سینما و فلسفه
السينما والفلسفة: ماذا تقدم إحداهما للأخرى
ژانرها
13
ولا يمكن كذلك تعريفه بأنه فعل يؤدي إلى أفضل العواقب الموضوعية عندما يتطلب هذا من الفاعل التضحية بشيء يحمل قيمة بارزة لديه. لا بد من تعريف الكرم على نحو مختلف؛ فالكرم، بوصفه فضيلة، شأن معقد ومن الصعب تعريفه. هو ليس مجرد ميل إلى مساعدة الآخرين أو بذل الوقت والمال والممتلكات بسخاء، بل ينطوي على طريقة لتأمل المواقف التي نواجهها والاستجابة لها؛ بحيث تصبح اهتمامات ومشاغل الآخرين المتورطين في هذه المواقف جديرة بأن تكتسب أهمية في أعيننا؛ ويتضمن استجابة لهذا الإدراك تدفعنا إلى التفكير فيما نستطيع فعله للمساعدة، وفي ضوء هذا نتيح ما نملك من وقت وموارد للمساعدة ... إلخ. ليس هذا مكانا مناسبا لتطوير نظرية حول فضيلة الكرم، بل غرضنا هو توضيح أنها مسألة معقدة. معظم الفضائل معقدة ومن الصعب تعريفها، لكنها، من وجهة نظر مناصري هذا الخيار الثالث، أولية من المنظور الفلسفي. يميز الخيار الثالث أحيانا عن الخيار الثاني عبر تسميته بأخلاقيات الفضيلة (بدلا من كونه جزءا من نظرية الفضيلة). وبناء على ذلك، يصبح منافسا لنظريتي العواقبية وأخلاق الواجب التي استعرضناها في الفصل السابق فيما يخص فعل الصواب.
الطريقة الرابعة لصياغة العلاقة بين الفضائل وفعل الصواب تقترح الاستعاضة عن نظرية الفضيلة بنظرية فعل الصواب.
14
بالطبع نحن نميل إلى مناقشة المعضلات الأخلاقية من منظور تحديد الفعل الصائب، لكن المدافعين عن هذا النوع من نظرية الفضيلة يزعمون أنه من الأفضل لنا التركيز عوضا عن ذلك على مناقشة المعضلات الأخلاقية من منظور كيف يتصرف الناس على نحو جيد (أي فاضل) في المواقف التي يواجهونها. على سبيل المثال، في موقف العبارتين، بدلا من محاولة تحديد ما إذا كان الضغط على الزر أمرا جائزا أخلاقيا (ومن ثم تفجير العبارة الأخرى)، قد نحاول تحديد ما إذا كان الأفراد في كلتا العبارتين تصرفوا على نحو جيد. كيف كانوا سيتصرفون على نحو أفضل؟ هل السجين الذي ألقى بجهاز التفجير من على سطح العبارة تصرف تصرفا جيدا؟ هل كان تصرفه شجاعا؟ هل كان تصرفه حكيما؟ هل تصرف على نحو مخادع؟ هل كان تصرفه تصرفا بطوليا أم كان عنيدا ومتعجرفا؟ (لقد تصرف كما لو كان القرار قراره وحده في النهاية، وقد حكم على جميع من في العبارة بموت شبه حتمي، كما بدا وقتها.) بوسعنا دوما طرح السؤال التالي: ما الفعل الذي من المرجح أن يسفر عن أفضل نتيجة؟ لكن لا ينبغي أن يتألف حكمنا الأخلاقي على ركاب العبارتين من الإجابة عن هذا السؤال. قد نعتقد أن النتيجة الأفضل على الأرجح (إذا راعينا الموضوعية، وافترضنا أن باتمان لن ينقذنا) هي تفجير المدنيين لعبارة السجناء. هي ليست نتيجة مثالية بالطبع لكنها أفضل من موت الجميع، وأفضل (وإن كان بهامش ضئيل) من نجاة السجناء على حساب المدنيين. رغم ذلك قد نعتقد أيضا أن تحقيق هذه النتيجة لم يكن ليتم إلا إذا تصرف أحد ركاب عبارة المدنيين تصرفا وحشيا نستهجنه بشدة. يرى منظرو الفضيلة أن الأخلاق لا تهدف إلى ضمان حصولنا على أشد ما نرغب به، بل تهدف إلى ضمان أن نحيا حياة جيدة. وفي بعض الأحيان من الأفضل أن نموت في سبيل الفضيلة بدلا من أن نحيا حياة وحشية (فظيعة).
لقد أصبحت المعضلة الآن هي تحديد ما سيحدث عندما نفكر مليا فيما ينبغي لنا فعله في موقف معين. إذا تبنينا نظرية من نظريات فعل الصواب، فيمكننا على ما يبدو الاكتفاء بتحري الخصائص التي تجعل من الأفعال المحتملة أفعالا صائبة كي نحدد أيا منها ينبغي لنا تنفيذه. لكن هذه العملية تبدو منطقية فحسب إذا كان لدينا صيغ أو إجراءات جاهزة نستعين بها لتحديد الفعل الصائب. وحسب صورة نظرية الفضيلة التي نتناولها حاليا، تلك الصيغ أو العمليات غير موجودة. ماذا سيحدث إذا رفضنا وصف المواقف من منظور الصواب والخطأ (أي من منظور الأفعال الجائزة والواجبة والمحرمة أخلاقيا)؟ كيف يفترض بنا تدبر ما يواجهنا من المنظور الأخلاقي؟ هل يفترض بنا تدبر أي من الأفعال هو الأصلح في ظل الظروف التي نواجهها؟ قد يبدو ذلك تكتيكا منطقيا من الوهلة الأولى، لكنه لا يجدي. فغالبا الانشغال بفضيلتنا هو عينه الطريقة الخطأ للاستجابة لموقف ما، أو بعبارة أخرى، طريقة رديئة من طرق الاستجابة؛ فالتفكير بهذه الطريقة سيعد تفكيرا نرجسيا من جانبنا على السياق الأخلاقي، كما لو أن كل ما يهم في الموقف هو أن نخرج منه ونحن نبدو صالحين (أو بالأحرى نكون صالحين). تخيل أن يقرر إيجور مساعدة أسيتا، لا لسبب سوى أن يكون صبيا صالحا. ثمة أمر محبط حيال هذا الدافع الأخلاقي، فما يتسم به من اهتمام نرجسي بالنفس يقوض احتمالية الفضيلة الحقيقية. النرجسية ليست من الفضيلة؛ ومن ثم لا يمكن أن نصبح صالحين من خلال التركيز على هدف واحد فقط وهو أن نكون صالحين. ربما لاحظت كذلك أننا إذا فكرنا وفقا لهذا المنظور فسوف نقترب كثيرا من قبول الخيار الثالث الاختزالي الذي وصفناه سابقا. حسب هذا الاقتراح، نكتشف الفعل الصائب عن طريق البحث عن الفعل الفاضل. والطريقة المثلى لاستيعاب هذا هي ببساطة المساواة بين التصرف على نحو فاضل والتصرف على نحو صائب. إذا رغب أحد في الدفاع عن هذه الصيغة الرابعة غير الاختزالية من نظرية الفضيلة، عليه تقديم رؤية للتفكير الأخلاقي الفاضل لا تقتصر على التفكير فيما سيعد فعلا فاضلا، لكنها لا تختزل نفسها كذلك في تطبيق صيغ أخرى للفعل الصائب. وكما قد نتوقع من منظري الفضيلة، ستتسم تلك الرؤية على الأرجح بالتعقيد.
خلاصة القول، يوجد أربع طرق لوصف العلاقة بين فعل الصواب والتصرف على نحو يلتزم الفضيلة. (1) التصرف على نحو فاضل هو نفسه فعل الصواب. (2) التصرف على نحو فاضل ينطوي على ما هو أكثر من فعل الصواب. (3) التصرف على نحو صائب هو نفسه التصرف على نحو فاضل (أو التصرف مثلما كان الأشخاص الصالحون سيتصرفون في نفس الظروف). (4) التصرف على نحو فاضل يختلف عن التصرف على نحو صائب (ولا توجد نظرية فلسفية مرضية توضح ماهية التصرف على نحو صائب، ومن الأفضل لنا ألا نعتمد على مفهوم الفعل الصائب كي نطرح أفكارا فلسفية مهمة). فحتى تصبح واحدا من منظري الفضيلة لا بد أن تدافع عن الطريقة الثانية والثالثة والرابعة وترفض الأولى. لكل صورة من صور نظرية الفضيلة الثلاث مناصروها، ولكل منها ميزة خاصة بها. تبدو الصورة الثالثة الأكثر منطقية؛ إذ لا تتطلب منا سوى تخصيص مكان مميز لدور الفضيلة في النظريات الأخلاقية التي نطرحها، في حين تبدو الصورة الرابعة الأكثر جذرية؛ إذ تتطلب منا التخلص من انجذابنا التلقائي إلى نظريات فعل الصواب مثل تلك التي عرضناها في الفصل السابق. لن نتخذ موقفا حاسما ها هنا؛ فالفيلم لا يساعدنا على التمييز بين تلك الخيارات أيضا. لكن ما يفعله، رغم ذلك، هو أنه يقدم دليلا قويا على أن الصيغ الثانية والثالثة والرابعة صحيحة وأن الصورة الأولى خاطئة.
الوعد وتأثيره
فلنرجع إلى الفيلم، حيث يعد إيجور حميدو أنه سيعتني بأسيتا وطفلها. في البداية لا يفعل الكثير لأجلهما. هو يساعدها على دق وتد (عمل بطولي حقا!) ويحضر لها موقدا يعمل بالخشب. هذه ليست المرة الأولى التي يبدي فيها إيجور اهتماما بأسيتا، فمنذ وصولها إلى النزل كان يراقبها. هو مفتون بها وبأسنانها البيضاء الرائعة، ونراه يحاول تبييض أسنانه بطرقه الخاصة (التي تتضمن وضع سائل تصحيح الأخطاء الكتابية الأبيض على أسنانه الأمامية، ما يجعله بالطبع يبدو مثل الإوزة). يجسد الفيلم تقاربا متناميا بين الصبي وأسيتا بعدما قطع الوعد لزوجها؛ فيحضر تضحيتها بدجاجة في طقوس روحانية (إذ تريد معرفة مكان زوجها)، ويعطيها مالا ويلقى جزاء هذا ضربا مبرحا من أبيه. يقوى الرباط بين إيجور وأسيتا تدريجيا، لكنه كان أكثر منها سعيا لذلك. صحيح أنها ترحب بمساعدته لكنها كذلك متحفظة وعازفة عن تشجيعه؛ هي لا تحمل عاطفه كبيرة تجاه هذا الصبي الأبيض الغريب الذي يبدي اهتماما يتعذر تفسيره بمصلحتها. في الوقت نفسه تضعف العلاقة بين الأب وابنه. لقد هيمن روجر على الصبي؛ فيلقي إليه بأوامر حادة، ولا يقبل أي نوع من المناقشة أو المعارضة، ويعاقبه بوحشية عندما يتصرف خلافا لمصالحه. يلجأ روجر إلى طرق متنوعة لمكافأة إيجور عندما يتعاون معه، ويحاول كذلك أن يعوضه عن نوبات غضبه العنيفة بشتى الطرق؛ فيهديه خاتما في إحدى المرات، ويساعده في رسم وشم أعلى ذراعه بالمنزل، ويشتركان معا في الغناء بأحد البارات. لكن شيئا ما في العلاقة بين الأب والابن انكسر بعدما ترك الأب حميدو يموت.
يتجلى ذلك في تعبيرات إيجور بقدر ما يتجلى في أفعاله. في بداية الفيلم، يستجيب إيجور لأوامر روجر بينما يعلو وجهه تعبير عن الرضا والإحساس بالأهمية. فعندما يتلقى أمرا بمغادرة مكان عمله في ورشة إصلاح السيارات والعودة إلى المنزل (لمساعده أبيه في التعامل مع مفتشي العمل) لا يظهر أي شيء يدل على أسفه للمغادرة. وعندما ينذره رئيسه في العمل، ويخيره بين تحدي أوامر أبيه أو خسارة وظيفته التدريبية، ينحاز إيجور إلى أبيه دون أدنى تردد أو قلق؛ فمساعدته مطلوبة في شئون أخرى أهم من إصلاح السيارات وضخ الوقود (الدقيقة 22 في الفيلم). عندما يستعين روجر بمساعدة إيجور في مهمة خداع أربعة من ساكني النزل وإرشادهم إلى شرطة الهجرة، يؤدي إيجور مهمته بينما تعلو وجهه مظاهر اللامبالاة والفتور (الدقيقة 16). مع توالي أحداث الفيلم، تلين تعبيرات إيجور، فيزداد عبوسه، ويبدو أكثر انشغالا وهشاشة واضطرابا. على سبيل المثال، قارن التعبير على وجه إيجور في مشهد الخداع (الدقيقة 16) ورد فعله في مشهد الهجوم على أسيتا (الدقيقة 45). في مشهد لاحق، يرتب روجر حادث اعتداء جنسي مفتعل على أسيتا في محاولة لإقناعها بالعودة إلى وطنها، بينما نتابع نحن التعبيرات على وجه إيجور؛ إذ ينصت إلى الصخب الناتج عن الهجوم، ومن رد فعله ندرك أنه كان على علم بترتيبات أبيه (لكنه لا يهرع لمساعدتها، ويستمر في تحميل حجارة الرصف). رغم ذلك يحكي وجه إيجور قصة مختلفة تماما عما بدا عليه في مشهد الخداع؛ فهو يبدو مكروبا ومستاء، كما لو كانت ألاعيب أبيه تثير اضطرابا وسأما في نفسه. (لا يؤدي هذا إلى تأثير بالغ الوضوح؛ فنطاق التعبيرات الذي يستخدمه جيريمي رينييه في تجسيد دور إيجور محدود؛ والتبدلات التي تبدو عليه ضئيلة وتكاد لا تلاحظ، لكنها رغم ذلك ظاهرة للجمهور. وبما أنها ردود فعل طبيعية فليس على الممثل سوى بذل جهد ضئيل للإشارة إلى هذا التغير في المواقف، وهو ما يقوم به جيريمي بالفعل.)
صفحه نامشخص