ثم علم أن مرعش وتوابعها التي وعدت حكومة مصر بتركها للدولة العثمانية قد أعطيت إلى بوداق بك - من أبناء ذي القدرية - فبعث عليها فرقة عسكرية وتملكها، وأقام عليها علاء الدولة من ذات العائلة القدرية عاملا.
وقام إذ ذاك حاكم جزيرتي زانطة وأيامورة يحاول دفع الخراج السنوي المقرر عليه إلى ولاة يانيه، فبعث عليه الفاتح أحمد باشا كدك على أثر رجوعه من البحر الأسود وضبط الوزير الجزيرتين.
وكان هذا الوزير يعلم أن الفاتح الذي قضى على الحكومة الزمنية في إستانبول مركز إمبراطورية روما القديمة، يود أن يضرب حكومة مدينة رومية الروحانية نفس الضربة القاضية، فعاد بعد سفر زانطة إلى الآستانة ، وعرض على السلطان أن قطعة نابولي في فوضى مستمرة، وأن أقل اهتمام قد يمكنهم من ضبطها، فأمره السلطان بالسفر على أسطول ضخم، ونزل على أقرب السواحل الإيتالية من الروملي، وضبط موقع أوترانتو وتوابعها.
أما الفاتح فإنه كان مشغولا بأهم من إيتاليا، ويرمي إلى فتح جزيرة رودوس التي عصت أمره وقامت تقاوم دفع الجزية، وكانت الحاجة ماسة لفتحها حفظا لسواحل الأناضول.
وكان السلطان يدرك أن القلم يفضل السيف في تذليل العقبات وإذلال الأعداء، فكان يحبب إلى رعيته فن تخطيط الأراضي وعمل المصورات (الخارطات) قبل التوغل في الحروب والخوض في غمارها، كما أن أعداءه أنفسهم اضطروا لدراسة هذا الفن ليتمكنوا من مقاومته قليلا. وبالنظر لشيوع ذلك عن السلطان فقد حضر ثلاثة، أحدهم من أهالي الجزيرة، والثاني من أغريبوز، والثالث جرماني ممن اعتنقوا الدين الإسلامي، ودفعوا إلى مسيح باشا أمير الأسطول مصورات تمثل استحكامات الجزيرة ولائحة في كيفية الحصار، ورفعها هذا إلى الفاتح الذي أحلها محل الاهتمام وشمل القائمين بعملها بألطافه، وبعد أن أعمل قلم التصحيح والنفي والإثبات فيها أعادها إلى مسيح باشا لتكون هاديا له في حربه البحرية. ونزل الباشا إلى رودوس وأخذ بترتيب الحصار، وقد وفق لإدخال بعض الجنود العثمانية إلى قلب الجزيرة، غير أنه ضل سواء السبيل في إذاعة نشرة قبل أوانها، ففترت الهمم وثبطت العزائم، وكان نتيجتها الحرمان والخذلان، ثم تلقى الجيش الأمر بالسفر إلى جهات بودروم، وهنالك لم ينجح في مهمته أيضا، وفي إبان ذلك اعترى السلطان داء عضال من شدة ما عاناه في سبيل الدفاع عن الوطن وجمع شتاته، والسعي آناء الليل وأطراف النهار لإعلاء كلمة الحق، فهو لم يترك نفسا ونفيسا إلا وجاد به، أو مرتخصا وغاليا إلا وبذله، وقد جاءته الأخبار الأخيرة ضغثا على آباله وزادت في إشاعتها آلامه، ولكنه قام متجلدا وهو يقول: «إن جيشي منصور اللواء معزز الجانب ما دمت أنا بجانبه.» ولم يلتفت إلى مرضه وسقمه وانحطاط قواه، وسار يطلب ضبط رودس على أن يجتازها إلى بر الأناضول، حيث يكون على مقربة من مصر التي أصبحت تقلب ظهر المجن وتكشر عن ناب العداء، ولكنه ما وصل إلى كور جاير حتى اشتد به الألم وحال بينه وبين ما يشتهي، فظل فيها مدة أيام يتقلب على فراش الموت حتى فاضت نفسه المطمئنة إلى باريها راضية مرضية، فانقلب ذلك العرش السامي الذي زلزل أركان العالم وأوقع الرعب في قلوب كافة الأمم، واستهوى أفئدة شعبه ومحبتهم المفرطة، إلى لحد بسيط تعلوه قبضات من التراب.
وقد توفي رحمه الله سنة 886 وله من العمر ثلاثة وخمسون عاما، قضى إحدى وثلاثين منها في السلطنة.
إن الذكرى الحسنة والشهرة الطائرة التي أوتيها الفاتح عن جدارة واستحقاق في تلك العصور الخالية عمت المشرقين والمغربين، وطرقت آذان العدو قبل الصديق؛ ولذلك لا تجد أمة من الأمم إلا وأحلته محل الاحترام، وصنفت الكتب العديدة بين روايات ورسائل بتاريخه وترجمة حياته وأخلاقه التي كانت نعم المنوال الذي ينسج عليه.
ولا بدع في ذلك، فإن عهد سلطنته كان صحيفة رقي العثمانيين المذهبة وفصل انقلاب عظيم في كتاب الكائنات.
ويكفيه فخرا أنه حاصر القسطنطينية واستعمل لها الآلات من الطرازين القديم والحديث، واتخذ الفكر خير رائد ونعم مرشد، فسير السفن على وجه الغبراء بدلا من أديم الماء، ثم قضى على مملكة حكمت آلافا من السنين وأقام مقامها أمة جديدة، واستبدل مركز ديانة كبرى في مقر خلافة عظمى، واختتم القرون الوسطى وأدخل العالم في دور جديد.
حتى إن الأروام الذين هاجروا إلى الغرب بعد ولوج القسطنطينية في حوزة الإسلام أصبحوا أساتذة الأوربيين الذين أشربوا في قلوبهم حب العلم من اختلاطهم بالأندلسيين قبلا، فزادوهم نورا على نور.
صفحه نامشخص