لا أطيل عليكم؛ فقد وصلت إلى السوق الذي حدثتكم في أول هذه المذكرات أنني كنت في طريقي إليه لشراء الحاجيات التي كلفوني بشرائها. لم يسترع انتباهي شيء غير مألوف؛ فذلك كان طريقي المعتاد كل يوم تقريبا، من الكهف إلى السوق لأرى الناس وأشتري منهم، أو أبادلهم بغنمي أو لبني أو صوف مغزلي، لقمة أو كسوة أو ذكرى أعود بها إلى كهفي في حضن جبل بنجلوس. كانت أشجار الجميز الضخمة وفروع الكافور العالية تتمايل على جانبي الطريق الجبلي المترب، وأحدثها وتحدثني؛ فأنا راع قديم أفهم لغة الأشجار، وأتبادل الغناء مع العصافير، وأتفاهم مع الأنجم الوحيدة، وأحيي أشعة الشمس التي تقبلها وتغسل عن خصلات شعرها تعب الليل. قلت إنني لم أجد شيئا غير مألوف فيما رأيت، هذا إذا استثنيتم حادث الفارس الشجاع الذي عبر بي وولى مذعورا عندما رآني؛ إذ استطعت بعد أن استنشقت بعض نسمات منعشة أن أسامحه، بل وضحكت أيضا وعجبت؛ لأن هناك مخلوقا يمكنه أن يرتاع لمجرد رؤيته لي. أقول هذا لأمهد للحادثة التي جرت لي بعد ذلك؛ الحادثة الوحيدة في حياتي القصيرة الطويلة، والتي جعلتني أصرخ وأبكي، نعم أبكي، ربما لأول مرة، أنا الذي ما عرفت شيئا في حياتي مثل الكتمان، والبعد عن كل ما تفوح منه رائحة المأساة.
فلم أكد أدخل السوق حتى بدأ الناس يتهامسون، ويضعون أيديهم على أفواههم، أو على عيونهم، ويفرون من أمامي، ثم لا يقاومون الرغبة في الالتفات إلي بأعين مدهوشة مذعورة. لا أريد أن أبالغ في هذا؛ فأنتم تعرفون أن كل همي في حياتي كان دائما ألا يهتم بي أحد؛ ولذلك فلا تتصورون مدى ضيقي وذهولي ورغبتي في أن أصفعهم جميعا وأستريح. وقد زاد ذهولي عندما اقتربت من دكان صديقي القديم أندرايوس لأشتري حاجتي وأعود بأسرع ما أستطيع، فوجدت الدكان ليس هو الدكان، ولا أندرايوس هو أندرايوس، لا، بل لعنت غبائي وغفلتي حين تلفت حولي فوجدت كل شيء يختلف عن كل شيء تعودته؛ الوجوه غير الوجوه، الأزياء غير الأزياء، البيوت غير البيوت، ولا بد أيضا أن سكانها غير سكانها، حتى وجوه القطط والكلاب كانت تبدو لي جديدة وغريبة ودائمة التساؤل والتطلع إلي. لا أخفي عنكم أنني بدأت أتشكك في كل شيء، بل وتمنيت لو أعطاني أحد في تلك اللحظة مرآة أرى فيها وجهي لأعرف أنه هو وجه يمليخا، وأن عينيه وملامحه وابتسامته هي هي لم تتغير. إنني على كل حال لم أنزعج أكثر من اللازم، بل تماسكت وخطوت بين الوجوه الذاهلة والشفاه المرتعشة والأيدي المشيرة إلي؛ صوب الدكان الذي تصورت أنني زبونه القديم، ومددت يدي في جيبي فأخرجت الورقة المالية التي أعطاها لي القائدان العظيمان، وقلت في أدب مبالغ فيه كان يحس الناس منه دائما أنه دليل الخوف والاعتذار أكثر من أن يكون تعبيرا عن الاحترام: هل تتكرم يا سيدي وتعطيني ثلاثة أرغفة ورطلا من الجبن وآخر من البرتقال؟ ويظهر أن الرجل لم يفهم كلامي، أو لم يتصور أن مثلي يمكن أن يخرج منه كلام يفهم. «بحلق» في وجهي، ثم عاد «يبحلق» في الورقة المالية (كأنما يبحث عبثا عن وجه التشابه بينهما)، وارتعشت عضلات وجهه، واختلجت حاجباه، ورفع يديه مذهولا ثم جرى من الدكان وهو يصيح بالناس والورقة المالية بين يديه: كنز! كنز! هذا الرجل عنده كنز!
وأقبل الناس من كل مكان (وكان بعضهم في الحقيقة في غير حاجة إلى صياح البائع لأنه كان «يبحلق» في منذ مدة طويلة). وأحسست أنني لا بد شيء يستحق كل هذا الاهتمام الذي لم أحظ به من قبل. وحاصرني الناس من كل ناحية حتى اختنقت أنفاسي، وكدت أغرق في بحر العرق الكريه الذي يتصبب منهم، والأسئلة الغاضبة المستطلعة الخائفة التي أحاطوني بها. ولا أكذب عليكم فأقول إن أفكارا كثيرة خطرت لي في هذه اللحظة؛ فالحقيقة أنني لم أفكر في شيء، ولا كانت عندي القدرة على أن أتصور أنني موجود، فما بالكم بأن أفكر؟ المهم أن صوتا طيبا أنقذني من هذا الشلل - حين تبينت مصدره عرفت أنه يأتي عن شيخ عجوز ذكرتني لحيته الطويلة بأنني أنا أيضا لي لحية طويلة استحقت يد الحلاق منذ مدة طويلة - قال لي الصوت بعد أن وقف صاحبه أمامي بين رهبة الحاضرين وإجلالهم: من أنت أيها الغريب؟
قلت في أدب عظيم لا يخفي شكري على إنقاذي من هذه الورطة: أنا يمليخا يا سيدي.
فعاد الصوت يسأل في حنان كبير: يمليخا من؟
فقلت في سخط من يسأل عن شيء يحسب أنه بديهي: يمليخا الراعي يا أبي، يمليخا الراعي.
وكدت أنصحه بأن يسأل وسوف يعرفني لولا أنني لاحظت العيون الجامدة من حولي، وجاءني صوته قائلا: من أبوك وأمك؟
فصحت ثائرا: ما جدوى هذه الأسئلة كلها؟ لقد ماتا كما يعلم الجميع وأنا طفل، ماتا على عهد ...
وقاطعني في حب عظيم وكأنه عثر على السر: على عهد من؟
فقلت وكأنني أباهي بانتصاري: على عهد دقيانوس طبعا.
صفحه نامشخص