وأثناء الاشتغال بهذا الفتح انتقض القرمانيون مرة أخرى ودفعوا البلاد إلى الفوضى، مما بعث بالسلطان إلى إشهار الأحكام العرفية بينهم وإقصاء بعض زعمائهم وإيوائهم بأماكن بعيدة؛ حبا بإخلاد الأهالي إلى السكينة ودرء الأخطار التي تنجم عادة عن مثل ذلك، وأرسل محمد باشا روم ثم إسحاق باشا وأحمد باشا كدك بالنظر لما أتى به الأول من ضروب الاعتساف وصنوف الجور، وما اعترضه من عدم النجاح الذي هو نتيجة طبيعية لظلمه وطغيانه.
وبينما كان أحمد باشا كدك يعنى بقمع الثورة وتثبيت دعائم الأمن والنظام، قام حسن الطويل يحاول الهجوم على البلاد العثمانية، «وفي كل واد أثر من ثعلبة.»
اشتغل هذا الزعيم بعد انعقاد الصلح بينه وبين الفاتح بالتفرد بين ظهرانيه وضمن بلاد أجداده، وقضى على جهانشاه ملك ذوي الأغنام السوداء، وعلى أبي سعيد ميرزا حفيد تيمورلنك بعد حروب دموية طاحنة، ونبذ حسين بايقرا من خراسان نبذ النواة، وملك أعنة البلاد الكائنة على حدود الدولة العثمانية حتى نهر جيجون طولا وعرضا، والأماكن الواقعة بين بحر الخزر إلى السند، فكان مثال تيمورلنك أو تمثاله الحيوي.
قلنا إن حسن الطويل اتبع خطوات تيمورلنك واتخذها نموذجا في حركاته وسكناته، وقد دمر توقاد، وتوجه بجيشه من قيصرية على بلاد قرمان لحماية أصحابها، فضلا عن أنه كان يرمي بكل أوضاعه وأطواره إلى الغض من كرامة السلطان ويتعمد إهانته، كمخاطبته بلقب بك، وإيصائه بالدعاء لدولته، وغير ذلك من أشكال الازدراء، ولم يسع الفاتح عند سماع هذا الخبر إلا القفوز على جهات الأناضول كالباز الصيود، وكاد يتوغل في داخليتها، لولا أن وزيره محمود باشا الذي تربع في دست الوزارة للمرة الثانية استوقفه بداعي حلول فصل الشتاء؛ لأنه يحول دون الحركات الحربية، هذا من جهة، أما من الثانية فإن التحقيق أسفر عن أن قوى العدو قليلة، وهي لا تستدعي مزيد اهتمام ولا تستلزم سفر السلطان بذاته، فاكتفى الفاتح بإرسال سرية عهد بقيادتها إلى الأمير مصطفى وداود باشا أمير أمراء الأناضول، وقد قامت هذه السرية بما أنيط بها خير قيام، فوقف حسن الطويل عند حد محدود.
ولما أقبل فصل الربيع قام السلطان على مائة وثمانين ألف مقاتل يطلب حسن الطويل في الجهة الشرقية بعد أن أخبره عن عزمه بكتاب ملؤه التهديد والوعيد، ولكنه خلو من كل مفاخرة حسبما كانت عليه عادة تلك الأيام الخالية، أخبره ليكون على بينة من الأمر ويستعد لمقابلته ومقاتلته، وفي ذلك ما فيه من المروءة وكرم الخلاق. أما حسن الطويل فإنه لجأ إلى سفوح جبال الضفة المقابلة من نهر الفرات يتربص ورود الفاتح، وكان في طليعة الجيش خاص مراد - من مقربي الفاتح - فلما دنا من معسكر العدو لم يتمالك أن حاول عبور نهر الفرات، وكانت هذه الحركة محفوفة بالخطر، فأرسل السلطان محمود باشا لكي يلاحظه ويثنيه عن عزمه، ولكنه كان كنافخ في رماد؛ لأن الأول كان متشبثا في رأيه ومعتمدا على شجاعته على قلة اختباره وحنكته، فاجتاز النهر هو وجيشه.
وقد جاءت هذه موافقة لأميال حسن الطويل؛ لأنها شعبة من الخطأ وضرب من الخطل، وأخذ يستعمل الخدع الحربية بأن تظاهر بالرجوع إلى الوراء وكمن في الطريق، حتى وقع الجيش في الشراك المنصوبة له واستشهد قائده.
رأى حسن الطويل هذا النجاح، وظن أن السطوة العثمانية قد اضمحلت وقوتها قد تلاشت، فصار يخيل له الوهم الاستيلاء على القسطنطينية، بل على المغرب الأقصى، وبينما هو في أحلامه هذه إذ وافاه الفاتح وقد وصل إلى صحراء ترجان ببرهة أسبوع وهو يتقد حنقا وغيظا.
ولما التقى الجمعان ولى الفاتح قيادة ميمنة الجيش إلى الأمير بايزيد، والميسرة إلى الأمير مصطفى، وتولى هو قلب الجيش بذاته، ولم تمض ساعتان أو ثلاث حمي فيها وطيس الحرب إلا ونجحت ميمنته ثم ميسرته بتفريق كتائب العدو، وقتل قائد ميسرة العدو زينل بن حسن الطويل، فشكر الفاتح المولى على ما أتاه من النصر العزيز والفتح المبين على رجل طاغية تفرد بسلطته واشمخر بأنفه، وأعتق رقاب الأسرى الموجودة عنده، وقد كانوا أربعين ألفا أو يزيدون، وأعاد إليهم حريتهم المسلوبة وحقهم الضائع. هذه كمالات لا تصلح إلا للفاتح ولا يصلح إلا لها.
وقد أراد السلطان أن يقتفي أثر حسن الطويل ويستأصل جذوره، ولكن وزيره الأكبر محمود باشا أقنعه بالعدول عن هذا العزم بقوله إن العدو قد كسر شر كسرة لا يرجى له بعدها قومة، وإنه لا بد من مصادفة عقبات وحواجز طالما هو متحصن بالجبال الجرداء، وإن الأهلين من أبناء ديننا المسلمين، فلا يجيز السلطان شن الغارة عليهم، إلى غير ذلك من الملاحظات التي استحسنها الفاتح وعمل بها.
وقد عاد الفاتح إلى عاصمة السلطنة بعد أن استولى على شبين قرة حصار وبعض القلاع في تلك الديار إبان رجوعه، وأقام فيها.
صفحه نامشخص