نعم، إنه كان ينزع إلى اتباع آثار العرب واليونان في كتاباته، ولكن الرأي العام كان متمسكا باللهجة الإيرانية أشد التمسك، فلم يقو على الوقوف أمام تياره.
ومما يجلب الحزن أن كل كتاباته قد لعبت بها أيدي الضياع، عدا عن بعض أشعار قليلة والكتاب الذي أرسله إلى حسن الطويل وفيه ما فيه من التهديد والوعيد.
وكان يرغب من الفنون الجميلة في الشعر والتصوير، فكان حظ أدباء المغرب من سجال كرمه كنصيب علماء المشرق، حتى إن شاعرا لاتينيا رفع إليه قصيدة أجازه عليها بإطلاق جملة أسرى من أبناء نحلته.
ولما ظفر بفتح القسطنطينية ودخلها مع جنده نادى مناديه: «إن الأموال الموجودة هي غنيمة للجند، وأما الحجارة والأتربة فهي ملك للسلطان.» واتفق أنه دخل إلى جامع آجا صوفيا فرأى جنديا يعمل على كسر حجر به تمثال، فجرد حسامه ووثب عليه وهو يقول: «لماذا تتعرضون لملكي؟»
وقد استجلب إليه جنتيللي بللنيوبي - من مشاهير المصورين في إيتاليا - إكراما لصناعته واصطفاه لنفسه.
والغريب من شأنه أنه كان يلم بجميع مصاريف حكومته وبلاطه كأن لم تضرب تلك العوامل السياسية والإدارية والأمور الحربية والعلمية بينه وبينها حجابا، وله من قوة الحافظة وجودة القريحة ما يحار فيه العقل.
ومما يدل على ذلك أنه كان أهدى إلى بعض ملوك الطوائف خاتما به حجر كريم، وقد رده ذلك الملك بعد مدة على إثر تغيره على الدولة إلى أحمد باشا كدك، فاستخرج الوزير الفص وخلطه بين بعض ماسات لئلا يشعر السلطان بذلك، ولكن لم يكد يقع نظره عليه إلا وعرفه، وقال: «إن هذا الفص كان في الخاتم الذي أعطيته إلى فلان، فمن أتى به إلى هنا؟» وفي ذلك ما فيه من الذكاء الغريب.
وبالرغم عن هذه الخصال الحسنة والسجايا الشريفة التي تحلى بها الفاتح، فإنه لم ينج من نقد بعض المؤرخين الذين اتهموه بغلاظة الكبد وسفك الدماء مما هو براء منه، فأردنا إثبات ما قالوه ونفيه بقاطع الدليل وساطع البرهان.
زعم بعض مؤرخي اليونان أن الفاتح عند تسلمه عرش السلطنة أمر بقتل أخيه الصغير وهو طفل لم يبلغ حد الفطام، ولا مشاحة في أن عملا بربريا مثل هذا لا يقتصر على تسويد صحائف ملك، بل يكفي لإلصاق العار والشنار في مملكة بأسرها إلى يوم القيام.
نعم، إن قتل بعض أفراد الأسرة المالكة بدعة سيئة جرت عليها الدولة منذ عهد يلديرم بايزيد، بل اعتبرتها واجبا رئيسيا وضربة لازب، ووجود الفاتح ووزيره خليل باشا على طرفي نقيض، واضطرار الأخير لمناوأة الأول العداء بكل الطرائق الممكنة والوسائل القابلة، واختياره كل ما يسهل له نصب الحبائل للإيقاع به تجعل مجالا للشك، بل تولد ضرورة لقتل ذلك الرقيب، وتعد من الضرورات التي تبيح المحظورات، بيد أن كل ذلك لا يكون ولن يكون من الأسباب التي تخفف فظاعة هذا الإثم العظيم والجرم الشنيع.
صفحه نامشخص