وقد ارتقت صناعة المدفعية مع الفاتح بالاختبار والتجاريب التي عاناها طويلا في حروبه الماضية، فنجحت هذه المرة نجاحا باهرا، وفضلا عن أنها ما تمزقت كما أصاب المدفع الكبير في حصار الآستانة، فإنها كانت تنطلق بسهولة كل يوم تسعا وعشرين مرة، أو أربعة أضعاف ما كانت عليه قبلا؛ ولذلك فقد أطلق في يوم واحد على القلعة من المدفعين القديمين والتسعة الجديدة مائة وثماني وعشرين قذيفة، ولم يرو التاريخ لذلك الوقت أن جيشا بلغ هذا المبلغ من الرقي والسرعة في مدفعيته.
وقد استعمل الفاتح هذه المرة الخروق الزيتية أو النارية، وهي ترمي بسرعة ولها صوت يرن بالفضاء في هدوء الليل، ويتكون من أذنابها أشكال نارية تشابه النجوم في كبد السماء، وهذه تحرق كل ما تقع عليه حتى إنها لو سقطت في بئر عذبة لأصبح ماؤها أجاجا، ومن هول ما فعلت هذه الخروق اضطر محافظو قلعة أشقودرة لهدم سقوف البيوت القائمة في المدينة.
حمل الفاتح على القلعة حملتين منكرتين دافع فيهما جنود البندقية ومحافظو القلعة من أعوان إسكندر الألباني دفاع الأبطال، وقد قارب موسم الخريف وأصبحت السماء تمطر مدرارا، فرأى أنه يحاول محالا ويطلب عبثا، وفضل تشديد الحصار وأخذ المدينة سلما لئلا يهدر نفوسا كثيرة ويهرق دماء غزيرة.
وعهد بأمر الحصار إلى عمر بك، كما أنه انتدب داود باشا أمير أمراء الروملي لمهمة ضبط القلاع الثلاث المار ذكرها، فأفلح الرجل، ثم أرسل علي بك وإسكندر بك من أبناء ميخال مع الأقنجية على البندقية.
وبينا كان السلطان متوجها إلى الحصار اضطر أن يمشي على قدميه ساعات طويلة في روابي الجبال لوعورة المسلك، فقال لما جلس للراحة هنيهة وقد أخذ منه النصب كل مأخذ: «لو كان لنا وزير قادر لكفانا مئونة التعب.» فأجابه أمير الراية هرسك زاده على الفور: «لو كان أحمد باشا كدك برفقتكم لكان عناؤكم أقل من ذلك.»
نفعت هذه الذكرى الفاتح، فتذكر ما لهذا الوزير من الخدمات الصادقة، فولاه ولاية سلانيك، ثم أحاله على أولونيا، وتمكن بواسطته من ضبط بعض الأقسام الباقية من ألبانيا.
أخذت مستعمرات البندقية في الروملي تنتقل إلى الدولة العثمانية الواحدة تلو الأخرى، ولم يجد جمهورها مؤازرا يشد به ظهره على مناصبة الدولة العداء؛ لأن كل أوروبا كانت تخشى بأس الفاتح وتهاب سطوته، وما فتئ الأقنجيون يرهقون الأهلين عسرا حتى علا الضجيج وبلغت الروح التراق. وقد أتت الأقنجية بأعمال غريبة في بابها، كجر الخيول بواسطة الحبال عن الصخور العالية التي ترتقي إلى مائتي قدم، واجتياز المواقع الصعبة المرور، كأن روح الفاتح قد دبت في أفئدتهم فأصبحوا يمثلونها ويتمثلون بها. ولما رأى جمهور البندقية ما حل به من الشدة خضع لمطاليب الفاتح بأسرها ووافق على الصلح بالشروط الآتية:
عليه
أولا:
تسليم أشقودرة وبقية الأماكن التي لم تضبط في بلاد اليونان، وإعادة المحلات التي استولى عليها البندقيون إبان الحرب.
صفحه نامشخص