اعتاد الأطفال الاحتشاد خلفي وأنا راجعة من ربوة المدرسة. كانت لهم أصوات عذبة وصريحة، يتغنون ببراءة شديدة. ليتني كنت أعرف كيف أتصرف، ليتني كنت أعرف كيف أواجه الموقف. هذا شيء لا يمكن تعليمه. إنها موهبة، تماما مثل ملكة عزف الموسيقى.
ملابسي كانت غريبة، وكان هذا من جملة أشياء أخرى؛ فكنت أرتدي سترة كحلية اللون، تشبه ذلك الزي الذي يرتدونه في المدارس الخاصة (التي كان من الممكن أن ترسلني أمي إلى واحدة منها بكل تأكيد فقط لو كان لديها المال اللازم لذلك) وجوارب طويلة بيضاء، شتاء أو صيفا، دون أن أعبأ بالوحل الموجود على طريقنا. وفي الشتاء كانت تظهر الطيات المتكتلة من الرداء التحتي الطويل الذي كنت مجبرة على لبسه أسفل ملابسي. وأعلى رأسي شكل شعري قبة كبيرة، وكانت أطرافه شديدة الجفاف كالحديد، وتكونت تموجات صغيرة جراء تمشيطه بمشط مبلل بالماء. لم تكن تلك التصفيفة المفضلة لأي شخص آخر. ولكن ماذا عساي أن ألبسه ويبدو لائقا؟ ذات مرة اشتريت معطفا شتويا جديدا، اعتقدت أنه جميل جدا، كانت له ياقة كبيرة من فرو السنجاب، فأخذ الأطفال يصيحون خلفي: «فراء الفأر، فراء الفأر، سلخت الفأر وارتدت فراءه!» كانوا يصيحون بهذا من خلفي وأنا ماشية. وبعد هذا لم أحب الفراء على الإطلاق، لم أحب ملمسه؛ فقد كان ناعما أكثر مما ينبغي، وشخصيا ، ومهينا.
تعودت أن أبحث عن أماكن للاختباء. في الأبنية، وفي الأبنية العامة الكبيرة، كنت أبحث عن نوافذ صغيرة عالية، أماكن مظلمة. كان لمبنى البنك التجاري القديم برج وكنت مولعة به. تخيلت نفسي مختبئة هناك، أو في أي حجرة صغيرة وعالية بعيدا، آمنة في منتصف البلدة، مجهولة ومنسية، إلا من شخص يطل علي في المساء ويحضر لي الطعام. •••
كان هذا هو حال أبي بالفعل؛ إذ كان بعيدا عني في معظم الأوقات، يتلقى العلاج، مقيما في مصحة لعلاج الإدمان، خارج البلاد. قبل ولادتي كان عضوا في البرلمان، ولقد عانى من هزيمة ثقيلة في عام 1911، العام الذي خرج فيه لورييه من البرلمان. بعد ذلك بكثير، عندما عرفت بأمر اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، اكتشفت أن هذه الهزيمة كانت مجرد جزء من نكبة قومية (لو أنك في الواقع تميل إلى اعتبارها نكبة)، ولكن عندما كنت طفلة لطالما اعتقدت أن أبي جرى نبذه والاستهزاء به شخصيا بشكل مخز. كانت أمي تشبه ما حدث بصلب المسيح، وقد حاول أبي الخروج إلى الشرفة في فندق كوينز هوتيل، لكي يلقي خطبة، يعترف فيها بهزيمته، ولكنه منع من ذلك، وتعرض للاستهزاء والسخرية من قبل أعضاء حزب المحافظين، حاملين مقشات تشتعل بها النار. لم يكن عندي أدنى فكرة، فقط سمعت عن هذا، تلك المشاهد كان على السياسيين مواجهتها أحيانا. أرخت أمي سقوطه منذ هذا التاريخ، مع أنها لم تحدد الشكل الذي اتخذه هذا السقوط. لم تكن كلمة مدمن كحوليات لتقال في منزلنا، ولا أعتقد أنها كانت تقال كثيرا في أي مكان آخر حولنا في هذا الوقت. سكير هي الكلمة التي كانت تستخدم كثيرا في هذا الوقت، ولكن هذا ما كان يحدث في البلدة.
لم تعد أمي تذهب لتتسوق مرة أخرى في هذه البلدة، إلا لشراء البقالة فقط، التي تطلبها لها روبينا بالتليفون، ولم تعد تتحدث مع الكثير من السيدات، زوجات أعضاء حزب المحافظين الذين يسخرون من أبي.
لن أطأ عتبتها أبدا.
هذا ما كانت تقوله عن الذهاب إلى كنيسة ، أو المحال التجارية، أو بيت إحداهن.
ثم تعقب قائلة: «هو أفضل من أن يكون معهم.»
لم يكن لديها أي شخص آخر باستثناء روبينا لتقول له هذه الأشياء، ولكن روبينا كانت كافية على نحو ما. كانت امرأة لديها قائمة بأشخاص لا تتكلم معهم، ومحال تجارية لا تذهب إليها أبدا. «كلهم جاهلون في هذه الأنحاء، هم من ينبغي أن يكنسوا بالمقشات.»
دأبت على استهلال كلامها بالحديث عن بعض الظلم الذي وقع على أخويها جيمي ودوفال، اللذين اتهما بالسرقة في حين أنهما كانا فقط يحاولان تجربة مصباح يدوي. •••
صفحه نامشخص