خاتمة
أسماء المراجع المذكورة في البحث
اسپينوزا
اسپينوزا
تأليف
فؤاد زكريا
مقدمة
في هذا الكتاب سوف يظهر اسپينوزا في صورة مختلفة كل الاختلاف عن تلك الصورة أو الصور التي تتبادر إلى الأذهان كلما عرض لها اسم هذا الفيلسوف. ولست أدعي أن هذه الصورة هي وحدها الصحيحة، وأن كل ما عداها باطل، ولكني أستطيع أن أقول مطمئنا من جهة، إنها رسمت بعد دراسة دقيقة للصور الأخرى المخالفة لها، وعن إدراك كامل للنظرة التقليدية إلى هذا المفكر العملاق. وأستطيع أن أقول مطمئنا من جهة أخرى، إن هذه الصورة الجديدة التي سنرسمها أكثر اتساقا من كل ما عداها، وإنها أقدر من غيرها على الجمع والتوفيق بين مواقف كثيرة لهذا الفيلسوف يظن في معظم الأحيان أنها منطوية على تناقض لا يرفع.
وأبدأ فأقول: إن تفكير اسپينوزا من ذلك النوع الذي يغري بأشد التفسيرات تضادا؛ فكتاباته، ولا سيما كتابه الأكبر «الأخلاق»، تغري كل عصر بأن يفسرها تبعا لمقتضياته الخاصة، وكل كاتب بأن يجد فيها انعكاسا لاتجاهاته الفكرية المفضلة. وهذه في الحق ظاهرة من أعجب الظواهر في تاريخ الفلسفة؛ فها هو ذا فيلسوف استخدم «المنهج الهندسي» في كتابه الرئيسي، وأراد من هذا الكتاب أن يكون نظيرا لمؤلف إقليدس الهندسي في عالم الفلسفة، وأكد أنه إنما أراد أن يعالج الانفعالات والمشاعر البشرية مثلما يعالج عالم الهندسة النقط والخطوط والمسطحات، وأن ينظر إليها نظرة علمية موضوعية تجردت من كل عناصر التفسير الشخصي أو الذاتي. مثل هذا الهدف كان كفيلا بأن يوحد آراء الشراح أو أن يقرب على الأقل بينها ويوجهها كلها وجهة متسقة، ولكن الأمر العجيب حقا هو أن ذلك الفيلسوف الذي أخفى شخصيته في كتاباته لأن العنصر في رأيه ينبغي أن يختفي ويتوارى، وأعلن ضرورة استبعاد العنصر الذاتي من التفكير الفلسفي، قد تأثر بذاتية المفسرين أكثر من أي مفكر آخر. وصحيح أن كل الفلاسفة الكبار يتعرضون حقا لتفسيرات متباينة، ولكن توجد في كل حالة، رغم ذلك، أسس مشتركة أو مبادئ عامة يتفق عليها الجميع، أو تقترب وجهات نظرهم بشأنها. أما في حالة اسپينوزا فالأسس الأولى لفلسفته، بل لشخصيته الفكرية ذاتها ولموقفه الحضاري نفسه، مختلف عليها إلى حد لا يترك مجالا لأي تقريب أو توفيق بين الآراء المتعارضة حوله.
فالصورة التقليدية لشخصية اسپينوزا هي صورة الفيلسوف المعتكف عن الناس، المنعزل عن العالم، الغارق في التأمل بين جدران بيته، بعيدا عن صخب العالم الخارجي وضجيجه. هذه الصورة التي ورثت عن مؤرخي حياته الأولين، ظلت هي التي يرسمها له أصحاب الاتجاهات التقليدية المحافظة. وقد اتخذت هذه الاتجاهات شتى الصور، ووصل بعضها إلى تشبيه فلسفته بالمذهب الهندوسي، والتقريب بين صفات الله عنده وبين «براهما» وبين رأيه في النفس والآراء الهندوسية في الروح المسماة «أتمن
صفحه نامشخص