24
وفي رأينا أن اسپينوزا، إذا كان في الفترة الأولى من حياته قد اندمج بالفعل في حياة التجارة والأعمال، فإنه منذ اللحظة التي تخلى فيها طوعا عن هذه الحياة ليتفرغ للتفكير الفلسفي، وأكد صراحة أن السعي وراء المال عائق في وجه حرية التفلسف، وتنازل بمحض اختياره عن تجارته الناجحة الموروثة، واحترف مهنة يدوية يرتزق منها، منذ هذه اللحظة ينبغي أن يقال إنه قد تخلى تماما عن قيم التجار وأعلن احتقاره لها، وأخذ تفكيره يسير في طريق متحرر من قيود المصالح السائدة. ولنتأمل مغزى العبارات المشهورة التي استهل بها كتاب «إصلاح العقل»، والتي أعلن فيها سأمه من الحياة الاجتماعية في عصره. فمثل هذه العبارات لا يقول بها شخص راض عن قيم عصره أو يريد أن يجعل من نفسه مدافعا عن هذه القيم، وإنما هي قطعا كلمات ثائر على الظروف المحيطة به. وهنا تظهر لنا حملته على عبودية الإنسان وخضوعه للانفعالات في ضوء جديد؛ فقد كان اسپينوزا يربط دائما بين الانفعالات وبين الأسباب أو القوى الخارجية، وبذلك تكون محاولة إخضاع الانفعالات للعقل هي ذاتها تعبير عن محاولته قهر الواقع الخارجي، أو التخلص من تأثيره، عن طريق الذهن، وهي الوسيلة الوحيدة التي كانت في متناول يده.
وعلى أية حال فلسنا في حاجة لإثبات هذا الرأي إلى الاستنتاجات؛ لأن اسپينوزا قد أكده صراحة في مواضع متفرقة، من أوضحها دلالة ما قاله في رسالته رقم 44 إلى صديقه «چارج چلز
Jarig Jelles »؛ ففي هذه الرسالة يحدث اسپينوزا صديقه عن كتاب قرأه بعنوان
Homo politicus
ويحمل على الكتاب بشدة لأن مؤلفه كان ينظر إلى الثروة والجاه على أنهما الخير الاسمى، ويستحل في سبيل بلوغهما كل الوسائل، من غش وخداع ونفاق وامتهان للأخلاق، وبلغ من سخط اسپينوزا على الكتاب أنه فكر في أن يؤلف كتيبا ينتقد فيه المؤلف بطريقة غير مباشرة (وهي طريقته المألوفة في التعبير عن آرائه)، ويثبت فيه تعاسة الطامعين في الثروة والجاه، ويبرهن في النهاية على أن الجشع يودي حتما بالأمم. وفي هذه الرسالة يقول عبارات لها دلالتها البالغة: «لكم كانت تأملات طاليس الملطي أسمى وأرفع من أفكار هذا الكاتب! لقد قال طاليس إن كل الأشياء مشاع بين الأصدقاء، وإن الحكماء أحباء الآلهة، وإنه لما كان الآلهة يملكون كل شيء، فإن الحكماء، بدورهم يملكون كل شيء. وبالاختصار، فهذا الحكيم العظيم قد أثرى نفسه إلى أبعد حد باحتقاره الكريم للثروة، لا بالسعي الملح وراءها، ومع ذلك فقد أثبت في موضع آخر أن الحكماء إذا لم يكونوا أثرياء؛ فذلك لأنهم قد اختاروا ذلك طوعا ولم يضطروا إليه رغما عنهم.» فهل يجوز أن تعد هذه الآراء، التي تشيد بجعل الأشياء «مشاعا بين الأصدقاء»، وتحتقر الثروة والسعي وراءها إلى هذا الحد، معبرة عن مصالح طبقة التجار البورجوازية؟!
من الواضح أن بين تفكير اسپينوزا وبين أشد المذاهب المعاصرة تقدمية عناصر مشتركة كثيرة لا تقبل الجدل. من هذه العناصر - بالإضافة إلى الحملة على قيم التجار - كراهية الحرب: وهو يعبر عن آرائه الحقيقية في هذا الصدد في رسالتيه رقم 28 و30 إلى أولدنبرج. والأمر الغريب أنه كان، هو وأولدنبرج، ينتميان على الأرجح إلى طرفي النزاع الدائر، ومع ذلك كانا يتبادلان الأفكار في الأمور العلمية ويسخران من الحرب الناشبة ويعبران بكل وضوح عن إيمانهما بالسلام وعدم جدوى الحروب التي لا تعبر عن ضعف الإنسان. بل لقد علل اسپينوزا الحرب الدائرة عندئذ تعليلا حديثا، فرأى أنها ترجع إلى الرغبة في الإثراء المادي. وعندما بحث في «البحث السياسي» عن وسيلة لإنهاء الحروب، اقترح أن يمنح الحكام في زمن السلم مرتبات تزيد على ما يحصلون عليه أثناء الحرب!
25
وأخيرا، فإن الاضطهاد الذي لحق اسپينوزا أثناء حياته، ومذهبه الفلسفي بعد وفاته على الأخص، والظاهرة التي شاعت في الأجيال التالية له مباشرة، وهي توجيه تهمة «الاسپينوزية» جزافا لكل مذهب فيه مسحة من التجديد، أو من الانحراف عن عقائد الكنيسة، أو لأي نوع من الخروج عن السلطة السائدة، يكشف لنا عن تشابه آخر قوي بين فلسفة اسپينوزا وبين المذاهب الاشتراكية في عصرنا، بما تلقاه من اضطهاد في كثير من الأوساط المدافعة عن النظم الاقتصادية والفكرية التقليدية.
فتهمة الاسپينوزية كانت بدورها - كما أشار «بيل
صفحه نامشخص