كانت الحبال الصوتية لأمي تعاني شللا جزئيا، وفي بعض الأحيان كنت أعمل مترجمة لها، وهي الوظيفة التي جعلتني أشعر بخزي شديد.
قالت الخالة مادج مشفقة: «لا عجب أنها ستشعر بالوحدة هناك. يا لها من مسكينة!»
فعلقت جدتي، قائلة: «إن مكوثها في أي مكان لا يصنع فارقا ما دام الناس لا يفهمونها.»
بعدها طلبت جدتي تقريرا عن أعمالنا المنزلية. هل غسلنا الملابس والمفروشات؟ هل جففنا الغسيل؟ هل كوينا الغسيل بعد جفافه؟ ماذا عن الخبيز؟ هل خيطنا جوارب أبي؟ كانت تقدم يد العون لنا. كانت تخبز البسكويت والكعك، والفطيرة (هل لدينا فطيرة؟) ما علينا إلا إحضار المكونات وتتولى هي خبزها، وكانت تتولى كذلك أعمال الكي. دأبت على المجيء إلينا يوما واحدا للمساعدة بمجرد توقف الأمطار عن الهطول. كانت فكرة احتياجنا إلى المساعدة تصيبني بالإحراج، وقد حاولت جهدي درء تلك الزيارات. قبل مجيء جدتي كنت أضطر إلى تنظيف المنزل، وإعادة تنظيم الخزائن قدر الإمكان، وإخفاء كل ما من شأنه أن يخزيني، كإناء تحميص لم أقربه قط بالغسيل والدعك، أو سلة بها ملابس ممزقة سبق أن أخبرت جدتي بأنني قد أصلحتها، كل ذلك كنت أخفيه تحت الحوض أو الأسرة. ولكني لم أكن أؤدي أعمال النظافة بالقدر الكافي قط؛ إذ كانت عمليات إعادة التنظيم التي أقوم بها عشوائية، وكانت مسببات الخزي تنكشف بجلاء، ويتضح مدى فشلنا، وعدم ارتقائنا إلى المستوى النموذجي من النظام والنظافة والآداب المنزلية، التي كنت أومن بها كأي شخص آخر، ولكن الإيمان وحده ليس كافيا. لم أكن أشعر بالخزي من أجلي فقط، بل من أجل أمي أيضا. «أمك ليست على ما يرام ولا تستطيع مباشرة الأمور بنفسها.» قالتها جدتي بنبرة تشي بالشك بما سأقوم بإنجازه.
حاولت تقديم تقارير جيدة قدر الإمكان. في الأيام الخوالي حينما كانت تلك الأشياء وأمثالها صحيحة أحيانا، كنت أقول إن والدتي قد خللت بعض البنجر، أو إنها مشغولة في قص الحواف المهترئة للملاءات وخياطة الحواف السليمة لجعلها تستمر فترة أطول. فكانت جدتي تنظر إلى كم الجهد المطلوب لفعل ذلك، وتدرك الزيف الواضح لتلك الصورة (زائفة، حتى لو كانت تفاصيلها صحيحة)؛ ثم تعقب قائلة: حسنا، هل فعلت هذا حقا؟
قلت لها ذات مرة: «إنها تدهن خزائن المطبخ.» لم تكن تلك كذبة من نسج خيالي؛ إذ دأبت أمي على دهان خزائننا باللون الأصفر ورسم بعض الزخارف على كل من الأدراج والأبواب: زخارف كزهور أو أسماك أو مراكب شراعية أو حتى أعلام. وبالرغم من ارتعاش يديها وذراعيها، فإنه كان بمقدورها السيطرة على الفرشاة بما فيه الكفاية فترة قصيرة، لذلك لم تكن هذه التصاميم بالغة السوء، بيد أنه كان بها شيء من الفظاظة والفجاجة التي تعكس قسوة وشدة المرحلة المرضية التي تمر بها أمي الآن. لم آت على ذكر تلك المسألة على الإطلاق أمام جدتي، لعلمي أنها كانت ستجدها غريبة ومستهجنة. فجدتي والخالة مادج تعتقدان، شأنهما شأن الكثيرين، أن المنازل ينبغي أن تبدو مثل بيوت الآخرين قدر الإمكان. كذلك فإن بعض الأفكار التي تصورتها ونفذتها أمي لم تؤد إلا إلى زيادة اقتناعي بضرورة هذا التماثل.
كانت أمي أيضا تترك الطلاء والفرش وزيت التربنتين لي لأتولى تنظيفها؛ حيث إنها اعتادت العمل حتى تصاب بالإنهاك التام، ثم تتمدد على الأريكة وهي تئن.
وعقبت جدتي على حكاية الدهان تلك، قائلة بنبرة تنم عن الانزعاج وعدم الرضا: «سوف تورط نفسها في شيء كهذا، كان يجدر بها أن تعرف أنه سينهكها، ومن ثم لن تستطيع القيام بأي من واجباتها التي يتعين عليها القيام بها. إنها ستدهن الخزائن في وقت يجدر بها أن تجهز عشاء أبيك فيه.»
كلام في محله تماما. •••
بعد العشاء خرجت، بالرغم من الطقس السيئ، حيث هبت على المدينة عاصفة ثلجية، ولكنها لم تبد عاصفة ثلجية قوية بالنسبة لي، حيث حجبت المنازل والمباني قدرا كبيرا من شدتها. التقيت صديقتي بيتي جوسلي؛ فتاة ريفية أخرى مع شقيقتها المتزوجة. كنا سعيدات ومتحمسات لكوننا في المدينة، حيث كنا قادرات على الخروج وتجربة الحياة المسائية، بدلا من اقتصار الأمر على معايشة العواصف والظلام والبرد الذي تعاني منه منازلنا في الريف. في المدينة تجد الشوارع التي يؤدي بعضها إلى بعض، والأضواء المنتشرة على مسافات متساوية، ويمكن أيضا أن تجد ما صنعه البشر من تصميمات وقد أثبتت وجودها ونجحت. تجد الناس هنا يمارسون لعبة الكيرلنج ويتزلجون على الجليد في الساحة، ويشاهدون العرض في مسرح الليسيوم، ويلعبون البلياردو في نادي البلياردو، ويجلسون على المقاهي. كنا محرومات من معظم هذه الأنشطة بسبب سننا أو نوعنا أو افتقارنا إلى المال، لكننا تمكنا من التجول، وشربنا كوكا الليمون - وهي أرخص مشروب في مقهى بلو أول كافيه - وأخذنا نراقب من يحضرون إلى المكان، ونحن نتحدث مع فتاة تعرفنا بها ممن كانوا يعملون هناك. لم أكن أنا وبيتي في موضع قوة، وقضينا الكثير من الوقت، مثل التفهاء في بلاط الملك نتحدث في شئون من هم أكثر حظا وقوة، ونثرثر بشأن ما تمر به حياتهم العملية من صروف وتقلبات، وكنا نحكم بقسوة على أخلاقهم. قالت كل منا للأخرى إنها لن تخرج مع فتيان بعينهم ولو مقابل مليون دولار، والحقيقة هي أننا سنكون في منتهى السعادة إذا دعانا هؤلاء الأولاد باسمينا فقط. تحدثنا عن الفتيات اللائي قد يكن حملن (في الشتاء التالي حملت بيتي جوسلي من مزارع في جوارنا يعاني من صعوبة في التحدث ويمتلك قطيعا من الماشية ينتج الألبان، لم تحدثني عنه قط. بعد ذلك استغرقتها حياة النسوة المتزوجات شاعرة بالخجل والفخر، ولم تعد تتحدث عن أي شيء سوى أعمال المطبخ، وغسيل المفروشات وملابس الأطفال، وغثيان الصباح؛ مما جعلني أشعر بالحسد والفزع في الوقت ذاته).
صفحه نامشخص