سینما و فلسفه
السينما والفلسفة: ماذا تقدم إحداهما للأخرى
ژانرها
لا يوجد سبب يستدعي مراقبة دريمان وزيلاند سوى الاهتمام الدنيء لدى هيمف ناحية زيلاند ورغبته في التخلص من حبيبها. مع أن جميع من في ألمانيا الشرقية في هذا الوقت كانوا معرضين للمراقبة وللخضوع للتحقيق، وأي شخص بارز يتمتع بدرجة من التأثير هو مرشح محتمل لأن يخضع للمراقبة السرية، كان الفنانون على الأخص مستهدفين. على حد قول فيليبا هاوكر في مراجعتها النقدية للفيلم (2007): «يبدي الإشتازي اهتماما خاصا بالشخصيات المبدعة، وبقدرتهم على التشكيل والتقويض والتدمير. إحدى الشخصيات تتحدث عن الكتاب واصفة إياهم ب «مهندسي الروح البشرية »، وهو تعبير مضلل يتضح أن ستالين كان يستخدمه.» ربما يلعب الفنانون دورا خاصا في عملية نشر الأفكار، حتى وإن لم يكن بوسعهم معرفة التأثير الذي سيحدثه فنهم على وجه التحديد.
جزء من أسلوب عمل عملاء الإشتازي هو معرفة كل ما يمكنهم معرفته عن المواطنين، بما في ذلك حياتهم الخاصة، فلربما رأت السلطات أنه «من الضروري»، لأي سبب كان، تقويض مكانتهم أو التحكم فيهم أو تدميرهم تحت ذريعة الحفاظ على الأمن القومي. يوضح الفيلم أن كلمه «ذريعة» هي الكلمة المناسبة في هذا السياق، فقليل من يعتقدون أن الأمن القومي معرض للخطر بصرف النظر عما يقولونه سرا أو علانية. يؤدي انجذاب الوزير ناحية زيلاند إلى إنهاء ما هو أكثر من حياتها المهنية. ويطلق علاوة على ذلك سلسلة من الأحداث التي تغير حياة ويسلر تغييرا جذريا. ويركز الفيلم في المقام الأول على هذا التغيير الصعب والعميق الذي يطرأ على ويسلر بينما يشاهد ويستمع إلى ما يحدث بين دريمان وزيلاند.
الجزء الأهم والأكثر فعالية من طريقة عمل الإشتازي يعتمد على الخوف. فبما أن عملاء الجهاز عاجزون عن الوجود في جميع الأماكن والأوقات، نجدهم يلجئون إلى استخدام شبكة واسعة جدا من المخبرين بغية أن يعجز الجميع عن تحديد من هو جاسوس ومن ليس بجاسوس. وكان تأثير ذلك في الواقع أن أصبح السكان يراقبون أنفسهم بما أن كل فرد يشك في كون جميع من حوله يتجسسون عليه، وهو شك مبرر. يجسد الفيلم سينمائيا هذا الإطار العام الخانق من الشك والخوف، ويعزز المعمار القاسي والسماء الرمادية والجو البارد والشوارع الخالية، هذا التأثير. ربما يرى المشاهد تلك العناصر باعتبارها امتدادات طبيعية قاتمة للدولة، إلى جانب كونها نوعا من المصادقة الكونية على الوضع السياسي والاجتماعي والشخصي القائم. يعرف الجمهور، عبر حاشية سينمائية تعرض مع بداية الفيلم، أن الأحداث تدور قبل خمس سنوات من حدوث تغير جذري؛ ألا وهو سقوط حائط برلين وتوحيد شرق ألمانيا («جمهورية ألمانيا الديمقراطية») وغرب ألمانيا (جمهورية ألمانيا الاتحادية)؛ ففي عام 1990، انضمت ألمانيا الشرقية أخيرا إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية. لكن خلال الوقت الذي تدور فيه أحداث الفيلم، وهو تحديدا عام 1984، كان الأمل في حدوث تغير جذري ضئيلا للغاية؛ فقد بدا أن الحكومة الاستبدادية وأسلوب الحياة الذي أرسته باق للأبد. لا يمكن فهم أفعال الشخصيات إلا في هذا السياق واستنادا إلى هذه الخلفية. وفي ظل هذه الخلفية يختار ويسلر ويخاطر بحياته ويجسد مفهوم الحظ الأخلاقي. لقد خاطر مخاطرة بالغة؛ هو ضابط ذو مكانة مرموقة في الإشتازي، لكن ضباط الإشتازي أنفسهم يتملكهم الخوف إلى حد كبير. وأبوابهم هي الأخرى قد تطرق في منتصف الليل، وقد يعتقلون لأسباب ظنية. لا يوجد سبيل قانوني مشروع يعتمد عليه في ظل هذا النظام الاستبدادي، وذلك هو سر طبيعتهم القمعية. فمن يعرف ما يستحق الخوف أفضل من ضباط الإشتازي أنفسهم؟!
بينما يتنصت ويسلر على أنشطة دريمان وزيلاند ومحادثاتهما الخاصة، يصاحب اهتمامه تدريجيا، وعلى نحو ربما فاجأه شخصيا، نوع متأن أو تأملي من الحسد. ليس ذلك النوع من الحسد النابع أساسا من الرغبة في حيازة ما لدى شخص آخر أو أن تصير مثله، بل هو نوع من الحسرة على افتقاد الجوانب التي تجعل حياة دريمان وزيلاند حياة حافلة. ومن خلال هذه المقارنة، يصبح ويسلر واعيا فيما يبدو بنوع الحياة التي يعيشها، وطبيعة شخصيته. لقد وضعت حياته موضع مقارنة مع حياتهما فأصبح يراهما على حقيقتهما، بما يقدمانه من عمل ذي قيمة، يستمتعان به وما يجمعهما من علاقة حميمة يملؤها الحب. يعد الاختلاف بين شقتهما المريحة والجذابة وبين شقته الخالية من الأثاث التي لا تحمل أي طابع شخصي اختلافا بارزا وصادما، والفرق بين ممارستهما الجنسية المتقدة ولقاء ويسلر العارض مع عاهرة، تتقاضي أجرها على أساس النصف ساعة، وترفض البقاء قليلا بعد الممارسة الجنسية لأن عميلا آخر ينتظرها، لهو فرق قاس ومحزن. إن ويسلر بصفته عضوا في الحزب الشيوعي قد استوعب داخله ما تجسده الدولة من تشكك بارد وفاتر يخلو من الحياة، على نقيض الحيوية والشغف والنزر اليسير من الأمل لدى دريمان وزيلاند.
رغم ذلك، توجد صفة واحدة لا تنطبق على ويسلر؛ وهي النفاق في صورته الأوضح؛ ففي الأجزاء الأولى من الفيلم، نراه شخصا يؤمن بهدف الدفاع عن الاشتراكية ضد ما تجلبه المثل الليبرالية والانغماس الغربي في الملذات من فساد. ويبدو في الظاهر شخصا مؤمنا بالفعل بقضية؛ شخصا ملتزما بأداء مهام دنيئة وكريهة إلى أقصى حد؛ لأنها ضرورية لأجل الدفاع عن التجربة الاشتراكية العظيمة لجمهورية ألمانيا الديمقراطية. وهو في ذلك يتناقض بقوة مع رئيسه في الإشتازي، أنطون جروبتز، وهو شخص انتهازي شكاك لا يهتم إلا بمصلحته الشخصية. من الصعب تخيل جروبتز وهو يبدي تأثرا كبيرا بالمراقبة المتلصصة لحياة الآخرين. إن انفتاح ويسلر على تأثير الآخرين على هذا النحو العميق يرجع جزئيا إلى أنه ليس شخصا انتهازيا يخدم مصلحته الخاصة. والفيلم يذكرنا بمدى الاختلاف الذي قد يحدثه الآخرون دون علم منهم في حياتنا. فموضوعه الرئيسي هو تحول ويسلر عبر إدراكه، في اللحظة الحاسمة، لحقائق مهمة حول نفسه والآخرين، تتعلق بما يقدره وما يعتبره صوابا، وبالثمن الذي يتأهب لدفعه.
يدرك ويسلر في مرحلة مبكرة أن دريمان ظل، حتى تلك اللحظة، مواطنا مخلصا. (يتبدل ولاء دريمان كذلك مع أحداث الفيلم.) ويتضح له، فيما يشبه الصحوة، أن مهمة المراقبة التي كلف بها تتعلق بابتزاز الوزير جنسيا لزيلاند، لا بالأمن القومي. يجاهد ويسلر لحيازة قدر يسير من النزاهة والحرية رغم كل ما يواجه من صعاب وفي ظل كآبة عامة، داخلية وخارجية، تطوق البلد بأسره (أي عالم أبطال الفيلم)، والتي نجح الفيلم إلى حد كبير في إعادة خلقها عبر تصوير عالم يتعرض فيه من يقمعون ويقيدون ويروعون الآخرين إلى القمع والترويع كذلك. وهكذا يتحول من عميل محترف بلا قلب يعمل لصالح الدولة، كما يصوره الفيلم في البداية، إلى شخص آخر مختلف اختلافا ملحوظا، شخص أفضل. أولا: كان على ويسلر تحديد ما يقدره، ما يرغب به ويعتقد أنه الصواب. ثم عليه - في وجه خصم شرس وخوف مبرر وغياب مخيف لأي ممن قد يلجأ إليهم كي يستمد تأييدا لآرائه - أن يحاول بطريقة ما الحياة على النحو الذي يراه واجبا أو الذي يرغب به على الأقل. لقد وجد نفسه في موقف يمنحه نوعا من التكفير عن خطاياه، وقد نجح، وهو أمر يحسب له، في إدراك طبيعة هذا الموقف عن حق واغتنامه.
6
يضع الفيلم كل شخصية من شخصياته الرئيسية أمام أشر مخاوفها خطرا. فلننظر على سبيل المثال إلى نموذج الكاتب المسرحي دريمان. يعيش دريمان في شقة أنيقة مع زيلاند؛ لقد تمكن حتى الآن من إرضاء مسئولي الحكومة عبر كتابة مسرحيات ملهمة حول الطبقة العاملة، وفي الوقت نفسه الاحتفاظ بصداقة بعض من زملائه الكتاب على الأقل، وربما احترامهم له. يتخلص دريمان تدريجيا من أوهامه حول الدولة بينما يرى تأثيرها على زملائه الكتاب؛ فقد دفع النظام - ممثلا في شخص هيمف، وهو نفسه وزير الثقافة الذي يبتز زيلاند جنسيا - صديقه ألبرت جيرجسكا إلى الانتحار عبر منعه من العمل وإفقاره. يلعب هذا الحدث دورا محوريا في تحول دريمان من فنان يعمل فيما يطلق عليه «السجن المخملي» (وهو موقف مريح وداعم للفنانين شريطة أن يلتزموا بالقواعد الأيديولوجية للنظام) إلى ناقد للنظام.
7
يوافق دريمان على تحدي السلطات والمساعدة في تهريب مقال له حول مدى انتشار حالات الانتحار في جمهورية ألمانيا الديمقراطية - وهي ظاهرة تتستر عليها الحكومة - إلى الصحيفة الألمانية الغربية دير شبيجل. يتستر ويسلر بانتظام على أنشطة دريمان؛ فقد رتب لنقل زميله إلى مهمة أخرى، وبدأ يسلم مجموعة من التقارير الزائفة (المضحكة غالبا) حول نشاط دريمان (حسب التقارير، يكتب دريمان مسرحية عن لينين).
صفحه نامشخص