161

وعلى هذا الأساس يمكننا أن ننظر إلى علاقة اسپينوزا بهذه المؤثرات المزعومة في ضوء جديد: فتعالج فلسفة اسپينوزا من حيث هي رد فعل على المذاهب اليهودية اللاهوتية والفلسفية في العصور الوسطى، ومن حيث هي نتيجة لانفصاله عن هذه المذاهب وخروجه عليها. وقد عبر «فوير» عن هذا المعنى تعبيرا رائعا حين قال: «لقد أدت القرون التي مر بها اليهود وهم في اضطهاد وفرار من بلد إلى آخر ومن قارة إلى أخرى، إلى جعلهم يفقدون المعقولية ويفتقرون إلى حب الإنسانية؛ فانطووا على أنفسهم متشبثين بحلم ظهور المسيح الجبار، الذي يستطيع بمعجزاته الوفيرة أن يجعل الدائرة تدور على مضطهديهم. ولقد كان حلم البعث وتحقيق الرسالة هذا مزيجا من التضخيم المرضي للذات، و«الپارانويا»، و«نرجسية» المضطهدين؛ فهو «فكرة غير كافية»، كما كان اسپينوزا خليقا بأن يسميها. أما اسپينوزا، الذي كان ذا ذهن علمي متحرر، والذي تخلص من روابط البيئة التي نشأ فيها، وحاول أن يندمج في عالم أوروبا الجديد، فلم تكن لديه طاقة باقية لفهم أهله (اليهود) فهما عطوفا. ولو كان أقل قسوة في تحكيم «الحبل السري» الذي كان يربطه بأهله، لما ظهرت فلسفته إطلاقا، على الأرجح.»

38 (3-2) المؤثرات في فلسفته

سوف نحلل فيما يلي بعض النواحي الرئيسية التي يفترض أن اسپينوزا قد تأثر فيها بالتراث اليهودي في صورته الدينية المباشرة أو اللاهوتية أو الفلسفية. وكما قلنا من قبل، فإن التفنيد الحاسم لمحاولات التقريب هذه إنما يكون في الرجوع إلى أجزاء هذا البحث التي تعالج كل موضوع يقال بوجود مثل هذا التشابه فيه؛ إذ إن إجراء هذه المقارنة في ضوء التفسير الذي قدمناه ها هنا هو أفضل الوسائل لإظهار التضاد الحقيقي التام بين اسپينوزا وبين التراث اليهودي.

ففي رأي فرويدنتال أن مذهب «وحدة الوجود» عند اسپينوزا لا يرجع إلى عناصر أفلاطونية محدثة، ولا يكفي تفسيره من خلال فلسفة «برونو

Bruno »، وإنما هو يفسر على أساس تأثر اسپينوزا بالتراث اليهودي.

39

ومن المؤكد أن السؤال الأكبر في هذا الصدد هو ما إذا كان اسم «وحدة الوجود

pantheism » ينطبق بحق على فلسفة اسپينوزا أم لا ينطبق؛ فالتسمية صحيحة طالما أن فكرة «الله» تؤخذ عنده بمعناها الحرفي. أما إذا فهمت على النحو الذي عرضناه في هذا البحث، لأصبحت التسمية باطلة تماما، ولانهار بالتالي أساس حجة «فرويدنتال».

ويقول «روث» بوجود تشابه مماثل في فكرة وحدة الطبيعة عند اسپينوزا؛ فهو يحلل عقيدة التوحيد العبرية فيرى أنها ترتبط بفكرة وحدة الظواهر الطبيعية، ويتلمس فيها التالي صبغة علمية. وفي رأيه أن المفكرين اليهود في العصور الوسطى قد عملوا على نقل الاهتمام من وحدة الله إلى وحدة الطبيعة، وبذلك رفعوا البحث العلمي، والبحث وراء الاطراد في تركيب الأشياء، إلى مرتبة الواجب الديني الأعلى. وهكذا تكون دراسة اسپينوزا للفلسفة اليهودية في العصور الوسطى هي التي أدت به إلى ذلك «الإدماج الجريء للعلم في محراب الدين ذاته».

40

صفحه نامشخص