مقدمة التحقيق

(1) الحمد لله على سابغ إفضاله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله.

أما بعد، فهذا كتاب «سيرة رسول الله» صلى الله عليه وسلم، الذي استخرجه الإمام أبو محمد عبد الملك بن هشام المعافري، من كتاب «السيرة» لمحمد بن إسحاق المطلبي، وهو أقدم السير الجامعة وأصحها. [ (1) ]

(المغازي والسير) :

| (المغازي والسير) :

لفظتا «المغازي والسير» إذا أطلقتا، فالمراد بهما عند مؤرخي المسلمين تلك الصفحة الأولى من تاريخ الأمة العربية: صفحة الجهاد في إقامة صرح الإسلام وجمع العرب تحت لواء الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وما يضاف إلى ذلك من الحديث عن نشأة النبي، وذكر آبائه، وما سبق حياته من أحداث لها صلة بشأنه وحياة أصحابه الذين أبلوا معه في إقامة الدين، وحملوا رسالته في الخافقين.

وظهور الرسالة المحمدية أعظم حادث في تاريخ العرب خاصة، والبشر عامة:

لأن حياة العرب سادة ودهماء-أيام الرسول-كانت له ولدينه، فما اجتمع ملأ منهم أو تفرق إلا فيه، ولا تحدثوا في نديهم إلا عنه، ولا تحركت كتائبهم وجيوشهم إلا له، حتى كان قصارى بلائه فيهم اجتماعهم على الإسلام، ونبذهم ما كانوا فيه من الجاهلية الجهلاء، والضلالة العمياء.

[ (1) ]المراجع التي رجعنا إليها في هذا البحث هي:

بغية الوعاة للسيوطي-تاريخ ابن كثير-تاريخ آداب اللغة العربية لجورجى زيدان-تاريخ بغداد للخطيب البغدادي-تهذيب التهذيب للعسقلانى-حسن المحاضرة للسيوطي-ضحى الإسلام لأحمد أمين- الطبقات الكبرى لابن سعد-عيون الأثر في المغازي والشمائل والسير، لابن سيد الناس-الفهرست لابن النديم-كشف الظنون لملا كاتب جلبي-الكمال في معرفة الرجال لابن النجار-معجم الأدباء ومعجم البلدان لياقوت-معجم ما استعجم للبكرى. الوسيط لأحمد الإسكندري ومصطفى عناني-وفيات الأعيان لابن خلكان.

صفحه ۳

(1) ثم برزت هذه الأمة العربية، التي كانت قد أنكرتها الأمم، وتخطفهم الناس من حولهم، إلى ميادين الحياة، تؤدى رسالتها في هداية البشر، وتقيم القسطاس بين الناس، وتضرب المثل الأعلى في علو الهمة، والبطولة، والإيثار، ونصرة الحق، والتعاون على البر والتقوى، والاستمساك بمكارم الأخلاق.

هذا مجمل ما تتضمنه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والرعيل الأول من صحابته، الذين تابعوه على الهدى ودين الحق، وسبقوا إلى تدوين صحف المجد والفخار العربى بما خلدوا من أعمالهم على وجه الزمان.

ثم دب إلى بعض من خلف بعدهم من الزعماء التحاسد والتباغض، وقلة التناصر والتعاون، فتشعبت بالأمة السبل، وتفرقت بهم النواحي، فكان لهم إلى جانب ذلك التاريخ تاريخ، وانقسم هذا التاريخ بانقسام الأمة دولا، كان لكل دولة تاريخها الخاص في موقعها الجديد، واتصالها بغيرها من الدول.

(التاريخ عند العرب) :

| (التاريخ عند العرب) :

ولم يكن للعرب قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم من مادة التاريخ إلا ما توارثوه بالرواية، مما كان شائعا بينهم من أخبار الجاهلية الأولى، كحديثهم عن آبائهم وأجدادهم، وأنسابهم، وما في حياة الآباء والأجداد من قصص، فيها البطولة، وفيها الكرم، وفيها الوفاء، ثم حديثهم عن البيت وزمزم وجرهم، وما كان من أمرها، ثم ما كان من خبر البيوتات التي تناوبت الإمرة على قريش، وما جرى لسد مأرب، وما تبعه من تفرق الناس في البلاد، إلى أمثال هذا مما قامت فيه الذاكرة مقام الكتاب، واللسان مقام القلم، يعى الناس عنه، ويحفظون، ثم يؤدون.

ثم ظهر مورد جديد بظهور النبي صلى الله عليه وسلم وظهور دعوته، هي أحاديث الصحابة والتابعين عن ولادته صلى الله عليه وسلم وحياته، وما ملئت به هذه الحياة من جهاد في سبيل الله، واصطدام مع المشركين، ومن ليس على دينه، ودعوة إلى التوحيد، وما كان فيها من أثر للألسنة والسيوف. فهذا وذاك كان مادة للتاريخ أولا، ثم للسيرة ثانيا.

صفحه ۴

(1) ولم يدون في تاريخ العرب أو السيرة شيء، إلى أن مضت أيام الخلفاء، بل لم يدون في هذه المدة غير القرآن ومبادئ النحو. فقد رأينا المسلمين يحفزهم حرصهم على حفظ القرآن إلى كتابته في حياة النبي وبعده، كما حفزتهم مخافتهم من تفشي العجمة على الألسنة إلى تدوين النحو، وذلك لما اختلط العرب بغيرهم عند اتساع الرقعة الإسلامية.

(بدء التأليف في السيرة) :

| (بدء التأليف في السيرة) :

ولما كانت أيام معاوية، أحب أن يدون في التاريخ كتاب، فاستقدم عبيد ابن شرية الجرهمي من صنعاء، فكتب له كتاب الملوك وأخبار الماضين. بعد هذا رأينا أكثر من واحد من العلماء يتجهون إلى علم التاريخ من ناحيته الخاصة لا العامة، وهي سيرة الرسول. ولعلهم وجدوا في تدوين ما يتعلق به عليه الصلاة والسلام شيئا يحقق ما في أنفسهم من تعلق به، وحب لتخليد آثاره، بعد أن منعوا من تدوين أحاديثه إلى أيام عمر بن عبد العزيز، مخافة أن يختلط الحديث بالقرآن، فجاء أكثر من رجل كلهم محدث، فدونوا في السيرة كتبا، نذكر منهم: عروة بن الزبير بن العوام الفقيه المحدث، الذي مكنه نسبه من قبل أبيه الزبير وأمه أسماء بنت أبى بكر أن يروى الكثير من الأخبار والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحياة صدر الإسلام.

وحسبك أن تعلم أن ابن إسحاق، والواقدي والطبري، أكثروا من الأخذ عنه، ولا سيما فيما يتعلق بالهجرة إلى الحبشة، والمدينة، وغزوة بدر. وكانت وفاة عروة -فيما يظن-سنة 92 ه.

ثم أبان بن عثمان بن عفان المدني المتوفى سنة 105 ه. فألف في السيرة صحفا جمع فيها أحاديث حياة الرسول.

ثم وهب بن منبه اليمنى المتوفى سنة 110 ه. وفي مدينة هيدلبرج بألمانيا قطعة من كتابه الذي ألفه في المغازي.

وغير هؤلاء كثير، منهم من قضى نحبه قرب تمام الربع الأول من القرن الثاني،

صفحه ۵

(1) كشرحبيل بن سعد المتوفى سنة 123 ه. وابن شهاب الزهرى المتوفى سنة 124 ه.

وعاصم بن عمر بن قتادة المتوفى سنة 120 ه. ومنهم من جاوزه بسنين، كعبد الله بن أبى بكر بن حزم المتوفى سنة 135 ه.

وكان هؤلاء الأربعة ممن عنوا بأخبار المغازي، وما يتصل بها.

ومنهم من عاش حتى أوشك أن يدرك منتصف القرن الثاني، أو جاوزه بقليل، كموسى بن عقبة المتوفى سنة 141 ه، ثم معمر بن راشد المتوفى سنة 150 ه، ثم شيخ رجال السيرة محمد بن إسحاق المتوفى سنة 152 ه.

وجاء بعد هؤلاء غيرهم، نذكر منهم زيادا البكائي المتوفى سنة 183 ه، والواقدي صاحب المغازي المتوفى سنة 207 ه، ومحمد بن سعد صاحب الطبقات الكبرى المتوفى سنة 230 ه . وقبل أن تستأثر المنية بابن سعد عدت على ابن هشام في سنة 218 ه. وابن هشام هو الرجل الذي انتهت إليه سيرة ابن إسحاق، فعرفت به وشاع ذكره بها.

(علم السيرة في أدواره المختلفة) :

| (علم السيرة في أدواره المختلفة) :

ولم تنقطع العناية بالتأليف في السيرة إلى يومنا هذا. إلا أن الموضوع في ذاته ليس أمرا يقوم على التجارب، أو فكرة يقيمها برهان وينفضها برهان، شأن النظريات العلمية التي نرى اتصال العلماء بها اتصال تجديد وتغيير على مر السنين، وإنما هو أمر عماده النقل والرواية.

فكان المشتغلون به أولا محدثين ناقلين، ثم رأينا من جاء بعدهم جامعين مبوبين، ولما استوى للمتأخرين ما جمع المتقدمون، جاء طور النقد والتعليق، كما فعل ابن هشام في سيرة ابن إسحاق.

فكان هذا التراث بين أيدي من جاء بعدهم شيئا غير قابل لجديد في جوهره، كل مجهود فيه كان في الشكل والصورة لا يمس الجوهر إلا بمقدار. وقد رأينا المؤلفين فيه على ضربين: فريق عاش في ظل كتب الأولين، يتناولها بالشرح، أو الاختصار، أو النظم ليسهل حفظها. وفريق صبغ نفسه بصفة المؤلف المبتدع،

صفحه ۶

(1) فجمع بين يديه كتب السيرة، وخرج منها بكتاب هو في ظاهره له، وفي حقيقته أنه لغير واحد ممن سبقوه.

نذكر من الفريق الثاني ابن فارس[1] اللغوي المتوفى بالري سنة 395 ه، ومحمد ابن علي بن يوسف الشافعي الشامي المتوفى سنة 600 ه، وابن أبى طى يحيى بن حميد المتوفى سنة 630 ه، وظهير الدين على بن محمد كازروني المتوفى سنة 694 ه وعلاء الدين علي بن محمد الخلاطى الحنفي المتوفى سنة 708 ه، وابن سيد الناس[2] البصري الشافعي المولود سنة 661 ه، والمتوفى سنة 734 ه، وشهاب الدين الرعينى الغرناطي[3] المتوفى سنة 779 ه، وأبا عبد الله محمد بن أحمد ابن علي بن جابر الأندلسي[4] المتوفى سنة 780 ه. ثم محمد بن يوسف الصالحي صاحب السيرة الشامية[5] المتوفى سنة 942 ه، وعلي بن برهان الدين صاحب السيرة الحلبية[6] المولود بمصر سنة 975 ه والمتوفى سنة 1044 ه، وغير هؤلاء نقتصر منهم على ما أوردنا.

ونذكر من رجال الفريق الأول: السهيلي، وأبا ذر، وكلاهما شرح سيرة ابن هشام، وقطب الدين عبد الكريم الجماعيلى[7] المتوفى سنة 735 ه، الذي شرح سيرة محمد بن على بن يوسف، وقاسم بن قطلوبغا ملخص سيرة مغلطاى[8]، [ (1) ]بدار الكتب المصرية نسختان مخطوطتان من سيرة ابن فارس برقمى 460، 494 تاريخ.

[ (2) ]لابن سيد الناس كتابه «عيون الأثر، في فنون المغازي والشمائل والسير» ، وبدار الكتب المصرية نسخ خطبة منه.

[ (3) ]له «رسالة في السيرة والمولد النبوي» بدار الكتب المصرية مخطوطة (برقم 494 مجاميع تاريخ)

[ (4) ]كتابه يسمى «رسالة في السيرة والمولد النبوي» ضمن مجموعة مخطوطة بدار الكتب المصرية مع الرسالة المتقدمة (برقم 494 مجاميع تاريخ) .

[ (5) ]واسمها: «سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد... إلخ» . ومنها بدار الكتب المصرية نسختان مخطوطتان: إحداهما في أربعة أجزاء. والأخرى موجود منها جزءان فقط، وهما: الثالث والخامس.

[ (6) ]واسمها: «إنسان العيون، في سيرة الأمين المأمون، عليه الصلاة والسلام» ومنها بدار الكتب أكثر من نسخة.

[ (7) ]وسمى كتابه: «المورد العذب الهنى، في الكلام على سيرة عبد الغنى» .

[ (8) ]هو الحافظ علاء الدين مغلطاى المولود سنة 689 ه، والمتوفى في شعبان سنة 762 ه وله في السيرة والتاريخ كتاب «الإشارة إلى سيرة المصطفى، وآثار من بعده من الخلفاء» انتهى فيه إلى نهاية الكلام على الدولة العباسية سنة 656 ه. وبدار الكتب منه أكثر من نسخة، كلها مخطوط.

صفحه ۷