8
وقد كان عهد دولته عرضة لأمرين، إما حياة أو عدم.
فكان يمكن الدولة أن تجتاح بر الأناضول وتكتسح بلاد الروم بغير عناء كبير، أو أن تخرج من هذا المعترك نافضة كفيها من البلاد التي استولت عليها بالصارم الذكر وحفظتها بحرارة الشباب، فالفاتح هو الذي ضرب سرادقها ورفع أعلامها بنور العرفان أكثر من نار السلاح.
نعم، إنه لم يفتد كل آماله وهوساته في مصلحته شأن عمر بن عبد العزيز، ولم يخلق جوادا يحسن إلى المسيء ويوالي العدو كصلاح الدين بن أيوب رحمهما الله.
إلا أنه لم يتأخر عنهما في اتباع سبيل الرشد واتخاذ العدل منهاجا، ووضع السيف حيث لزم وإقرار الندى حين وجب.
نعم، إنه سفك دماء غزيرة، وأباد جنودا كثيرة، وقتل ملوكا عدة، وحاسب رجاله حسابا نكرا، إلا أنه لم يتدنس قط باستعباد شعبه أو قتل أهل البلاد التي تولى أمرها أو استعمال الجريمة والفظيعة مع المحكومين، بينما كانت هذه العادات من عاديات الأمور في تلك العصور المظلمة.
وأشد ما جازى به من الجزاء التغريب والإقصاء إن كانت الإساءة موجهة إلى شخصه، كما جرى له مع سنان باشا وأحمد باشا.
أما مزيته الوحيدة التي جعلت له بين الأعاظم مقاما رفيعا ومكانا عليا وسجلت له في التاريخ سطرا مذهبا واسما مذكورا، فهي نقله الدولة من حال إلى حال، فقد كانت جيشا عرمرما، فانقلبت إلى جمعية مدنية، فدولة عظيمة الشأن، ثم حفظه إياها من الانقسامات الداخلية والهجمات الخارجية، وتأسيسها على أساس متين لا تزعزعه العواصف ولا تعمل فيه الأنواء، وها هي الآن تحت حكم بيت واحد وقد جاوزت القرن السادس من سني حياتها، والبلاد التي تملكتها في إبان إقبالها لم يذهب منها الثمن في بحران أدبارها.
ولم يتسن هذا البقاء لدولة من الدول الكبرى سوى الرومانيين، على أن التنصل بطفيف الخسارة من عظيم الصدام الذي كان يعارض سير الدولة حينا بعد حين، ودوام عرشها في سلسلة متصلة الحلقات من آل عثمان، هو العمل الوحيد الذي لم يسبق مثيله لأمة من الأمم.
والذي يجدر بالذكر أن الفاتح أتى بخلال سلطنته التي تربو عن الثلاثين عاما ما يعجز عن إتيانه غيره في مائتين من السنين، وقد ألقت دولته عصاها وامتدت إلى ما شاء الله أن تمتد، وضربت من الكمالات والتنظيمات بأوفر سهم، حتى إنك لتخالها طوت القرون بباهر المعجزات، وجمعت إلى طراوة الشباب وشجاعته قوة الكهولة وثباتها، فعظم شأنها وعلا قدرها.
صفحه نامشخص