6
بل إن الضرر في الحالة الثانية أعظم؛ إذ إن خطأ الحاكم يمكن إصلاحه بتغيير الحاكم، أما رجال الدين فإنهم إذ ارتكبوا خطأ ظلوا ينسبونه إلى السلطة الإلهية ويحتمون بها، وبذلك يظل الخطأ قائما، بل يتخذ مظهرا مقدسا بحيث يكون من أصعب الأمور التخلص منه.
ويعد دفاع اسپينوزا عن الحرية الدينية، أو على الأصح عن الحرية الفكرية ضد السلطة الدينية، جزءا من دفاعه عن حرية الرأي بوجه عام. وهذا الدفاع بدوره يرتبط ارتباطا وثيقا بتاريخ الفترة التي عاش فيها؛ فقد كانت في هولندا وقت كتابة «البحث اللاهوتي السياسي» جمهورية مستنيرة تحد من سلطة رجال الدين وتترك مجالا لا بأس به للحرية الفكرية، ولكن الاتجاه المضاد، كما يتمثل في الكنيسة وفي النبلاء الإقطاعيين وعلى رأسهم أمير «أورانج»، كان قويا بدوره، بل إنه أفلح في العودة إلى الحكم في النهاية. وهكذا كان من أهم الأمور بالنسبة إلى اسپينوزا أن ينصر الاتجاه المتحرر على الاتجاه المتعصب، وأن يثبت في الوقت نفسه أن المصالح الحقيقية للدولة لا تتأثر بتلك الحرية على الإطلاق، بل إنها على العكس من ذلك تصان بالحرية على أفضل نحو.
وهكذا وضع اسپينوزا مبدأ عاما يكون من واجب الدولة بمقتضاه أن تتعهد عقول رعاياها وتحكمهم بالإقناع لا بالإكراه: «فالهدف النهائي للحكم ليس السيطرة على الأفراد أو قمعهم بالخوف، وليس فرض الطاعة عليهم، وإنما هو، على العكس من ذلك، تحرير كل شخص من الخوف، حتى يعيش في اطمئنان تام. وبعبارة أخرى: تأكيد حقه الطبيعي في أن يعيش ويعمل دون أن يلحقه أو يلحق غيره ضرر.
كلا، ليس هدف الحكم تحويل الناس من كائنات عاقلة إلى بهائم أو ألاعيب، وإنما تمكينهم من تنمية عقولهم وأجسامهم في أمان، ومن استخدام أذهانهم دون قيد ... بل إن الهدف الحقيقي للحكم، في واقع الأمر، هو الحرية.»
7
ويرى اسپينوزا أن للمرء الحق في مخالفة الحاكم في تفكيره كما يشاء، على ألا يفعل ما من شأنه تعكير الأمن أو إشاعة الفوضى؛ ففي مجال التفكير، وفي مجال القول - طالما كان صادرا عن العقل لا الانفعال - ينبغي أن تسود الحرية التامة، على ألا تتنافى مع القانون. أما كبت حرية الفكر فلن يؤدي إلا إلى الرياء والنفاق: «وهب أن الحرية قد سحقت، وأن الناس قد أذلوا حتى لم يعودوا يجرءون على الهمس إلا بأمر حكامهم. رغم ذلك كله فمن المحال المضي في هذا إلى حد جعل تفكيرهم مطابقا لتفكير السلطة السائدة، فتكون النتيجة الضرورية لذلك هي أن يفكر الناس كل يوم في شيء ويقولوا شيئا آخر، فتفسد بذلك ضمائرهم ... ويكون في ذلك تشجيع لهم على النفاق والغش.»
8 ... أما إذا كانت الوسيلة إلى كبت الحريات هي ملء السجون بالأحرار، فإن اسپينوزا يعلق على ذلك بقوله: «أيستطيع المرء تصور نكبة تحل بالدولة أعظم من أن ينفى منها الأشراف وكأنهم مجرمون، لا لشيء إلا لأنهم يؤمنون بآراء مخالفة لا يستطيعون إنكارها؟!»
9
بمثل هذا الدفاع المجيد عن حرية الفكر يختتم اسپينوزا كتابه «البحث اللاهوتي السياسي»، الذي كان قد بدأه بدفاع مماثل، من خلال حملته على التعصب الديني. وهذه الحملة الأخيرة، التي انتقد فيها بشدة تشكيل أذهان الناس في قوالب دينية ثابتة بحيث لا يعود في وسعهم مناقشة أية قضية دينية، يمكن أن تنطبق بكل دقة على المحاولات العديدة لتشكيل أذهان الناس في قوالب فكرية ثابتة بالدعاية المنظمة الموجهة. ويكفي لإدراك ذلك أن نحاول تصور نص كالآتي من خلال الحياة المعاصرة: «من الواضح أن الحرية العامة لا تقبل مطلقا أن تملأ عقول الناس بالتعصب والتحامل، أو توجه أحكامهم وجهة محددة، أو يستخدم أي من أسلحة الفتنة المبنية على ذرائع دينية، والواقع أن هذه الفتن لا تستيقظ إلا عندما يزج القانون بنفسه في ميدان التفكير النظري، وتحاكم الآراء وتدان كأنها جرائم، على حين أن من يدافعون عنها ويتبعونها يضحى بهم، لا في سبيل أمن المجتمع، بل في سبيل حقد خصومهم وقسوتهم.»
صفحه نامشخص