والأنكى من ذلك زعمهم أنه بقر بطون اثني عشر ربيبا لإحدى العجائز لكي يعرف من منهم أكل بطيختها الصفراء التي تدعيها عليهم، وأنه أمر بقطع عنق أحد الأبرياء ليرى بعض المصورين الشرايين التي فيه، وأنه قضى على حياة فتاة من جواريه قد شغفه حبها مرضاة للإنكشاريين.
إن الواقفين على العقائد الدينية والعوائد الإسلامية، بل كل من عنده مسكة شريفة وعاطفة نبيلة، يحكم لأول وهلة ببطلان هذه المدعيات، فالملك الذي توصله عدالته ويدعوه ضميره إلى فصل دعوى بسيطة في ديوانه، هل يتصور أن تطوح به الشدة إلى بقر بطون اثني عشر شابا في سبيل بطيخة لا قدر لها ولا قيمة؟! وإن شاء أن يرى المصور شرايين العنق أفلم يجد في سجونه من الجناة الآثمين من حكم عليهم بالصلب حتى يضطر لقتل بريء في هذا الصدد؟
ولم يبلغ الضعف في الأمور إلى حد أن يتداخل الإنكشاريون في شئون القصر حتى يأتي قتل الجارية عن يدهم.
فلندع هذه الترهات جانبا بل ننبذها ظهريا، ونرجع إلى ما أثبته التاريخ للفاتح من الشدة والعنف في أعماله، منها: قتله فريقا من حكام وجنود البلاد التي استولى عليها عنوة وقوة، مما دعا مؤرخي الفرنجة لأن يسلقوه بألسنة حداد، ولو بدرت هذه الأعمال القاسية في عصر سعيد كصدر الإسلام أو في عهد كزماننا هذا، بلغ فيه الرقي الفكري مبلغا عظيما ودرجة عالية، لحق عليها النقد وحاق بها اللوم من كل جانب. ولكنها جرت على إثر دماء مسفوكة ونفوس مهدورة، بل قامت على أطلال المظالم والمغارم التي أحدثتها غارة جنكيز خان المغولي، وسلطة البابا أنينوسان الثالث الذي أوجد طريقة الإنكيزيسيون، بحيث يتأثرون كل من يخالف مبادئ الكثلكة ويصلونه عذابا أليما.
بلى، إنها جاءت في تلك الفترة الهائلة التي ساءت فيها الأخلاق وتعطشت الإنسانية إلى الدماء، وأشهر سيف الغدر والانتقام، واندلع لسان نار العداء فلم يبق ولم يذر.
كيف يسوغ لنا أن ننقد أعمال الفاتح ونستهجن وقوعها، وقد سيق إليها بحكم الضرورة ومقتضيات الظروف في زمن كان به رهبان الأندلس يؤذون كل مسلم عثروا عليه أشد الإيذاء ليستنصروه بغيا وكرها، حتى إذا دان بالنصرانية جعلوه طعاما للنار؛ ليذهب إلى الآخرة مطهرا من الأدناس والأرجاس على زعمهم، في عصر كان به هونياد الهنغاري يأمر بإعدام أسرى المسلمين والتمثيل بهم لتنبسط نفسه ويسر فؤاده بسماع أنينهم بدل المعازف وآلات الطرب وهو جالس على مائدة الطعام، في دور كان به إسكندر الألباني يعلق أجساد العثمانيين في التعاليق كأنها لحوم الشياه.
في حين كان به شيطان الأفلاق (أي حاكمها) يقيم كل تركي لقيه على الأوتاد، ويملأ بهم السهول والوهاد.
في آونة كان بها حاكم طمشوار يسقي جنوده من الخمر الممزوجة بدماء المسلمين، ويجتذ بنواجذه لحوم الجرحى منهم قطعا قطعا ويقوم راقصا فيها.
في وقت كانت تستحكم فيه حلقات الغزو والسبي والقتل والظلم في الحروب التي تقوم سوقها وتشتعل نارها بين قبيل وقبيل، بل بين المسيحي ومن على معتقده، والمسلم وابن نحلته.
ففي مثل هذه الظروف الحرجة كيف نتوقع من الفاتح مراعاة حقوق الأمم، وهي لم تراع إلى الآن بحذافيرها من أية دولة غالبة، ونحن في عصر النور وعهد الحضارة؟
صفحه نامشخص