. (3)
الأحوال
modes : «أعني بالحال ما يطرأ على الجوهر، أو ما يوجد في شيء غير ذاته ويتصور بشيء غير ذاته.»
47
فأحوال الجوهر هي مكونات الكون أو محتوياته الجزئية، وأهم ما تتصف به هو اعتمادها على غيرها لكي توجد وتتصور. فهي لا تتصف بالضرورة وجودا ولا تصورا. وهي على هذا النحو تتمثل في الأشياء الفردية التي يحفل بها عالم التجربة، وهي رغم كونها «ما يطرأ على الجوهر»، ورغم كونها تفتقر إلى الضرورة، موجودات لا شك في حقيقتها، ولا يمكن أن تعد مظاهر خادعة أو زائلة، كما أنها ليست تشويها للجوهر أو تزييفا له، كما وصفت الأشياء الجزئية في كثير من المذاهب المثالية التالية، وإنما تقوم بغيرها وتفهم بغيرها، بحيث إن أي تفسير لها لا يمكن أن يكون كافيا إذا ما نظر إليها من خلال ذاتها، ولا بد أن تربط بالسياق العام الذي تنتمي إليه، والذي يتصف هو وحده بالضرورة المطلقة.
هذه هي المصطلحات الرئيسية الثلاثة التي يستخدمها اسپينوزا بتوسع، والتي ينبغي الإلمام بتعريف عام لها قبل خوض تفاصيل فلسفته. ومع ذلك ففي فلسفته دون شك عشرات المصطلحات الأخرى، وكلها ذات أهمية، ولكن الأفضل ترك هذه المصطلحات الأخرى لتشرح في سياقها من هذه الفلسفة، أما هذه المصطلحات الرئيسية التمهيدية التي شرحناها فقد تضلل القارئ إذا ما تركت دون إيضاح مبدئي؛ ولذا اقتصرنا عليها في هذا الباب.
الفصل الثالث
الاتجاه العلمي عند اسپينوزا
صفحه نامشخص