سمات من الزمان‏

سمات من الزمان‏

سمات من الزمان

سمات من الزمان

تأليف

ثروت أباظة

سمات من الزمان

1

كان وفديا متعصبا، ولكن تعصبه كان بعيدا كل البعد عن أي اقتناع أو مناقشة فكرية أو جدل منطقي. ولكن تعصبه أولا وأخيرا كان لأن صديقه الذي يحنو عليه ويساند أباه في منصب العمودية كان وزيرا من الوزراء الثابتين في الوزارات الوفدية.

ومن ناحية أخرى كانت الأغلبية الوفدية سببا قويا في تعصبه للوفد، فقد كان ينتوي أمرا ويخفيه في دخيلة قلبه، وإن لم يكن يخفي الوسيلة أو الوسائل التي تحقق له هذا الهدف الخبيء في بعيد نفسه.

وقد كان إخفاؤه لهذا الهدف عنصرا من عناصر سعيه الوثيق إلى تحقيق هذا الهدف.

كان مراد دياب طلبة ابن عمدة وحفيد عمدة، وكان هذا فخرا أي فخر لأسرتهم، وطالما تناقل أبناء وأحفاد العمدة القديم عبد الستار طلبة أن التليفون لم يغادر باحة دارهم منذ ستين عاما.

وكان مراد خليقا أن يكتفي بهذا الشرف ولكنه كان يزيد على أبيه وجده بأنه نال حظا من التعليم بعد دراسته في الكتاب حتى نال الابتدائية، وقضى بعض سنوات متعثرة في التعليم الثانوي حتى وصل متقطع الأنفاس إلى الثالثة الثانوية حين كان زملاؤه قد حصلوا على التوجيهية، ودخلوا الجامعة، بينما لم يتجاوز أبوه وجده الدراسة في الكتاب، تلك الدراسة التي مكنت لهما أن يجيدا القراءة والكتابة وحفظ نصيب لا بأس به من كتاب الله الكريم، وإن كانت الأيام أنستهما ما حفظا من القرآن لأن كليهما لم يحرص على ما حفظ بلزوم القرآن ومداومة قراءته.

على أية حال كان دياب طلبة والد مراد حريصا على أن يعلم ابنه ويصل به إلى التخرج في الجامعة، وإن يكن مراد قد خذله فما كان لهذا شأن كبير عند دياب، فحسبه أن له ولدا يرث عنه العمودية بعد أن كاد يصل إلى اليأس من إنعام الله عليه بولد.

فقد ظل بلا مولود أو مولودة خمس سنوات بعد زواجه من ابنة عمه بدوية عبد الموجود طلبة.

وكان مراد أول ما من الله به عليه، وتبعته بنتان أسمى الأولى نجاح، وربما كان هذا الاسم ينبض بما كان يراوده، من نجاح أخيها في الدراسة، وأسمى الأخرى فاطمة تيمنا بستنا فاطمة كريمة النبي عليه الصلاة والسلام.

كان في صحبة مراد في المدرسة نديم راشد، وكان أبوه من الشخصيات المرموقة في حزب الوفد، وكان ينتظر الوزراء في كل مرة يؤلف فيها الوفد الوزارة.

توطدت الصداقة بين مراد ونديم. ولما كان مراد يقيم عند عمه صالح طلبة الذي كان موظفا بوزارة الأشغال بالقاهرة، فقد كانت الرقابة عليه هينة لينة لا تعنت فيها ولا حزم؛ ولذلك كان يستطيع أن يقضي وقته جميعا في غير مواعيد الدراسة في منزل فكري بك راشد مع ابنه نديم. وكان كثيرا ما يتناول غداءه مع سعادة البك في يومي الاثنين والخميس اللذين كانت الدراسة فيهما لا تستغرق إلا نصف اليوم.

وعلى مائدة الغداء في يوم من أيام الاثنين كان الجميع يعلم أن الوفد يؤلف الوزارة في تلك الساعات. وكان فكري بك في حالة من الترقب الذي يجاهد أن يخفيه بكل ما يملك السياسي من خبرة واسعة في كبت مشاعره وزجرها أن تبين منها خلجة على وجهه بله في تصرفه.

كان جالسا إلى المائدة يتلطف كل التلطف مع مراد صديق ابنه، ويعده بهدية قيمة إذا هو نجح مع نديم في الامتحان.

وكان مراد سعيدا بهذا التلطف غاية السعادة، مضمرا أن يبلغ أباه بهذه المكانة التي بلغها عند هذا السياسي الكبير.

وفجأة رن جرس التليفون، وجاء الخادم يبلغ فكري بك أن معالي سكرتير الحزب يطلبه على التليفون، وهنا انكشف كل ما كان يكاتمه فكري من ترقب، وهب لا تكاد تسعفه قدماه إلى التليفون.

وتوقف كل من على المائدة من المأكل بل والمشرب.

وعاد سعادة فكري بك وهو معالي فكري بك وزيرا للدولة، وكأنما لم يجد أحدا يفرغ عليه سعادته إلا مراد، فإذا هو يصيح به: أنت فتى ميمون الطالع يا مراد طلبة، وستنال مني هدية عظيمة لأنني طوال فترة الغداء وأنا متفائل بك.

ومنذ ذلك اليوم أصبح مراد مقربا من فكري الذي أصبح باشا، وكان مراد سعيدا بمكانته هذه، وكان يحس أن الباشا يدلله ولا يرفض له طلبا، وعرف أهل الميمونة التي ينتمي إليها والتي يشغل أبوه فيها منصب العمدة هذا المكان الذي بلغه مراد في ساحة معالي فكري باشا، فكانوا كثيرا ما يلجئون إليه ليرجو لهم الباشا فيما يعرض لهم من مشاكل أو تعيينات أو ترقيات أو تنقلات. وكان الباشا يستجيب لرجائه، سواء كان خارج الوزارة أو داخلها.

فرجال هذا الزمان لم تكن الحزبية تقف بين بعضهم البعض أن تقوم بينهم الصداقات، وأن يلبي كل منهم ما يتشفع فيه واحد لدى الآخر مهما يكن أمر الخلاف الحزبي، إلا إذا كان المطلب يضر بالحزب الذي ينتمي إليه صاحب المنصب. وكان المشفع دائما ذكيا فلا يعرض نفسه لمطلب يمس حزب صديقه. فهو الآخر سياسي ويعلم كل العلم ما يجوز الرجاء فيه وما لا يجوز.

وهكذا لم يكن عجيبا أن ينشأ مراد طلبة وفديا متحمسا، ولم يكن بهذا يخالف ضميره، فهو لا يعرف عن حزب الوفد أو غيره من الأحزاب شيئا على الإطلاق حتى يثبت ضميره على شيء أو يخالفه لا شأن له بتاريخ أي حزب أو مبادئه، وفدا كان هذا الحزب أو كان حزبا آخر.

كل ما كان يعنيه أن فكري باشا راشد واحد من وزراء الحزب الوفدي فهو إذن وفدي.

2

كان مراد في العشرين من عمره حين رأى أبوه أن من الخير له ولابنه وللزراعة وللعمودية أن يمكث مراد بالميمونة، ولا داعي لإكمال الدراسة فهو على كل حال سواء نال الشهادة الجامعية أو لم ينلها، كان أمله كله أن يصبح مراد عمدة بعده، وأن يشرف على المائتي فدان اللتين يملكهما.

وهكذا استقر مراد بالقرية، وكان زميله نديم قد أصبح في السنة الثانية من كلية الحقوق بجامعة فؤاد، ولكن هذا الفارق في الدراسة لم يقطع ما بين الصديقين من رابطة وثيقة، ولم يؤثر في شيء على رعاية فكري باشا لمراد.

حتى لقد طلب الباشا من مراد أن يدعو أباه للغداء معه. فرجال السياسة ثروتهم تتكون من الناس قبل المال.

ورحب الحاج دياب بهذه الدعوة، مع صداقته لعمر المفتي عضو النواب الحر الدستوري عن الدائرة، ولكن معرفة فكري باشا أعظم نفعا.

وهكذا عرف مراد معالي فكري باشا، بل إنه لم يكتف بهذا، بل دعاه إلى الغداء بالميمونة مركز الزقازيق، وقبل الباشا الدعوة.

وحين لباها وجد العمدة قد أقام على شرف الباشا حفلا حافلا، فالمظاهرات تستقبل الباشا قبل ظاهر القرية بعديد من الكيلومترات، والقرى المجاورة تجامل العمدة والباشا جميعا بالتجمهر أمام قريتهم والهتاف لمعالي الباشا.

وكان دياب من العمد الأذكياء فدعا عمد البلاد التي يمر عليها الباشا أولا ليظهر أمامهم أنه يستطيع أن يدعو الباشاوات إلى بيته، ولأنه يعلم كل العلم أن الباشا يحب أن يتعرف إلى هؤلاء العمد ليكونوا أو يكون كثير منهم - على الأقل - من أنصار الحزب عند الانتخابات.

وطبعا انطلقت الأعيرة النارية إلى عنان السماء فما كان العمد جميعا سواء الداعي أو المدعوون ينظرون إلى السماء في هذه الساعات، بل كانت نظراتهم وآمالهم جميعا أرضية مغرقة في الأرضية.

وبعد الغداء أعلن الحاج دياب أنه منذ اليوم وفدي متحمس، ولن يترك الوفد مهما تكن الضغوط عليه، ولم يكن عجيبا أن يقول زميله عمدة النمايرة أنه أيضا يعلن انضمامه إلى الوفد، وكان الحاج دهشان النمر عمدة النمايرة من كبار العمد ومن كبار الأعيان أيضا، وكانت بلدته أكبر البلاد عددا في المنطقة.

وهكذا لم يكن عجيبا أيضا أن يعلن جميع العمد انضمامهم إلى الوفد. ومهما يكن شأن هذه المظاهرة فكل هؤلاء العمد كانوا على أتم استعداد للانضمام للأحزاب الأخرى حين تتولى الحكم، ولكن لا بأس بالمجاملة ما دامت لن تصيبهم في مناصبهم أو أموالهم أي إصابة مهما تكن هينة، بل هي إلى النفع أقرب، وكان كل منهم يعرف عن نفسه وعن الآخرين أنهم على أتم الاستعداد للانضمام للأحرار الدستوريين أو السعديين إذا كانوا في حضرة أي وزير من أي من الحزبين.

ولم يكن فكري باشا يغبى هذا، بل كان يعرفه كل المعرفة فهو سياسي مخضرم.

وبممارسته الحزبية ومرانه السياسي تظاهر بأنه صدق كل الذين انضموا إلى حزبه، وأظهر الفرح الشديد بهذا الكسب الحزبي الكبير، والله يعلم بل أحسب أن جميع الحاضرين بلا استثناء كانوا يعلمون ويعملون دستور النفاق هذا الذي يسود الانضمام والقبول في وقت معا.

وربما كان هذا اليوم هو ميلاد أو تمكن الخاطر الذي يهفو له مراد.

وما البأس وها هو ذا في سنه هذه الباكرة يتمكن من إقامة هذا الاستقبال الضخم للوزير الوفدي، الأمر الذي يعجز عنه كثير من عتاولة العمد وعتاتهم.

وما البأس عليه أن يتوق إلى هذا الذي يأمله لنفسه، وما البأس عليه أن يذكر البيت القديم:

منى إن تكن حقا أعذب المنى

وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا

3

قال الحاج دياب لولده مراد: لقد قاربت السن التي ينبغي فيها أن تعين عمدة، وأنا أريد أن أراك عمدة على حياة عيني. - أطال الله عمرك يا أباه وأعطاك الصحة والعافية. - فليطل عمري ما شاء الله أن يطول وأنت عمدة. - أنا لم أعص لك أمرا في حياتي. ولكن لي رأيا آخر. - نهارك أسود، رأيا آخر فيهم. - لا تخف. سيرضيك هذا الرأي ولكن أوانه لم يأت بعد. - ما هو؟ - سوف أقوله لك في الوقت المناسب. - وما المانع أن تقوله الآن. - من ناحية المانع لا مانع، ولكن لكل كلام حينه. - ما هذه الفلسفة لماذا لا تقول ما تفكر فيه؟ - لو قلته الآن سيبوخ لك على أن نفرح أنا وأنت فرحا لا مثيل له. - افرح كما شئت، ولكن لا ترفض العمودية. - يا أبي أنا تحت أمرك، ولك أن تتأكد أني لن أخرج عن طاعتك طول عمري، والله على ما أقول شهيد. - إذن فافعل ما تحب، ولا تنس أن التليفون لم ينتقل من دوار آل طلبة منذ قرابة سبعين عاما. - ولن ينتقل، لا تخف، التليفون قاعد في مكانه.

وضحك الأب والابن معا وقال مراد: أنا تحت أمرك.

وقال الحاج دياب وهو يبتسم: ومن وجاهة العمودية أن تكون رب أسرة.

وتولى مراد شيء من الدهشة فهو لم يكن يتوقع أن يحيد الحديث إلى هذا الأمر، ولكنه سرعان ما تمالك نفسه. - أما أن أتزوج فهذا أمر محترم، ولكن هل ترى اخترت لي الزوجة أيضا؟ - معاذ الله بل أنت الذي تختار.

وقال مراد وفي نفسه ما فيها من آمال عراض: فاترك لي بعض الوقت، وسوف أرضيك إن شاء الله. •••

كان مدني طلبة ابن عم مراد من أقرب أسرته إليه، وكان يخالصه بدخيلة نفسه لا يخفي عنه شيئا إلا هذا الأمل الذي يداريه في البعيد القريب من أعماقه.

قال له: مدني! إذا طلبت منك أن تخطب لي فمن تراك تختار؟ - أنت يا بني تعلمت في مصر، ولا بد أنك تريد من تحب حتى تتزوج. - دعك من حكاية الحب هذه. - معناها أنك لم تحب في مصر. - وهبني أحببت. - لعلك تصبو إلى هذه المحبوبة. - هيهات! - هذه قصة لم تحكها لي. - لم تأت مناسبة. - وها هي ذي قد جاءت. - أحكي لك. - احك. - كنت مقيما - كما تعلم - مع عمنا صالح. - بالمنيرة، أعرف ذلك. - ولم يكن البيت بعيدا عن مدرسة الخديو إسماعيل. - لا جديد في هذا. - أمام المدرسة مباشرة عمارة جديدة كنا مبهورين بها، وكان يسكن فيها واحد من زملائنا اسمه وافي الإمبابي. وكان تلميذا عظيما في الفصل لا يترك المذاكرة ليلا ولا نهارا، فقلت في نفسي أمد خيوط الصداقة بيننا لعلي أذاكر وأنجح بدلا من هذه الخيبة الثقيلة التي أعانيها.

لم أكذب خبرا توددت إلى الولد، وكان لطيف المعشر رضي الخلق، وقلت له ألا تعمل في معروفا وتجعلني أذاكر معك؟ فقال وهو يمزح: لن تستطيع معي صبرا، قلت: أنا أتصور أن أكون في مثل تقدمك، وكل ما أريده هو أن أنجح ولا أقضي في كل سنة سنتين أو ثلاثا. قال: وتسمع الكلام؟ قلت: وأسمع الكلام، لا أطيل عليك، قامت بيني وبين وافي صداقة، وكنت أفرغ من المدرسة فيصحبني إلى بيته، وقد اشترط علي واحدة من اثنتين: إما ألا أزيد بقائي عنده عن ساعة يشرح لي فيها كل ما أطلبه، وإما أن أبقى معه أذاكر حتى التاسعة مساء بلا توقف. تصور أنت أنني أذاكر من الرابعة إلى التاسعة، ملعون أبو النجاح إن لم يتحقق إلا بهذا. قلت له: لا يا عم أنا تكفيني الساعة وتفيض.

في ثاني أو ثالث يوم ذهبت إليه، ودخلت الحجرة فتاة طالما رأيتها خارجة من باب العمارة، وطالما أعجبت بها، ولم أكن أعرف أن لها بوافي أي صلة. وأذكر أنني تجرأت مرة وقلت لها: صباح الخير. فلم تلتفت إلي وذهبت إلى طريقها وكأنها ما سمعت شيئا.

فحين دخلت إلى الحجرة التي أجلس فيها أنا ووافي خيل إلي أن قلبي سيقف من المفاجأة، فالبنت حلوة يا ولد يا مدني حلاوة تفوق الوصف. - كيف؟ - ماذا تعني بكيف؟ - يعني ما شكلها؟ - حلوة. - يا أخي ماذا وراءنا، صفها وأطل في وصفها. - عينان سوداوان واسعتان ذوات رموش تشرئب إلى أعلى في انثناءة مقوسة رائعة الحلاوة موضوعتان داخل خدين ناعمين أنعم من الحرير. - وكيف عرفت؟ لامست خدها؟ - ليس في أول يوم على أي حال. بالنظر هل لا بد أن تمسك الحرير لكي تعرفه. - نهايته أكمل. - قوام ممشوق كل شيء فيه مرسوم بدقة، شغل رب قادر، وهي إلى النحافة أقرب، ولكن ذلك لم يمنع الأماكن التي يجمل بها أن تكون عظيمة من أن تكون عظيمة في كبرياء يا ولد يا مدني، وفي إشارات تأمر بالإعجاب ولا ترضى به بديلا أنا رأيتها داخلة. - وقلبك كان سيقف، قلت هذا من قبل. - وركبني ذهول وقبل أن أفيق قال لها وافي: تعالي يا هند هذا زميلنا مراد، وفجأة تذكرت محاولتي أن ألقي عليها تحية الصباح، وركبني الرعب أن تذكر شيئا عنها لأخيها، ولكنها قالت في صوت ناعم مخملي كما يقولون وفي غير كلفة: أهلا. وفي خبث لم تشأ أن تفوت الفرصة دون أن تغمزني في تجرئي على إلقاء تحية الصباح. فقالت كثيرا ما رأيته وهو ذاهب إلى المدرسة يظهر أن عمارتنا في طريقه. والخبيثة تعلم أنني لو شئت أن أذهب إلى المدرسة مباشرة لذهبت دون أن أمر بباب العمارة. فقد كان طريقي من شارع الملك الناصر، والقاصد إلى مدرستي لا يحتاج أن يمر بالعمارة ولكنني كنت أتحرى أن أقف لحظات أمام العمارة لعلها تخرج. - يعني كنت تعرف جمالها. - لم أكن تحققت منه كما فعلت وهي تسلم علي ويدها في يدي وتقول أهلا. كنت أعرف أنها جميلة، ولكن تفاصيل هذا الجمال لم تتضح في إبهار كما اتضحت وهي معنا في الغرفة. قالت لأخيها: أنت مشغول؟ أجيء لك في وقت آخر، فقال لها: هل هناك شيء؟ قالت: مسألة حساب كنت أريد أن أسألك فيها. قلت أقسم بالله العظيم ثلاثا إن لم تحل لها المسألة لمشيت من فوري لا ساعة ولا عشر، فضحكت ملء قلبها، وسألت عن حكاية الساعة هذه، فأخبرتها وأكملت: وأنا يا آنسة هند لست أتحمل المذاكرة أكثر من ساعة في اليوم الذي أكون فيه مجدا كل الجد، وهيهات لي أن أكون كفء أستاذنا وافي. - طبعا كنت تريدها أن تحل المسألة لتبقى أطول فترة ممكنة. - عجيبة وفهمتها وحدك! فلماذا يقولون عنك غبي؟ - أنت قليلة الأدب. أكمل. - حل المسألة وأنا لا أفهم مما يقول شيئا، فأنا عنه وعن المسألة في شغل شاغل بالمسألة الإلهية الكبرى التي أبدع الله خلقها. قل عرفتها. وأصبح من الطبيعي أن أنتظرها في اليوم التالي، وأصبح من الطبيعي أن أقول: صباح الخير، فتقول: صباح الخير. يوم والثاني والعاشر تجرأت وقلت لها: وبعد؟ قالت: وبعد في ماذا؟ في صباح الخير. وصباح الخير أليس لها آخر؟ قالت: ماذا تقصد؟ قلت: أنت تعرفين ما أقصد، قالت: بل لا أعرف شيئا. قلت لا بد من التصريح، قالت: بماذا؟ بأنني معجب غاية الإعجاب إما أن ألقاك أو فقاطعيني أو ماذا؟ تنتحر مثلا، قلت: الحقيقة أنني لن أنتحر فبصراحة ليس عندي هذه الشجاعة، ولكنني لا أدري ماذا سأفعل، وكلمة مني وكلمة منها تواعدنا على اللقاء. وواجهت في هذا اللقاء يا مدني يا أخي أكبر حب عرفته أو سأعرفه في حياتي. - إلى أي مدى كان هذا الحب؟ - على مهلك. ماذا تتصور؟ أتظنها عاهرة من الطريق؟ إنها فتاة بنت ناس وأبوها تاجر كبير. - يعني إلى أي حد وصل الحب؟ - قبلة. - فقط. - ولم أكن أتصور أنني سأنالها في حياتي لولا أن هند أحبتني يا مدني، أحبتني فعلا ووثقت بي وثوقا كاملا. - متى كان هذا؟ - قبل أن أترك المدرسة بسنتين. - يعني كنت في الثامنة عشرة. - تقريبا. - فلماذا لم تطلب من أبيك أن يزوجك بها؟ لقد كان وأنت في هذه السن واثقا أنك إن شاء الله لن تفلح في الدراسة. - قلت أنتظر سنة أخرى أكون اقتربت من العشرين. - فلنفرض. - في هذه السنة حدث الخراب الكامل. - لمن؟ - لأبيها. - ماذا حدث؟ - أفلس الأب إفلاسا كاملا. - وما لنا نحن؟ - كيف. - ألا تحبها؟ - أحبها جميعا بجمالها وبمال أبيها. - تقصد أنك كنت تنظر إلى غنى أبيها؟ - لا شك أنه كان شيئا مهما. - وماذا فعلت؟ - ليس أنا الذي فعل. ربك هو الذي فعل، ترك وافي مدرسة الخديو إسماعيل؛ لأن أباه لم يكن يستطيع أن يدفع إيجار الشقة المرتفع وأصبحت لا أرى هندا. - ألم تبحث عنها؟ - عرفت أنهم سكنوا في الحلمية. - ولم تذهب؟ - ولماذا أذهب؟! - لا، لك حق، ولماذا تذهب؟ - المهم هل تعرف لي عروسا؟ - الآن أستطيع أن أقول لك: نعم أعرف. - هل أنت واثق؟ - عرفت من العروس التي تريدها، ولكن قل لي لماذا؟ - أي لماذا؟ - إنك عندك من المال ما يكفيك ويفيض. - يكفيني لأن أكون ماذا؟ - عمدة. - أنت العمدة. - ماذا تقول؟ - كلام ابن عم حديث. - طبعا. وهل يمكن أن يكون العمدة أحدا آخر غيرك؟ - نرجع لموضوعنا. ماذا تعرف عن العروس التي أريدها؟ - أن تكون ذات مال. - طبعا، وماذا أيضا؟ - هذا الذي فهمته وأكذب لو ادعيت أنني فهمت معه شيئا آخر؟ - دعني أرحك من البحث. - أرحني أراحك الله. - عليك أن تتعرف لي من البلاد التي حولنا البنات اللاتي تصلحن زوجات لي. - أتريد بحجة الزواج أن ترى بنات المنطقة كلها؟ - اعمل ما أقوله لك وسترى أنك مغفل في استنتاجاتك. - ألا يمكن أن تتكلم من غير قلة أدب ؟ - ماذا أعمل لك ما دمت تريد أن تعمل نفسك ذكيا وأنت خائب؟ - حفظت. - أنت بالذات تعرف الناحية كلها، فأنت إلى جانب أرضك تعمل في تجارة القطن على خفيف، ولكن لا شيء يجعل الواحد يعرف الناس في البلاد مثل هذه التجارة. - والله إنك ناصح، فلماذا إذن لم تفلح في المدارس؟ - المدارس شيء، والدنيا شيء آخر. - كل الخائبين يقولون هذا القول. - لعنة الله عليك، لا تغير الحديث. - يا سيدي علم. - علم؟! - علم وينفذ.

4

طلب الحاج دياب زميله الحاج دهشان عمدة النمايرة في التليفون المباشر، لا في تليفون العمودية. - يا صباح الخير. - يا أهلا حاج دياب، مشتاق لك. - من بعض ما عندنا. - أتأتي إلي أم آتي أنا إليك؟ - غداؤنا عندك اليوم. - يا مرحب. - أنا والعائلة جميعا. - أي سعادة وهناء؟ ••• - أنا اليوم يا حاج دهشان أسعد إنسان في العالم. - إذا فأنا أيضا أسعد الناس، فسعادتك سعادتي. - قل لي لماذا؟ - ولماذا أسأل وأنت ستقول فحديثك عن سعادتك تمهيد لحديث آخر قادم في السكة. - طول عمرك لا تفوتك الفائتة، أنا طلبت الغداء عندك لسبب. - انطق. - أريد نازلي ابنتك الوحيدة لابني الوحيد. - لمراد؟ - وهل عندي ولد آخر؟ - وأين رآها؟

وهنا نطق مراد: وهل لا بد أن أراها يا عم الحاج؟ - هذا سلوككم يا أبناء المدارس. - يكفيني إنها ابنتك. - قال النبي

صلى الله عليه وسلم : «انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما.»

وقال الحاج دياب: ألم تجهز لنا الغداء؟ - لقمة على ما قسم. - ستراه ويراها، ويؤدم بينهما. •••

لم تكن جميلة ولكنها كانت صبيحة الوجه ودودا هادئة الحديث والتصرف تحسن استقبال الضيف. وقد كان مراد ينوي خطبتها على أية حال وإن كانت عجوزا شوهاء شمطاء رديئة الخلق والخلقة، فقد كان - كما قال - يريد أباها الحاج دهشان، فهو رجل ذو ثراء كما تعلم ليس له من البنين ولا البنات إلا نازلي، ثم هو صاحب شفاعة عند الكبار من المديرية كلها. بل ومن غيرها أيضا.

ولم يخل الأمر على الغداء من ابتسامة يسفر بها مراد لنازلي إجابتها ابتسامة منها.

قال الحاج وهم يتناولون قهوة ما بعد الغداء: نقرأ الفاتحة.

ونظر الحاج دهشان إلى مراد: سأكون لك ابنا صالحا إن شاء الله يا عم الحاج.

وقال الحاج دهشان: أنا ليس لي في الدنيا إلا هي، وقد بعت لها أرضي كلها بعقد مسجل، ولا أمل لي إلا أن تكون سعيدة.

وقال مراد: أظنني في غير حاجة أن أقدم لك نفسي، فأنت مني كأبي وتعرف عني كل شيء. - ما عدا أنك لا تحب العلم.

وهنا قال الحاج دياب: شغلتنا يا حاج دهشان لا تحتاج إلى علم.

وقال الحاج دهشان: ولكن نازلي أخذت الابتدائية وترطن وكأنها بنت من بنات فرنسا.

وهنا سأل مراد: أكانت بمدرسة الراهبات بالزقازيق؟

وقال الحاج دهشان: طبعا.

وقال مراد: ربنا يستر.

وقال دهشان: مالك؟

وقال مراد: أصل أنا في مسألة اللغات هذه يدك والأرض.

وضحك ثلاثتهم، وقال الحاج دياب: وما له! هي تعلمك.

وقال مراد: إن شاء الله.

وقال الحاج دياب: امدد يدك يا حاج دهشان.

وقال الحاج دهشان: على بركة الله.

ولكن مراد سأل في شبه خجل ليس طبعا فيه: أسألتها يا عم الحاج. ربما تكون غير راضية عني.

ولولا ابتسامة المائدة ما سأل مراد هذا السؤال.

وقال الحاج دهشان: أوكنت أقول على بركة الله إن لم أكن سألتها؟ إنها بنتي الوحيدة، وغدا تعرف إلى أي مدى يحب الآباء أبناءهم، فهذا شيء لا يعرفه الأبناء إلا حين يصبحون آباء.

وأنهى الحاج دياب الحديث: امدد يدك يا حاج دهشان. - على بركة الله إن شاء الله.

ومد يده وقرأ ثلاثتهم الفاتحة.

5

تم الزواج، وانتقلت نازلي إلى دار الحاج دياب ريثما يتم المنزل الذي رسمه مهندس حسن الذوق ليقيم فيه مراد وزوجه، وكانت الحاجة بدوية أم مراد سيدة رضية الخلق، وقد فرحت بزواج ابنها الأوحد فرحا لا يدانيه فرح، ورحبت بنازلي غاية الترحاب، وخصصت للعروسين جناحا في الدور الأعلى من المنزل، وأصرت قبل الزواج أن يلحق بالجناح حمام خاص بالعروسين، ولم يجد المهندس الذي رسم بيت مراد مشقة أن يقلب غرفة مجاورة للجناح إلى حمام للعروسين.

ومع ذلك فإن الحاج لم ينجح في جعل مراد وزوجته مستقلين عن البيت الكبير، أو السراية كما يسمي أهل الميمونة بيت العمدة. وربما كان اتساعه وأنه مبني بالطوب الأحمر سببا في هذا اللقب الذي أضفاه أهل البلدة على منزلة العمدة.

كان مأكل العروسين وشربهما وسائر ما يشغل أهل البيت متوحدا لا انفصال فيه بين العروسين والحاجة بدوية أو الحاج دياب.

وأصرت نازلي أن تقوم هي نفسها بعمل القهوة لحميها وحماتها كلما طاب لهما أن يتناولا القهوة. وكانت نازلي صناعا في شئون المطبخ، فكثيرا ما كانت تتحف الأسرة بطعام تختاره هي لهم وتتقن صنعه.

وهكذا ازداد حب بدوية لنازلي وبخاصة أنها وجدت نازلي لا تحاول أن تبدو وكأنها ست البيت. بل كانت ترجع في صغير الأمور قبل كبيرها إلى نينا بدوية كما كانت تدعوها.

وما هو إلا شهر وبعض شهر حتى انطلقت الزغاريد في بيت العمدة إعلانا عن الحمل الذي ظهرت بوادره على نازلي، والذي أكده الطبيب المختص في البندر.

كان طبيعيا أن يشمل الفرح الأسرة جميعا، ولم ينس الحاج دياب أو الحاجة بدوية منذ عرفا هذا النبأ العظيم أن يدعوا بعد كل صلاة أن تقوم نازلي بالسلامة وأن تهب لهما غلاما.

وتمر الأيام والشهور ويأتي الغلام، ويصبح اسمه دياب مراد دياب طلبة.

ولا تمر على ولادة الطفل أيام حتى يصبح بيت العروسين الجديد مستعدا لاستقبال الأسرة الجديدة.

ربما كان فرح الحاج دياب أعظم من الجميع، فقد ضمن لاسمه البقاء من بعده وبعد ابنه. فالجد يلد حفيده مرتين كما يقول أمير الشعراء.

وفي ذكاء شديد وفطرة مواتية ينتهز مراد الفرصة من سعادة أبيه الغامرة ويقول له: ما رأيك يا ابا في الانتخابات الجائية؟ - أي انتخابات؟ هل هناك انتخابات؟ - لا بد أن تأتي انتخابات. - طبعا ولكن متى؟ - على الأقل حين تنتهي الدورة. - يا من يعيش! - ربنا يطيل عمرك الأمر ليس بعيدا سنة والأخرى ويبدأ الاستعداد للبرلمان الجديد. - ولد يا مراد. - نعم يا ابا. - قل ما تريد ولا تلف على أبيك؟ - أنا لا ألف ولا أدور، ألم تنضم للوفد وتصبح عضوا فيه؟ - انضممت وأصبحت عضوا فيه. - أولم تصبح صديقا لفكري باشا راشد؟ - افرض. - أنا لا أفرض أنا أعرف مكانك عنده وصلتي أنا بابنه نديم، والباشا يستقبلني بكل ترحاب كلما زرتهم. - هل عرف أنك أصبحت أبا؟ - لا أظن ولكنك تذكر أننا دعوناه إلى الفرح وجاء ومعه ابنه نديم وسجادة غالية الثمن. - حصل. - آبا. - هيه. - لماذا لا ترشح نفسك في الانتخابات الجائية؟

وبهت الحاج دياب لحظات ثم أفاق في بطء شديد ليجد نفسه قائلا لابنه: أجننت؟!

وابتسم مراد أنه أثار انبهار أبيه: أترى أنني جننت؟ - والعمودية؟! - أي عمودية يا ابا؟ أنا أكلمك لتكون عضو مجلس نواب تقول لي عمودية «أي عمودية» يا أباه؟! - أفوتها؟! - وهي أين ستروح! إنها باقية في العائلة. - أنت تريد أن تصبح عمدة بسرعة. - أنا؟ لا يمكن، أولا أنا لم أبلغ السن، ومسألة العمودية بعيدة عن ذهني تماما ولا أفكر فيها. - كيف؟! - يا ابا أريد أن تكون عضو نواب، والعمودية لها حديث آخر. - فاجأتني يا ولد يا مراد. - وفيم المفاجأة؟ - لم أكن أفكر في هذا عمري كله. - غلطان.

وصمت الحاج دياب وشرد ذهنه وأمعن في التفكير، ثم ما لبثت ابتسامة متفاخرة أن علت شفتيه: والله يا ولد ربما كنت على حق يمكن أنا غلطان فعلا ولماذا لا؟

وصاح مراد: يعيش حضرة النائب. - هس لا يسمعنا أحد. - لك حق، اسمع إذن يا ابا. - هيه. - لعضوية النواب ترتيبات مهمة. - فعلا، أتعرفها؟ - يا ابا أنا ليس لي أمل في حياتي منذ أدركت الحياة إلا أن أراك نائبا.

وهكذا راوغ مراد أباه عن دخلية نفسه وعن الأمل الذي طالما أخفاه لقد كان يريد أن يكون هو نائبا، وليس يعنيه أن يكون أبوه أو لا يكون، ولقد دبر فيما دبر أنه ما دامت سنه لا تسعفه لنيل هذا المنصب فلماذا لا يسبقه فيه أبوه.

ويخلف هو أباه وتكون الطريق قد مهدت، ويكون قد لف الدائرة وعرف من لم يكن يعرف، وعرفه من لم يكن سمع عنه.

وما كان اختياره نازلي فيمن عرضه عليه مدني إلا لأن أباها عمدة لأكبر بلد في الدايرة إلى جانب ثرائه، وهكذا وجد في نازلي كل الذي يحقق ما تهفو له نفسه، ويدني له من الأمل المتشبث به تشبث الإنسان بالحياة.

قال أبوه: ومن أين نبدأ؟ - وهل المسألة عايزة تفكير؟ - كيف؟ - نبدأ بالباشا. - أي والله صحيح نبدأ بالباشا.

6

قال مراد للباشا: أتكلم أنا أم يتكلم أبي؟ - وهل هذا السؤال ما دام أبوك موجودا فالكلام يكون له. - طبعا الأمر كما تقول معاليك، ولكن أريد أنا أن أتكلم.

وضحك الباشا وقال: والله كبرت يا مراد وأصبحت تلف وتدور على سياسي محترف. - أولا معاليك لم تهنئني. - ألم أحضر فرحك؟ - وهدية معاليك تتصدر المديرية كلها لا بيتنا فقط. - إذن فيم أهنئك؟ - بالحاج دياب الصغير.

وأراد الباشا أن يبدو مسرورا كل السرور وهو يقول: كذا! أنت لحقت! ألف مبروك، وقبل أن نتكلم افتح يدك. وأخرج محفظة والتقط منها ورقة كبيرة واستطرد قائلا: نقطة المولود يا أبا دياب.

وأعطاه ورقة بمائة جنيه وقال الحاج دياب: كثير يا معالي الباشا هذا كثير!

وقال مراد: لا يا ابا أنا عند الباشا مثل نديم بك، وأنا أعرف ذلك، ربنا يطيل عمرك يا معالي الباشا ويكرمك.

وقال الباشا: المهم، ماذا كنت تريد أن تقول؟ - مرة واحدة كده نريد أن نرشح أبي لمجلس النواب عن دايرتنا ... - العضو الآن عمر المفتي. ونحن نرشح في هذه الدائرة ...

وقاطعه مراد: كامل الزيني.

وقال الباشا: عمر المفتي قوي.

وقال مراد: ليس هو القوي، ولكن كامل الزيني هو الضعيف ولا يخدم الدائرة مطلقا، إذا كان يعمل محاميا، ويسلخ أهل الدايرة في الأتعاب إلى جانب أنه ...

وقاطعه الباشا قائلا: بخيل، أعرف ذلك وبيته مقفل دائما.

وصاح مراد: يعيش معالي الباشا.

وقال الباشا في تؤدة وفي تفكير: والله يا ولد يا مراد، المسألة فيها كلام.

وقال مراد: قل معاليك نعم، وهي لا يصبح فيها كلام.

وقال الباشا: المسألة ليست بهذه السهولة، كامل عضو قديم والأمر ليس بيدي وحدي ، بل لا بد من الرجوع إلى الرئيس والسكرتير العام وأعضاء مجلس الإدارة في الحزب، الأمر ليس سهلا كما تتصور، وبخاصة أن لكامل أصدقاء كثيرين في الحزب.

وقال مراد: وماذا يهم أن يكون العضو قديما أو جديدا إذا كان لا ينجح؟ - المسألة ليست كما تتصور. - البركة فيك. - ليست حكاية بركة. - أنت تذلل كل العقبات. - بل أنت يا حاج دياب الذي يمكنك أن تساعدني.

وكان الحاج دياب تائها طوال هذا الحوار وكأنما أفاق فجأة بنداء الباشا له صائحا: أفندم. - ألست معنا؟ - بل معك تماما يا معالي الباشا، أنتظر أمرك.

ونظر الباشا إلى الحاج دياب وابنه، وصمت لحظات طويلة ثم قال: ألم تكن عضوا في حزب قبل ذلك يا حاج دياب؟ - أول مرة يا معالي الباشا. النائب الذي أعرفه عمر بك المفتي رجل طيب، وتعودنا أن نعطيه أصواتنا، فالمعرفة بيننا معرفة جدود. وأنا لا أشتغل بالسياسة إلا وقت الانتخابات.

وأعاد إليهما الباشا نظرة ثاقبة ثم قال لمراد: قل لي يا فصيح أنت يا من أسكت أباك وتكلمت. ألم تأت عندنا في الحزب ولو مرة. - كيف؟ إنني ذهبت لمعاليك هناك أكثر من مرة، سواء وحدي أو مع نديم ...

وصمت لحظة ثم قال مستدركا: مع نديم بك.

وقال الباشا: أليس هذا الحزب يحتاج إلى ميزانية ضخمة؟

وهنا صاح الحاج دياب: أفندم. - أم ماذا تظن؟ - أنا يا باشا تحت أمرك، ولكن ميزانية لماذا؟ - يا إلهي! لماذا، ألا تعرف يا حاج دياب؟ أبسط شيء الإنفاق على الانتخابات. وإصدار الصحف، وهذا وحده يحتاج إلى مئات الألوف. - أي والله معقول. إنما قل لي يا معالي الباشا، أينفق الحزب على الانتخابات؟ - طبعا، مثلا لنا أعضاء أقوياء في دوائرهم؟ ولكن ضعفاء في حالتهم المالية.

وهنا قال مراد: ما داموا ليسوا قادرين على الانتخابات فليتركوها للقادرين.

وضحك الباشا: على مهلك يا أستاذ، الموضوع ليس بهذه البساطة، فهؤلاء إن لم يساعدهم الحزب تركوه وأصبحوا ضده، وليس بعيدا أن يرشحوا أنفسهم بأموال حزب آخر، إلى جانب أنهم سيؤثرون في دوائر أخرى بشخصياتهم.

وقال مراد وكأنما رد إلى عقله: والله معقول يا معالي الباشا. - إلى جانب مصاريف أخرى حزبية سرية لا يعرفها إلا رئيس الحزب والسكرتير العام، وهذه طبعا لا تذكر.

وهنا قال مراد مذهولا: مثل ماذا يا معالي الباشا؟ - مثل الأموال التي نعطيها لمن ينقل لنا أخبار الأحزاب، ولاحظ أنني أفشيت لك سرا من أسرار الحزب.

وصاح مراد: يا خبر أسود. - لا أسود ولا أبيض هذه سياسة، والأحزاب الأخرى تعمل مثلنا. وهناك المصاريف الإدارية في الحزب مثلا.

وهنا أراد دياب أن يعرف رأسه من رجليه وسأل الباشا في حسم: كامل الزيني يدفع للحزب كم جنيها يا معالي الباشا؟ - المبالغ لا أعرفها، ولكنه يدفع مع الاشتراك مبلغا محترما فيما أعتقد. - أنا يا باشا أدفع ضعفي ما يدفع.

وتجلت الفرحة على وجه مراد، وقال في شجاعة: نحن سننجح يا باشا، وكامل لم ينجح مرة واحدة في حياته، ما رأي معاليك؟ - توكلنا على الله، على فكرة أنتما مدعوان لفرح نديم يوم الخميس القادم.

وصاح مراد: وهو ما زال في الكلية. - ابنة عمه وواضح أنهما متفقان، فقلت بدلا من أن تشغله عن المذاكرة يتزوجها.

وقال مراد: على بركة الله يا معالي الباشا ولو أنني أرجو أن تبلغ نديم أني عاتب عليه. - لماذا؟ - أنا أقرب صديق له وأعرف الخبر من معاليك. - إنه لم يبح لأحد مطلقا. لا بد أن تحضر الفرح.

ولم ينس الحاج دهشان أن يرسل إلى الباشا عشرة خراف نقوطا لتذبح في الفرح.

7

حين خلا مراد إلى أبيه قال الحاج دياب: استرحت؟ - كيف؟ - ألم يعد الباشا؟ - أتظن أن الحكاية انتهت هكذا؟ - على الأقل مؤقتا إلى أن تأتي الانتخابات. - يا ابا الحكاية أكبر بكثير مما تظن. - يعني يا ولد أنت ناوي تعلمني الانتخابات، وأنا فيها منذ بدعوا الانتخابات في البلد؟! - أنت فيها بأن تعطي صوتك، وهذه أول مرة ترشح فيها. - أتريدني أن أعلن ترشيحي من الآن وأصبح مضحكة. - لا يا ابا، لا إعلان ولا يحزنون. - فماذا تريدنا أن نعمل؟ - نعمل. - ماذا نعمل؟! - أصحابك في البلاد تزورهم. - هكذا من غير مناسبة. - زيارات ودية، أما المناسبات سواء كانت مآتم أم أفراحا فلا تفوتنك منها واحدة. وتدفع في الأفراح نقطة كبيرة، وإذا كان صاحب المأتم رقيق الحال. نغمزه بكم جنيه ليواجه أعباء الوفاة. - من الآن يا ابني؟ - بل من الأمس يا ابا.

وأعجبت الإجابة الحاج دياب فراح يقهقه ملء فمه، ثم قطع الضحكة وهو يقول: ولكن الأمر سيكلفنا كثيرا يا ولد. - ليس هناك مال يساوي أن تصبح عضو مجلس نواب.

ولم يستطع أن يكتم آماله فإذا هو يقول في تسرع الشباب: والذي سننفقه اليوم جنيها سنجمعه غدا عشرة.

ووجم الحاج دياب وهو يسأل في شبه استنكار: كيف؟

وتنبه مراد إلى تعجله وأراد أن يصلح ما أوشك أن يفسد. - مصالحنا في المديرية بل في الدولة كلها، هل يستطيع أحد أن يقف ضدنا، وغير هذا كثير مما ستعرفه حين تصبح عضو نواب يا ابا.

وأطرق الحاج دياب قليلا: طيب والعمودية؟ - مالها؟ - من يتولاها؟ أنت لم تصل إلى السن القانونية. - عضو النواب يعين من يريد. - وتخرج من دار طلبة؟ - بل تبقى. - هل تقترح أحدا؟ - عندي ألف، فقط توكل أنت على الله. - توكلنا على الله. •••

وبدأ الحاج دياب يعمل بنصائح مراد الذي كان يعد للأمر منذ زمن بعيد، وقد بدأ حملته بإقامة دعوة غداء واسعة كل السعة بمناسبة ميلاد دياب الصغير، وانتقال مراد وأسرته إلى بيتهم الجديد.

ولم يقصر مراد ودياب دعوتهما على العمد، بل دعوا كل ذي مكانة أو أكرومة في بلده.

ولم يخل الأمر من إلقاء الشيخ سليم الديب المدرس الإلزامي بالميمونة قصيدة شعر مهما تكن هشة بعيدة عن الرصانة، إلا أنها أدت الغرض منها، واستقبلها شهود الحفل بالتصفيق والتهليل.

وتبارى آخرون في إلقاء خطب المديح والتمنيات الطيبات للمولود الكريم، والتنبؤ له بأن يكون عمدة بعد مراد.

ولم يفت الأذكياء الماكرين من العمد وأعيان البلاد والتجار أن هذه الدعوة تخفي وراءها ما تخفي، وإن لم يستطع ذكاؤهم أن يصل واثقا إلى ما ينتويه العمدة، وإن كان بعضهم لم يستبعد أن يكون عاقدا العزم على ترشيح نفسه في الانتخابات. ومما جعل هذا الأمر معقولا إلى حد ما في ذهن من قام بذهنه أنه لم يدع عمر بك المفتي مع أنه تعود فيما قبل أن يكثر من دعوته.

وهمس خميس الملواني في أذن الحاج دهشان: نسيبك ناوي على ماذا؟ - لم يفاتحني في شيء. - بل فاتحك. - كيف؟ - لقد فاتح الجميع بهذه العزومة الطويلة العريضة التي لا أشك أنها ستتلوها عزائم أخرى. - بأي مناسبة؟ - ومن غير مناسبة وشرفك؟ - دع شرفي في حاله. - وشرفي أنا ولا تزعل. -

لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون . - صدق الله العظيم. لو أنني أعتقد أن هذا النبأ سيتأخر بعض الشيء؟ - ماذا تقصد؟ - ما تعلم. - أتظن ذلك يا خميس؟ - إن غدا لناظره لقريب. - ولكن غدا هذا بعيد بعض الشيء. - إنه يعمل له من بعيد. - آه. ربنا يوفقه. - ويوفقنا. - ماذا تنوي. - وقت الله يعين الله. - على رأيك.

8

ما أسرع السنوات وأبطأ الأيام والساعات!

استطاع دياب ومراد أن يجمعا الناس حولهما بشتى طرق ومختلف سبل لا يقصران في مجاملة أو مال أو تهنئة أو مواساة. ويكاد لا يمر بهما أسبوع أو أسبوعان دون أن يولما الولائم.

حتى إذ حل موعد الانتخابات كان الحاج دياب قد أخذ أهبته كاملة للترشيح.

وصدق فكري راشد وعده له بعد أن قدم دياب للحزب ضعفي ما كان يدفع كامل الزيني.

ورشح حزب الوفد الحاج دياب طلبة ليكون نائبه في هذه الدائرة، وكان للوفد في هذه الانتخابات كفة راجحة غاية الرجحان؛ لأن الشعب المصري لا يحب أن يبقى حزب أو حزبان فترة طويلة في الحكم أقصى فيها حزب الوفد عن الوزارة.

ويعلم الله أن الوفد قد كسب من ابتعاده عن الحكم أضعاف ما كسب خصومه من بقائهم في الحكم.

فالوفد لم يكمل دورة واحدة في حياته، فما أن يتولى الوزارة ويمضي به بعض الوقت، ويبدأ الشعب في كراهيته كما يكره المحكوم حاكمه الظالم حتى يقيله الملك، فتنقلب كراهية الشعب له إقبالا عليه وإعجابا به، لا حبا فيه وإنما كراهية لفكرة الإقالة ذاتها التي أصرت إنجلترا المحتلة أن توضع في الدستور اطمئنانا منهم أن أحدا من الملوك لن يجرؤ على معارضتهم إذا هم أرادوا أن يغيروا الوزارة ويأتوا برئيس جديد، كما أتوا بمصطفى النحاس في حادث 4 فبراير الشهير الجهير الحقير.

نجح الحاج دياب طلبة في الانتخابات وجلس تحت قبة البرلمان، ولا ينسى أحد كم كان فرحا سعيدا حتى لقد لبس وشاح النواب، وذهب إلى مقهى لونابارك في القاهرة منذ باكر الصباح قبل موعد الافتتاح ليعلم كل من يمر به أنه عضو بمجلس النواب.

كان عليه أن يختار بين العمودية والنيابة في ثلاثة أشهر. وطبعا هو لم ينفق هذا الإنفاق من ماله وجهده ليبقى آخر الأمر بالعمودية.

ومراد لم يبلغ السن القانونية. - ماذا تفعل في العمودية يا مراد؟ أنت بعد لم تبلغ السن. - وحتى إذا بلغتها إنما مسألة العمودية هذه لا أفكر فيها على الإطلاق. - هل جننت؟ - لا تغضب أنا لم أبلغ السن القانونية، وحين أبلغها يفرجها الذي لا تغفل له عين. - ليكن، هل فكرت فيمن يكون عمدة من دار طلبة؟ - هل سعادة النائب فكر؟ - ربما ولكني أحب أن أسمع منك. - ما رأيك في مدني طلبة. - مدني ابن الحاج إسماعيل. - شاب ذكي وفاهم وعلى قدر من التعليم المطلوب وبلغ السن. - ألا تخشى أن يكون كثيرون من كبار العائلة طامعين فيها؟ - هم يحبونه جميعا ولن يرضى أحد منهم أن يرد لك رأيا وأنت كبيرهم وزعيمهم، وشرفتهم بما لم يشرفهم به أحد من عائلتهم في حياة العائلة من جدهم الكبير إلى يومنا هذا. - ولكني لا أريد أن أغضبهم. - وهل جئنا بعمدة من خارج العائلة؟ - ولكني مع ذلك لا أحب أن أغضبهم. - أقول لك أنا سأمر على كبار العائلة وأعرض على كل منهم الأمر، على أن الشباب يجب أن يأخذ حظه وأن العمودية هم وإنفاق، ومسألة الإنفاق هذه مهمة جدا عندهم جميعا فليس في العائلة - والحمد لله - كريم إلا أنت، وسأقول إن دوار العمدة لا بد أن يظل مفتوحا ليلا ونهارا ليستقبل ضيوف البلدة وموظفي المديرية و... و ... اترك الشيوخ علي أنا. - اتفقنا، إذا قبلوا نتوكل على الله. - سيقبلون وبخاصة مدني يعتبر من أغنياء الأسرة، فقد ورث كما تعلم أباه وأمه التي كانت غنية هي الأخرى. - على بركة الله. •••

وصدق حدس مراد ووجد أغلب الكبار في العائلة زاهدين في العمودية. فقد كانوا تعودوا على نوع خاص من المعيشة يصعب عليهم أن يغيروه في سنهم المتقدمة هذه، ومن كان طامعا في العمودية أقنعه مراد بمنطقه هذا الذي قدمه بين يدي أبيه. •••

قصد مراد إلى بيت مدني وكان قد تحرى أن يكون ترشيحه له عند أبيه سرا مكتوما عنه، كما حرص ألا يذكر اسمه لواحد من شيوخ الأسرة الذين كلمهم، وإنما كان يطلق حديثه مع محدثه، وكأنه لا يجد في الأسرة صالحا للعمودية إلا هو، وينتظر أثر هذا منه ويميل معه في الحديث، وينفره من العمودية في لهجة الحريص على ماله وصحته وينبئه أنه إذا رفض العمودية: سنتعب كثيرا حتى نجد العمدة المناسب. ولكن وما له نتعب نحن وترتاح أنت.

وهكذا لم يظهر اسم مدني في الأفق على الإطلاق، ومن يتصور أن يتولى العمودية شاب أكمل السن منذ شهور ولا يتولاها الكبار المتصدرون لمجالس القرية واجتماعاتها.

قال مراد لمدني: كم تدفع لتصبح عمدة؟

وقفز مدني عن كرسيه: ماذا تقول؟ - ما سمعت. - وهل يعقل هذا؟ - كم تدفع؟ - كم تريد؟ - ألف جنيه. - ألف جنيه! - ألف جنيه. - ادفع. - هات. - الآن. - في بيتك أكثر من هذا. - من سيأخذها؟ - أنا. - أنت؟! حسبت أن الحاج دياب هو ... - الحاج دياب لا يعرف عن الألف جنيه شيئا. - يا أخي خف بعض الشيء، إنني سرك ونجيك وحبيبك. - ولهذا لم أقل ثلاثة آلاف. - لك حق. - هات. - الفلوس في الداخل، لحظات وتكون في يدك. •••

وأصبح مدني طلبة عمدة للميمونة.

9

كانت هذه الوزارة هي الأخيرة لحزب الوفد، وهي التي ألغى فيها النحاس باشا المعاهدة، وكان ساسة مصر جميعا يعلمون أن إلغاءها خراب مؤكد لمصر، ولكنهم مع ذلك لم يستطيعوا أن يعالنوا برأيهم هذا، فإلغاء المعاهدة في ظاهره عمل وطني لا بد أن تؤيده الأحزاب الأخرى، بل لقد أيده أيضا الساسة الكبار البعيدون عن الأحزاب، ولكنهم جميعا، وبلا استثناء، كانوا واثقين أنه سيؤدي بمصر إلى أوخم العواقب.

كانت مقاومة المصريين للإنجليز على أشدها، حتى لقد فجر الإنجليز فجورا لا مثيل له في تاريخهم بمصر إلا في حادثة دنشواي، وقد تمثل أبشع ما تمثل في حصارهم لمركز شرطة الإسماعيلية الأمر الذي اضطر وزير الداخلية فؤاد سراج الدين باشا أن يأمر بأن يقاوم المصريون الذين كانوا من الوطنية في أعلى معانيها، وأجلى صورها حين نفذوا الأمر وجادوا بأرواحهم في سبيل مصر.

كان نديم قد حصل على شهادة الليسانس، ورغب عن الوظيفة الحكومية التي كانت يسيرة بالنسبة له غاية اليسر، فعمل محاميا في مكتب واحد من كبار المحامين هو منير فراج، وكان من زملائه في المكتب عبد الوهاب فتحي وأمجد شرف الدين، وكان كلاهما يعمل في حركة المقاومة بكل جد وجهد. وكانا على صلة بالضباط الذين كانوا يطلقون على أنفسهم الضباط الأحرار، وكان أقرب هؤلاء الضباط إليهما سعيد سلطان وكان برتبة يوزباشي.

وقد انضم نديم بحماسة شديدة إلى زميله وتعرف باليوزباشي سعيد، الذي فرح به كابن واحد من الوزراء في الحزب الحاكم.

وكان المحامون الثلاثة بحكم صلتهم بالموكلين في المكتب يستطيعون أن يتعرفوا مواطن السلاح، وأخبرهم نديم أنه أيضا يعرف كيف يخفي هذا السلاح.

وفي يوم من الأيام التي تمر شأنها شأن سائر الأيام وجد مراد نفسه يستقبل نديم في بيته الخاص، وتعانق الصديقان في شرفة البيت، والدنيا لا تكاد تسع مراد من الفرح، وبادر نديم سائلا: أين سيارتك؟ - أحببت أن أجيء بالقطار. - لماذا؟ - ستعرف. - وهو كذلك. - أولا أريد أن أرى دياب الصغير. - والكبير أيضا وحياتك. - طبعا ولكن أريد أن نكون وحدنا قبل أن نذهب إلى حضرة النائب. - أمرك.

وحين خلا بهما المكان قال نديم وهو يحتسي القهوة: أنا أعمل في المقاومة.

وقفز مراد عن كرسيه قائلا: يا نهار أسود من الحبر الكوبيا.

وقال له نديم في هدوء ورباطة جأش: اقعد، اقعد، إذا كان هذا رد فعلك لأنني قلت لك إنني أعمل بالمقاومة، فماذا أنت صانع إذا أكملت ما جئت لك بشأنه؟

وقال مراد وهو يجلس شبه تائه: من أجل هذا جئت؟ - هذا خبر لا يحتاج إلى مجيء، لقد جئت لأنك ستعمل معي.

وهب مراد واقفا: أنا؟ وماذا أفعل في المقاومة؟ أخاف من خيالي. - اقعد يا أخي، وهل ستذهب إلى الثكنات الإنجليزية؟

والتقط مراد بعض أنفاسه وسأل وهو يلهث: إذن ماذا سأفعل؟ - اقعد. - قعدت. - الأسبوع القادم سآتي إليك ومعي واحد من الضباط الأحرار. - هل سمعت عنهم؟ - لا. - إنهم جماعة تكونت في حرب فلسطين، ويريدون أن يغيروا الأمور في مصر، وهم الآن مشغولون بمعاونة المقاومة والعمل مع الفدائيين، منهم من يذهب إلى الثكنات متخفيا، ومنهم من يعد لهم السلاح ويرسله إلى العاملين بالميدان. - وصاحبك هذا من أي الفريقين؟ - يعمل على الناحيتين. - وأنا ماذا سيكون عملي؟ - سنخفي عندك السلاح.

وصمت مراد، واحترم نديم صمته، إذا أخفيت السلاح أصبحت واحدا منهم، وحين يأتي الوقت يرشحني الوفد وأصبح من الأبطال ولو حدث - ولو أن هذا بعيد - واستطاع هؤلاء الضباط أن يغيروا الأوضاع فسيكون لهم شأن أي شأن، ولا شك أن صاحب نديم هذا سيصبح في المقدمة، ومسألة إخفاء السلاح ليست صعبة علي. فأنا هنا أعرف مخابئ كثيرة، بل إن بيتي نفسه لن يفكر فيه أحد، ما المانع؟ ما المانع؟ كله فائدة، لا خطر هناك، وأنا سأظهر بمظهر الأبطال. - نديم؟ - نعم. - أنا نفسي ملكك فما بال بيتي؟ أنا تحت أمرك.

وقام نديم، فقام مراد، وتعانق الصديقان. - متى تجيء أنت وصاحبك؟ - سنطب عليك. - أهلا في كل وقت ما اسم صاحبك؟ - ستعرف حين يجيء. - أسرار. - ربما. - أمرك. •••

لم تمض أيام حتى كان نديم وسعيد عند مراد. ولاحظ مراد أن سعيد ارتاح له، كما اطمأن هو إليه، وبعد أن تبادلا حديثا عاما فاجأ سعيد مراد: أين ستخبئ السلاح؟

ولم يفاجأ مراد بالسؤال، وإن كان فوجئ من توقيت إلقائه، فقد جاء على غير انتظار بعيدا كل البعد عما كانوا يأخذون فيه من حديث، ألجمته المفاجأة لحظة ثم قال: هنا في بيتي. - فقط. - وفي أماكن أخرى كثيرة. - معناها أن يعرف أصحاب هذه الأماكن ما نحاول أن تخفيه. - اطمئن هذه مسئوليتي. - لا هذه مسئوليتي أنا. - ما رأيك في بيت العمدة ودواره؟ - وسيعلم. - إنه كشخصي وكل ما أرجوك فيه أن تطمئن تماما وتثق في ثقة تامة. - لو لم أكن وثقت فيك من النظرة الأولى لما فتحت الموضوع أمامك. - أكثر الله من أمثالك يا سعيد بك. - بك هذه بعيدة عن قاموسنا كل البعد، سعيد سلطان، وتقول لي سعيد كما أنني لن أقول لك إلا يا مراد دون بك ولا يحزنون. - ويا ولد يا مراد إذا أحببت.

وضحك ثلاثتهم، وقال سعيد لمراد: ستكون بيننا رحلة طويلة يا ولد يا مراد. - أحس بهذا. - واضح أنك رجل يعتمد عليك.

وقال نديم: وهل كنت عرفتك به إذا لم يكن كذلك؟

وقال سعيد: أهدافك مرسومة في ذهنك، وستصل إليها.

وقال مراد: المهم أن أعرف الطريق إليها.

وقال سعيد: ربما تكون قد وضعت رجلك عليه.

وقال مراد: البركة فيك أنت ونديم.

وقال سعيد: توكل على الله.

وقال نديم: أنا أعرفه كما أعرف نفسي هو مستعد أن يتوكل على الله أو على الشيطان. فقط المهم أن يصل.

وصاح مراد مذعورا، وكأنه يرى نديم يقرأ خبيء نفسه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، حرام عليك يا شيخ.

وقال نديم: ولا يهمك، فلنتوكل على الله.

وقال مراد: هكذا يكون الكلام، توكلنا على الله.

وقال سعيد: توكلنا على الله.

10

تلاحقت الأحداث بصورة لم تشهد مصر لها مثيلا، وحدث حريق القاهرة الذي لم يستطع أحد أن يحدد الفاعل الأصلي فيه.

واستقالت وزارة النحاس باشا وتدهور الحكم في مصر تدهورا فظيعا، ورفض حزب الأحرار الدستوريين والهيئة السعدية تأليف الوزارة، وكانت حجتهم قوية، فقد كتب رجال الحزبين بالاشتراك مع كبار الساسة من المستقلين عريضة اشتهرت بعريضة الثلاثين؛ لأن الموقعين عليها كانوا ثلاثين عملاقا من عمالقة مصر. نددوا في العريضة بتصرفات الملك الشخصية والعامة تنديدا لم يكن له سابقة في تاريخ مصر، وطالبوه أن يقوم من تصرفاته الشخصية، ويبعد عن حاشيته ذا السمعة الساقطة، وحذروه إنه إذا لم يفعل فإن المستقبل لمصر وللجميع مظلم ومخيف.

وذعر الملك من العريضة، ولكنه كان يسعى إلى حتفه بظلفه، وظل على ما هو عليه من فساد وضلال وهوى لم يغير من نفسه شيئا، كما لم يغير من زبانيته أحدا، فكان طبيعيا أن يحدث ما توقعه زعماء مصر ورجالاتها.

فحين أزفت الآزفة وحاول الملك أن يستصرخ الحزبين الكبيرين اللذين كانا خارج الحكم، فقال الحزبان في إجماع رائع ما كان لنا أن نستجيب فما كنا لاهين حين كتبنا عريضة الثلاثين، وما يتصور أحد أن نستجيب لصرخته حتى ينفذ كل ما جاء بالعريضة.

وهكذا تعاقبت الوزارات المحايدة وهي نوع من الوزارات التي لا يكتب لها البقاء عادة، ولكنه في هذه المرة تجاوز الرقم القياسي في قلة الأيام التي كانت تبقى فيها الوزارة حاكمة حتى لقد رأى المصريون بهي الدين بركات باشا يكلف بتأليف الوزارة، وبدأ يؤلفها فعلا حتى حل عليه عميق المساء فنام على أن يكمل التأليف في غده.

نام وهو رئيس وزراء، وصحا ليجد الصحف تعلن أن حسين سري باشا ألف الوزارة، وحلف الوزراء اليمين، وسارت الحال على هذا المنوال حتى قامت الثورة. •••

ولم يكن عجيبا أن يستقبلها الشعب بما هو معروف في التاريخ من ترحاب صاخب طاغ، ومن فرح عريض جهير. •••

وما لبثت الثورة أن شنت هجومها الشرس على الأحزاب ورجالها، وقتلت الدستور أول ما قتلت مع أن بيانها الأول أعلن أنها جاءت لتحمي الدستور من العبث به ولتثبيت أركانه، فكان أول ما فعلت في سبيل تثبيت هذه الأركان أن تلغي الدستور، فكان شأنها شأن الطبيب الذي دخل البيت لينقذ رب الأسرة المريض فكان أول ما صنعه أن أطلق الرصاص على قلب المريض، وقتله في الحال متمثلا بالقول الشائع أن الموت إحدى الراحتين، وقد اختارت الثورة الموت للدستور حتى يرتاح تماما من الاعتداء عليه. •••

هيهات! فما قدمت إليك لأكون مؤرخا لما حدث في هذه الفترة وما خربت من بيوت ، وما هتكت من أعراض، وما استباحت من كرامات، وما سفحت من دماء، وما استلبت من أموال، فكل هذا أتركه للتاريخ، وقد حكم فعلا وكان منطوق الحكم على منصات القضاء المصري رفيع الشأن سامي المكان.

ولكن ما لنا وهذا، ولو أن حديث الأفاعي طويل المدى، ولكنني لا أسوق لك تلك الأحداث في هذه الرواية، فمكانها مجالات أخرى غير هذه الرواية بين يديك التي أخشى عليها أن يلهيني عنها غير ما رصدته لها.

فلنعد إلى البدء ونقف أثر أبطالنا ونتتبع طريقهم الخاص، وما حديثي عن الثورة إلا حتم من الحتم ففي ركام أحداثها مهدوا سبيلهم ولا بد لمن يروي ما ساروا فيه من سبيل أن يرسم ولو في كلمات قلائل معالم هذه السبيل.

فإليهم إذن عودتنا نقص خطاهم. ونتتبع سيرهم ومسراهم. فإنما هم الذين اجتذبوا عقلي ومشاعري أن أروي هذا الذي بين يديك ولك الحرية المطلقة أن تطلق عليها من الأسماء ما شئت. أما أنا فإنما أريد أن أكتب لك ما عهدت مني من روايات، فهي إذن رواية.

11

صادرت الثورة فيما صادرت أسرة محمد علي بأموالها، وعلى رأسها طبعا الملك وزوجته وأولاده، وأعلنت أنها كونت لجنة لتحصر أموال الملك والأسرة العلوية وغيرها من الأموال المصادرة جميعا، وكان سعيد واحدا في هذه اللجنة. وبدأت اللجنة أعمالها، وكان من بين أعضاء اللجنة واحد من رجال المال في الحكومة.

في الجلسة الأولى لاجتماع اللجنة قال العضو المختص، وقد بدءوا بإحصاء أموال فاروق وزوجه، وقال المختص لسكرتير اللجنة: اكتب عندك يا سيدي عدد واحد قرط، ثانيا ...

وإذا بالمندوب المالي الذي انتدب مراقبا على طريقة الإحصاء يتولاه الذعر ويصيح: انتظر كيف ننتقل إلى ثانيا؟ - وماذا تريد؟ - هذا القرط الذي بدأت به الإحصاء ما وصفه؟ إن هناك قرطا لا يساوي أكثر من خمسة قروش، وآخر يفوق ثمنه المليون جنيه! لا بد من ذكر وصف القرط وما فيه من أحجار كريمة وأحجامها والتقدير المالي له.

فإذا عضو اللجنة يقول: لا، لا، الأوامر عندنا كذا.

ولم يكن السعار من الثورة قد بدأ واضحا بعد مما جعل المندوب المالي يصيح: وأنا مستقيل من اللجنة. - أنت حر. - سلام عليكم. - وعليكم السلام. •••

وحينئذ بدأت اللجنة أعمالها فعلا، ووجد سعيد نفسه في موضع تردد معه بعض الشيء، إذا استقلت فالله يعلم مصيري، وإذا اعترضت فمصيري المؤكد مصادرة حياتي جميعا، ليس أمامي إلا أن أفعل مثل ما يفعلون ما دامت الأوامر هكذا. فمفهوم طبعا ما يراد منا، ومفهوم طبعا أننا سننال حظنا من الغنائم.

لا سبيل إلى التردد. أنا واحد منهم وسأظل واحدا منهم. •••

النائب دياب طلبة أعلن انتماءه للثورة أعظم ما يكون الانتماء، وقد استطاع أن يتصرف في أرضه وأمواله بحيث لم تنل منه الثورة سهما من أرضه، أو مليما من ماله. وقد كان شأنه في غمار الناس أهون من أن يكون تحت الحراسة، وقد رضي المسئولون عن الثورة انضمامه إليهم، واعتبروه جنديا من جنودها.

أما مراد فقد رأى في الثورة في أول عهدها كارثة تسحق آماله جميعا.

ولكن الأيام ما لبثت أن أتاحت لهذه الآمال أن تنتعش من موات. فقد كان المسئولون عن الثورة في المديرية من أصدقائه المقربين اللصقاء، فكان طريقه إليهم واسعا، وكانت الأبواب مفتحة أمامه على مصراعيها جميعا.

وكان أول ما صنع من الناحية السلبية أن يقطع صلاته جميعا بنديم.

ولم يكن هذا غريبا على نديم فما انتظر من صديقه الحميم غير هذا.

ولم يكن أثر الثورة على نديم فادحا كما كان بالنسبة لوزراء آخرين. فلم يكن أبوه ذا شأن خطير في الحزب، وإن يكن قد بلغ منصب الوزارة فما كان وزيرا ذا خطر يخشاه أعداؤه.

ولم يكن فكري باشا ذا مال يستحق أن توضع عليه الحراسة. فما كان وفير الغنى.

وما دام مقدور الرزق والخطر ففيم تلتفت إليه الثورة؟ فلتصرف انتقامها إلى الذين إن حاربتهم أصابت بهم أحزابهم وأشياعهم ومناصريهم.

أما نديم فقد ظل يعمل في مكتب المحاماة، وقطع تماما جهاده السياسي.

وقد استطاع نديم في فترة قصيرة أن يصبح المحامي الثاني للمحامي الكبير منير فراج، ومضى في طريق المحاماة صعدا. وقال له منير: يا نديم أعرف أنك تنوي أن تفتح مكتبا خاصا. - ليس الآن على أي حال يا سعادة البك. - لا تفعل هذا الآن ولا بعد الآن. - أمرك، ولكن لماذا؟ - أنا أرى مستقبلك في المحاماة عظيما، وأنا ليس لي أولاد، وسني أصبحت لا تحتمل جهد المحاماة. فأنا سأبيع لك المكتب لأنك الوحيد بين زملائك الذي أطمئن على قضايا موكلي بين يديه؟ - لكن يا سعادة البك ...

فقاطعه منير بك: لا تكمل أنا أعرف تماما حالتك المالية وحالة الباشا أيضا. سيكون البيع أقرب إلى الهدية منه إلى البيع. لولا خشيتي أن أثير عليك حسد زملائك لأهديته إليك. والله يعلم ما اخترتك إلا لأمانتك. ولحرصي على مصالح موكلي الذين بذلت عمري كله في اكتساب ثقتهم. - أنا لا أدري ماذا أقول، إلا أنني دائما سأظل ابنك في المحاماة، وفي الحياة جميعا.

وسواء بالنسبة للقضايا التي ستتركها في المكتب، أو القضايا التي قد يأتي بها موكلون جدد الذين لن يقصدوا إلا على الاسم الرفيع الذي يتمتع به المكتب بفضلك. فإنك أنت دائما ستظل أستاذي ومرجعي في كل هذه القضايا قديمها وحديثها. - هذا ما توقعته، لا تقل كلمة مما دار حولنا إلا لوالدك. فأنا لا أريد أحدا غيره يعلم ما انتويت. - هذا طبعا ما كنت أنوي عمله. - على بركة الله.

12

فوجئ مراد بتليفون منزله يستدعيه. - ألو من؟ - أنا سعيد سلطان يا مراد. - يا مرحب يا مرحب سعادة الباشا. - الباشاوية ألغيت. - لكي تأخذوها أنتم. وأين الباشاوات منكم يا سادة الدنيا كلها؟! - أنت لم تتغير. - أمر منك أن أتغير إلى أي شكل تريد. أنا من يدك ذي إلى يدك ذي. - أحب أن أراك. - أجيء الآن. - تعرف بيتي؟ - لم أصل إلى هذا الشرف. - في الحلمية، شارع نسيم باشا رقم 4 الدور الرابع. - بعد ساعة. - لا. أنا أنتظرك في الساعة السابعة اليوم. •••

بيت متهالك عجيب الشأن لا مساحة له عبارة عن واجهة بلا عمق إلا بمقدار حجرة واحدة. فالحجرات فيه متراصة متجاورة في نظام عجيب لم يشهد له مراد مثيلا. وعرف لماذا يخبره سعيد عن رقم الشقة لأن الدور على ضآلته شقة واحدة، وكانت المرة الأولى التي يشاهد فيها مراد عمارة بأكملها لا تزيد على واجهة فقط، وهي تدل دلالة واضحة عن الحالة المالية لسكان هذا البناء العجيب الذي لا يجرؤ أحد أن يسميه عمارة.

فتح الباب لمراد فتاة في سن الشباب الباكر تلبس جلبابا من الكستور الرخيص لا توحي لرائيها بشيء، فلا هي جميلة، ولا هي قبيحة، ولاهي طويلة فارعة، ولا هي قصيرة قزعة، ولا هي نحيفة ضامرة ولا سمينة ممتلئة. إنها كالشيء الذي لا معنى له، أو مثلها مثل الكلمة العابرة التي إن سقطت من الكلام لا يتغير معناه. وقادته إلى غرفة خبيثة الأثاث والرائحة معا واضح أنها لم تفتح منذ عهد بعيد. - أهلا وسهلا. - مراد طلبة. البك ينتظرني. - تفضل، أتشرب قهوة أم تفضل الشاي؟ - لا داعي للتعب. - هذا واجب لا بد منه. - إذن قهوة زيادة إذا سمحت. - حاضر، سعيد أخي يلبس وسيأتي حالا. •••

قال سعيد: اسمع، إن الحديث الذي سيجري بيننا إذا عرفه أحد ثالث ... - لا سمح الله. - لا، المسألة ليست مسألة كلام، إذا عرفت أنك نطقت بكلمة مما سأقوله لك سأقتلك؟ - عيب يا سعيد بك، ألا تثق في؟ - ما عيب إلا العيب، أنا لا أقصد أقتلك على سبيل التهديد والتخويف، لا، سأقتلك فعلا بالرصاص وأنت تعلم أن هذا ليس صعبا بالنسبة إلي. - يا خبر أسود، على كل حال إن كنت تشك في فعلا فلا داعي أن تقول لي شيئا. - لو كنت أشك ما طلبتك. - إذن فما هذا الكلام الذي تقوله؟ - لأخلص ذمتي من ذنبك، ليس عندي إلا القتل. - أمري إلى الله. - وأمام هذا التهديد هناك الوعد بالثراء بصورة لا تخطر لك على بال. - كيف؟ - لن أقول لك أكثر من أنني أعمل بلجنة الجرد. - وما معنى هذا؟ - معناه كثير جدا. - أفهم. - سأحصل على مجوهرات وتحف لا تقدر بمال. - معقول، وأثاث طبعا. - لا الأثاث والأشياء الكبرى لها جهات أخرى. - مفهوم. والمطلوب؟ - ألم تفهم؟ - فقط أستفسر. - هذه التحف والمجوهرات إذا بعتها أنا في مصر فستباع بأبخس الأثمان. هذا بجانب أنني لا أجرؤ أن أعرف نفسي للمشترين. - وماذا تريد مني؟ - تبيعها بالنيابة عني، ولك النسبة المئوية التي ترضيك في كل صفقة. - أين أبيعها؟ - في الخارج طبعا. - والخروج بها وكل ما يتعلق بالمسائل الأمنية وشرطة المطار والتفتيش؟ - كل هذا لا شأن لك به، ما رأيك؟ - وهل فيها رأي؟! - اتفقنا. - على بركة الله. - على بركة الله.

13

ما أسرع ما انضم مراد إلى هيئة التحرير، وما لبث سعيد أن جعل منه عضوا متميزا في شتى مناحي الحياة السياسية، فعرف الدهاليز والدروب.

وكان من الطبيعي أن يصبح موئل طلاب الجامعات، ليس في الميمونة وحدها كما كان شأنه أيام صلته بفكري باشا، وإنما اتسع مجال خدماته مدفوعة الأجر، فشمل المنطقة كلها.

وكان الحاج دياب فخورا كل الفخر بما بلغه ابنه من مكانة رفيعة، ولم يكن يعنيه في قليل أو كثير أن يتقاضى ابنه أجرا مقابل خدماته أو لا يتقاضى.

ولم يكن مراد كاذبا كل الكذب حين يقول لمن يرشونه إنه يضطر أن يقدم هذه الرشى لمن يملكون قضاء هذه الحوائج.

وكانت نازلي أشد الناس فرحا بالأهمية الباذخة التي يمرح في ساحتها مراد تياها فخورا. وكانت في نفس الوقت أشد الناس خوفا. لقد كان خليقا أن يكتفي بالصفقة التي عقدها مع سعيد ليصبح من أثرى أثرياء المديرية جميعا.

ولكن أي شيء يمنعه أن يتقاضى الرشاوى، ويزيد أمواله ويجعلها قناطير مقنطرة. فهو من غياب ضميره في سعادة نفسية ومالية لا يبلغها أي إنسان من الذين يخافون الله، أو أولئك الذين وهب الله لهم إنارة من ضمير.

وكان دياب الصغير في أول عهد أبيه بهذه الفتوحات المشهودة يغمغم الكلمات ولكنه مع مرور السنوات أصبح ينطقها.

ولم يكن لدى مراد أي فراغ لينظر إلى مستقبل ولده، وترك هذا الأمر بكليته لزوجه نازلي، واستأجر شقة أنيقة بالقاهرة، فقد كانت أعماله تقتضي منه أن يقيم بالقاهرة، أياما كثيرة، فإن الاتفاق وحده الذي تم بينه وبين سعيد كان يحتم بقاءه بالقاهرة فترات طويلة قد تستغرق أسبوعا أو أسابيع في بعض الأحيان. فكيف إذا أضيفت إليه الأعمال التي كان يتوسط فيها لذوي الحاجات. كما أن هيئة التحرير في القاهرة غيرها في أي محافظة من المحافظات؛ فهي في القاهرة تساعد أفرادها على أن يكونوا ذوي جاه عريض في الوزارات والمصالح.

وهكذا استأجر شقة أنيقة بحي المنيل، واستجلب إليها من البلد فتوح سيد أحمد ليكون طاهيا وخادما في وقت معا، وليحرس الشقة أثناء غيابه عنها.

وهكذا كانت نازلي هي وحدها، بعون ضئيل من حميها الحاج دياب، مسئولة عن ابنها دياب، وقد حرصت على أن تجعله ينتظم في الدراسة المنزلية منذ سن باكرة فقد ضنت به أن ينتظم في المدرسة، فأقامت له مدرسة خاصة كاملة في البيت، وقد بدأت معه بأن استجلبت له الشيخ عبد المعطي الدروي ليعلمه القرآن، فحفظ بعض سوره، ثم انتقلت به إلى التعليم المدني، وراحت تستدعي المدرسين إلى البيت حتى لا يذهب دياب الصغير إلى المدرسة.

وحين دخل دياب إلى المدرسة الابتدائية كان متفوقا على زملائه بما حصل من التعليم المنزلي.

ومضت السنون.

وكان من الطبيعي أن يكون لسعيد شأن أي شأن في أن يكون مراد مرشح السلطة في الدائرة.

وحين ذهب مراد إلى سعيد في شأن الانتخابات لم يكن طبعا محتاجا أن يسأله عن عنوانه الجديد. فقد كان بحكم الاتفاق الذي تم بينهما كثير الذهاب إليه. وإن كانت نوعا من الكثرة التي لا تلفت الأنظار، الأمر الذي كان يراعيه الطرفان معا كل الرعاية.

كان سعيد وأخته قد انتقلا إلى شقة فاخرة في جاردن سيتي في عمارة من العمارات التي استولت عليها الحكومة في شارع النباتات. وكانت الشقة مكونة من سبع غرف وبهو طويل مترامي الأطراف. وطبعا لم يكن الذي يفتح الباب محبوبة أخت سعيد، وإنما كان واحدا من الخدم الثلاثة الذين يعملون في بيت سعيد. ولكن هذا لم يمنع أن يرى مراد محبوبة في أغلب المرات التي يزور فيها شريكه سعيد. وطبعا لم تستطع الثروة أو الجاه أن يغيرا شيئا من وجهها وطبيعة خلقها، وإن كان قوامها قد امتلأ بعض الشيء امتلاء لا يصل لحد السمنة، ولم تكن الملابس غالية الثمن التي تفقد الذوق بمطيقة وحدها أن تغير من شخصية محبوبة، ولكن الذي لا شك فيه أن بلغت من السنين عددا يجعلها قريبة كل القرب من أن تكون عانسا.

كان مراد طبعا يعرف مواعيد سعيد، فما كان ليذهب إليه ويخطئه قط، قال لسعيد: شكرا لك كل الشكر على ترشيحي. - وهل كنت تنتظر غير هذا؟ - ولكن هناك مشكلة. - ما هي؟ - سيتقدم في الدائرة ستة مرشحين. - من هم؟ - لا تهم أسماؤهم إلا أن من بينهم عمر المفتي. - لا تخف منه. - كيف؟ لقد كان نائب الدائرة لسنوات طويلة. - ألم ينتصر عليه أبوك؟ - كان وفديا، وطبعا أنت تعرف أن الحكومة كانت تساعد الوفد في هذه الانتخابات ومع ذلك نجح أبي بصعوبة بالغة، ولولا وقوف العمد معه لما نجح. - سنشطب اسمه. - عظيم، والباقون؟ - صعب. - وهل هناك شيء صعب بالنسبة إليك؟ - لا نريد أن نزيد من أعدائنا. - يا سيدي الأمر لا يستحق، أنت فقط كلم المسئول، وسينفذ لك كل ما تريد. - غير معقول. - إذن لا فائدة. - ادخل الانتخابات وأعدك بالمساعدة. - لا أضمن النجاح. - وأنا لا أستطيع أن أشطب خمسة. - الأمر لله. •••

وانصرف مراد، وهو يفكر ويطيل التفكير، وحين عاد إلى الميمونة وجد نازلي تعلم دياب مبادئ اللغة الفرنسية، فلم يعلق على ما تفعل، ولا انتظر أن يتعلق به دياب شأنه في كل يوم يراه فيه.

فلم يكن مراد يراه كل يوم، فقد أصبح بقاؤه في القاهرة يعادل إن لم يزد على بقائه في بيته بالبلدة وتعودت نازلي على هذا الوضع راضية به، وإن كان رضاؤها ليس عن اختيار؛ فهي لم تكن تملك إلا تقبل إهمال مراد لها ولابنهما في وقت معا.

ولم تكن نازلي غبية ولا جاهلة فإن تكن السنوات التي قضتها في التعليم قليلة إلا أنها أصبحت تتكلم الفرنسية بقدر من الطلاقة لا بأس به، وزاد من معرفتها باللغة الفرنسية قراءتها لكتب العالميين من كتاب فرنسا وما ترجم إلى الفرنسية من الآداب الأخرى الإنجليزية أو الروسية أو الألمانية كما كانت حريصة على القراءة العربية لكبار الكتاب، هذا جميعا إلى جانب حرصها على تتبع الأخبار في الصحف والراديو على السواء.

وهكذا أصبحت على قدر من الثقافة يعتبر غريبا على زوجة تعيش في القرية، لا تكاد تغادرها إلا القليل النادر، مرات إلى الزقازيق، ومرات أقل إلى القاهرة.

وقد تمكنت ثقافتها أن تجعلها تعرف تمام المعرفة ذلك السعار المحموم الذي أصاب زوجها في جمع المال وسعة السلطة والجاه، وأدركت أن شخصا هذا شأنه لا يمكن أن يلتفت إلى بيته أو تعليم ولده، فحزمت أمرها أن تكون هي المسئولة وحدها عن تعليم دياب وتثقيفه أيضا. فإن حزبها أمر لجأت إلى حميها، وقد كان يستجيب لكل ما تريده، مدركا بحنكة الشيخ المجرب أن نازلي تنازلت عن حقوق الزوجة وأصبحت وحدها المسئولة عن ابنها الذي أهمل أبوه شأنه.

وما كان مراد ليستطيع أن يهتم بشئون بيته وماله وآماله العراض، وكان عليه أن يختار بين أن يكون أبا وزوجا مع مال موفور ولكن ليس بالوفرة التي يريدها، وجاه لا بأس به، ولكن ليس بالضخامة التي يصبو إليها، وبين أن يكون نوعا من الديناصور البشري، وقد اختار الأمر الأخير وليذهب ولده وزوجه إلى أي مصير يلقفهما.

وقد اختار فعلا المال والجاه، وانقضى الأمر، وأصبحت ملائكة السماء والأرض عاجزة كل العجز أن تجعله يغير وجهته أو سمته.

كما أنه كان يعتبر أن نازلي قد استنفدت أغراضها بعد أن توثقت صلته بسعيد، وإن كان ما زال يطمح إلى عون أبيها في الانتخابات.

ولو أن الحاج دهشان ما زال ذا مكانة في البلدان الأخرى، وطبعا في عموديته الكبيرة إلا أن مراد قدر أن الحكومة أقوى من كل الأعمدة التي تستند إليها مكانة الحاج دهشان، فلم يكن عجيبا إذن أن يسعى سعيه الخبيث المستميت لدى سعيد أن تشطب الحكومة المرشحين أمامه.

وهو في دوامة الحصول على عضوية البرلمان في شبه غيبوبة تلهيه كل الإلهاء عن ابنه وزوجه ، أو أي إنسان، أو أي شيء في الدنيا أو الآخرة على السواء.

فلم يكن غريبا أن تعتبر نازلي نفسها متزوجة من بعض رجل، وأن أغلب هذا الرجل أصبح سعارا في سبيل المال والسلطة.

ولم تحاول أن تناقشه أو حتى تسأله إلى أي غاية يريد أن ينتهي، وأي مدى يشتهي أن يبلغ.

فهي تعلم بثقافتها أنه ليس لطالب سلطة أو مال غاية ينتهي عندها أو مدى يقف عنده. •••

أما الحاج دياب فتفرغ كل التفرغ لأرضه والأرض التي كتبها بأسماء ابنه وابنتيه. ومع أن مدني طلبة كان يقوم بشئون العمودية، فقد حرص أن يكون تحت جناح عمه الحاج دياب وقد حرص أن يجلس إلى الناس في دوار العمدة القديم، وأن يظل تليفون العمدة أمام هذا الدوار الذي لم يغادره منذ السنوات الطوال. وهكذا كان الأمر مستقرا في القرية كل الاستقرار، واستطاع مراد أن يفرغ لسعار المال والجاه تفرغا كاملا.

14

قال مراد لسعيد: جئتك اليوم في أمر بعيد كل البعد عما يشغلنا. - خيرا. - لا مقدمات. أريد أن تزوجني محبوبة.

وصدم سعيد بالطلب، وصمت وإن لم يطل صمته، ثم عاد وقال: ماذا تقول؟ - لماذا كل هذه الدهشة؟ - ألا تعرف؟ - أي عجيبة أن أتزوج أختك؟ - الزواج في ذاته ليس عجيبة ولكنك أنت ...

فقاطعه مراد: متزوج. - وعندك دياب. - أتظنني أحتاج منك أن تعرفني أنني متزوج وعندي ولد؟ - إذن. - زوجتي مشغولة تماما بابنها. وهي مقيمة في البلدة. - ولماذا لا تأتي إلى مصر؟ - ولماذا لا أتزوج من محبوبة، وتقيم هي في مصر، وتظل نازلي بالبلدة؟ - هل نسيت أن دياب سيضطر أن يأتي للقاهرة؟ - من أجل الجامعة تقصد؟ - مثلا. - ما زالت أمامنا سنوات. - السنوات تمر سريعة. - يقيم معي ومع محبوبة. - وهل تقبل نازلي؟ - دع هذا لوقته، المهم ما رأيك أنت؟ - والله المسألة تحتاج إلى تفكير، ثم طبعا لا بد ...

وقاطعه مراد: من موافقتها، هذا أمر لا شك فيه. •••

ومن سيتزوج مثلي إذا لم أقبل أن أكون زوجة ثانية، لقد مرت السنوات وقاربت من العنوسة وأنا أعلم أنني لست جميلة . وزوارنا قليلون أو نادرون. وسعيد قطع رجل أقاربنا جميعا لأنه في مكانته الجديدة أصبح لا يشرفه أن ينتسب إليه هؤلاء الأقارب. وطبعا سيرفض سعيد أي متقدم من أقاربنا. فجميعهم من صغار الفلاحين أو الصناع، وطبعا سعيد لن يقبل أي شخص منهم إذا تجرأ وطلب يدي. ليس لي أمل في الزواج إذا أنا لم أقبل مراد.

وما شأني أنا بزوجته الثانية. هي في البلد وأنا هنا، ولن تراني ولن أراها. وكل منا في حالها.

وابنها ...

ما لي أنا بابنها؟

ماذا أصنع إذا أقام معي.

الذي يفعله ربنا ساعتها سيكون.

صحيح سعيد ترك لي الخيار ولكن هل أمامي خيار؟

وواضح أن سعيد مقبل على هذا الزواج طبعا. فهو يخشى أن أظل معه إذا عنست، وأحول بينه وبين الزواج أو أكون مصدر مضايقة له - على الأقل - عندما يتزوج.

وقد مضى عليه شهور يحدثني عن منى ابنة رئيسه، وواضح أنه يريد أن يتزوجها.

وما له؟ لقد كبر هو الآخر، ولا بد له أن يلحق بالقطار.

وإذا لم يتزوج وهو في هذه السن وهذه البحبوحة التي صار إليها فمتى؟ إنه لا خيار أمامي، زوجة ثانية، زوجة ثانية والله يفعل ما يريد. •••

وتم الزواج، وانتقلت محبوبة إلى بيت مراد بالمنيل. ولم تجرؤ أن تطلب إليه أن يستأجر لها شقة أفخر. فهو قد رأى الشقة التي كانت تسكن فيها قبل أن تنتقل إلى شقة جاردن سيتي.

واستطاع مراد أن يكتم خبر زواجه عن أبيه وزوجته على الرغم من أنه زواج رسمي وليس عرفيا، ولكن فتوح ذهب إلى البلد في إجازة بعد أشهر من الزواج وهمس في أذن الحاج دياب. •••

قال الحاج دياب لابنه: لماذا يا مراد؟ - يا آابا أنا وحدي في مصر التي أصبحت أقضي بها معظم وقتي، والوحدة وحشة. - لا، ليس هذا هو السبب. - وما المانع أن أتزوج يا ابا؟ - زوجتك نازلي لا مثيل لها، وربنا يبارك لك في دياب. - وهل أنا قصرت نحو زوجتي أو ابني؟ - أنت مقصر معها قبل أن تتزوج. - البركة فيك يا ابا. - البيت لا يستغني عن رجله، والزوجة تحتاج إلى زوجها، والابن يحتاج إلى أبيه. - يا ابا هل معنى أن أتزوج واحدة تقيم معي في مصر أنني سأترك نازلي أو دياب؟ - المهم لا فائدة من الكلام، الحقيقة يا دياب أنا لا أخاف عليك من أحد إلا من نفسك. - لماذا يا ابا؟ - تريد أن تحصل على الدنيا كلها دون أن تقدم أي ثمن. - ومن الذي لا يريد هذا يا ابا؟ - لو كان الناس جميعهم مثلك لأكل بعضهم بعضا. - توكل على الله يا ابا. - وهل لنا غيره، أنا لن أخبر نازلي بزواجك. - مصيرها تعلم. - لتعلم من غيري. •••

فتوح متزوج. وزوجته تعمل عند نازلي في البيت، واستطاعت عديلة أن تكتم الخبر عن ستها يوما ويومين وثلاثة، ولكن هل تستطيع المرأة أن تكتم سرا كهذا أكثر من بضعة أيام، هيهات. •••

نزل الخبر على نازلي نزول الصاعقة، فهي مهما تكن مثقفة فهي امرأة، ومشاعرها كمشاعر النساء جميعا.

لماذا؟ ماذا فعلت له؟! أهذا جزائي لأنني لا أحاسبه على إهماله لي ولابنه وأني لا أسأله متى تسافر ومتى تعود، لا، إنه يسعى بزواجه هذا إلى شيء آخر غير الزواج، المؤكد أن في زواجه نفعا ماديا له.

عديلة تقول إن الزوجة ليست جميلة، لعلها تحاول بهذا أن تعزيني، ولكنه عزاء لا قيمة له. وأعتقد أن عديلة على حق، وأن زوجته الثانية ليست جميلة. فهو لا يهمه الجمال أو القبح. المهم أن يصل إلى أطماعه التي لا تنتهي.

والآن كيف أتصرف؟

أذهب إلى أبي؟

ولم لا؟ لا بد أن يعرف.

وماذا بعد أن يعرف؟

وماذا أفيد أنا حين أجعل الأمر الذي سيسمعه الناس؛ فيصدقه بعضهم ويكذبه آخرون حقيقة ثابتة لا شك فيها.

أي فائدة تعود علي حين أعلن أنني فشلت في أن أبقي على زوجي مع أن الله يعلم أنني أنا لم أفشل أن أكون زوجة صالحة، والذي فشل هو مراد في أن يكون إنسانا طبيعيا، شأنه شأن كل الناس. وإنما هو إنسان تعميه مطامعه وإن داس بها على شريكة عمره، بل وإن أساء إلى ابنه الوحيد مهما يكن قدر الإساءة. ولكن كم من الناس سيقيم ميزان العدل بيني وبينه.

وماذا أنا قائلة لأبي؟ طبعا سأخبره، ولكن ماذا يستطيع أن يفعل؟ لقد مارس مراد حقا شرعيا له، وأنا بين أمرين اثنين إما أن أقبل وأصمت، أو أثير الدنيا وأفضح ما ينبغي أن أستره من أمر بيتي، ولن أسيء بهذا إلا لولدي ولنفسي، وأنا لم يبق لي في الدنيا إلا ولدي.

قالت نازلي لمراد في أول لقاء بعد علمها بزواجه: مبروك. - خير. - مبروك يا مراد وكتر خيرك. - أعرفت؟ - لا شيء يختبئ. - لن تجدي مني أي تغيير. - لا يمكن أن تتغير. - كيف؟ ألا تخشين أن يجعلني الوضع الجديد أتغير؟ - إلى ماذا؟ أنت وقبل أن تتزوج لم تكن تهتم بي ولا بدياب أي اهتمام، فماذا يستطيع زواجك الجديد أن يصنع منك أسوأ من هذا؟ - هل ينقصك شيء؟ - أنا إنسانة، ولست مثلك. أنت كيان لا شأن له بالإنسانية. أنت عبارة عن سعار للمال وللجاه، وقد طمرت أطماعك الإنسان فيك حتى لتحسب أن الإنسان ما دام يأكل ويشرب فهو لا ينقصه شيء، فسؤالك إن كان ينقصني شيء غير غريب منك.

وأصر مراد قائلا: هل ينقصك شيء؟ - ينقصني الزوج لي، والأب لابني. فقط مسألة بسيطة. - لقد أفسدتك القراءة. - القراءة لا تفسد، وإنما الجهل هو الذي يفسد. - أنا جاهل؟! - لست مثقفا على أية حال. - الأمر لا يصل إلى قلة الأدب. - فعلا لك حق. فالحقائق دائما قلة أدب. - انتهينا. - بل بدأنا. - ماذا تريدين أن تفعلي؟ - ماذا تظن أنني سأفعل؟ - أنا لا أعلم أنت حرة. افعلي ما تشائين. - لا وحياة دياب لن أجعل حبيبا يرثى له أو لي، أو أجعل عدوا يشمت به أو بي. - أنت دائما عاقلة. - أكثر من اللازم. - هذا ما توقعته. - بل هذا ما شجعك على الزواج علي. - أتعتقدين ذلك؟ - أقول شجعك. أما السبب الحقيقي والأهم فهو أمر آخر أعرفه كل المعرفة. - ما هو؟ - المنفعة، الانتخابات، المال، الجاه، أخذ الرشاوى من الناس. - ماذا؟ ماذا؟ ما هذا كله؟ - أسباب زواجك إن لم يكن كل ما ذكرت فبعضه على الأقل. - لا، ناصحة. - لا، لست ناصحة، ولكن إن لم أعرف زوجي فمن أعرف؟ - أهكذا تظنين بي؟ - ليس ظنا بل ثقة تامة. - أنت متأكدة. - وأنت ألست متأكدا؟ - إن لم أسع إلى تحسين وضعي في هذا السن فمتى؟ - كل المسعورين يجدون الأعذار لسعارهم. - رجعنا إلى قلة الأدب. - العفو يا سعادة البك! أم تريد أن أقول الباشا، وما البأس الباشويات اليوم أصبحت على قفا من يشيل. - وسخرية أيضا! - قلنا العفو. - انتهينا. - انتهينا.

15

سافر مراد عدة مرات إلى دول أوروبية مختلفة، وكان يستعين بلغته الإنجليزية المتهرئة في بيع ما كان يحمله من تحف ومصوغات، وقد كان العائد ضخما جزيلا.

ولكن مراد أحس أن هذه المجوهرات التي كان يبيعها في شتى البلاد الأوروبية ليست هي كل ما يحصل عليه سعيد.

وقد جرى العمل على أن يودع نصف حق سعيد في بنوك متفرقة في دول العالم، ويرجع إليه بالنصف الآخر.

وطبعا كان الخروج من مصر والدخول إليها بالنسبة لمراد أمرا ميسرا كل التيسير، مع استحالته لسائر الناس الذين لا يتمتعون بما يتمتع به هو من صلات عليا مع سعيد. •••

حين تزوج مراد من محبوبة أصبح بالنسبة لسعيد موضع ثقة كاملة، يستطيع أن يبيح له ما لم يكن يبيحه حين كانت الصلة أقل شأنا مما صارت إليه. - اسمع يا زوج أختي. - قل ما شئت. - كل الذي بعته من مجوهرات لا يساوي شيئا بالنسبة لما أخفيه عندي ولم أبعه بعد. - كنت واثقا من ذلك. - لماذا؟ - ليس فيما أبيعه شيء خارق للمألوف، مجوهرات نفيسة نعم. ولكن بالنسبة للأسرات الكبيرة وأسرة محمد علي، شيء أقل من المستوى إلى حد ما. - كنت تعلم أن الأسر الأخرى أيضا أصبحت تحت إشرافي. - وهل تعجب أن أعرف شيئا كهذا؟ - لنتكلم في المهم. - أنا تحت أمرك. - ستخرج في كل مرة بقطعتين أو ثلاث على الأكثر. - ليكن. - لاحظ أنني لا أحصل على هذه الأشياء وحدي. وإنما يشترك في قبض أثمانها أشخاص كثيرون. - أعلم هذا. - وهذا أيضا تعلمه. - شيء بدهي. فما كانوا ليبقوا عليك طوال هذه الفترة إن كانوا لا ينالون منك أكثر مما يتوقعون. - لا يخشى عليك. - أنا أخشى عليك أنت.

وجزع سعيد وامتقع لونه. - لماذا؟ لماذا؟ - هؤلاء قوم لا صديق لهم. - هذا صحيح، ولكن العمل الذي أقوم به يصعب أن يجدوا من يحل فيه غيري. - ولهذا لا تتسرع في بيع المجوهرات، ولا في توزيع النفائس من المفروشات والسجاجيد واللوحات العالمية، بل اجعل توزيعك بمقدار.

وصمت سعيد لحظات طوالا ثم قال: لعلك على حق. - المهم نتكلم في السفر. - بعد ثلاثة أيام ستسافر. - إلى أين في هذه المرة؟ - إلى باريس ومعك ثلاث قطع. - طبعا لن أعرضها على صائغ واحد. - طبعا، تعرض كل قطعة منفردة، بل ينبغي ألا يعلم من يشتري منك قطعة أن معك غيرها. - مفهوم.

استطاع مراد أن يبيع قطعتين لصائغين مختلفين، وأبقى القطعة الكبرى، وهي وشاح ضخم من الماس الخالص والذهب الأصفر والأبيض جميعا، وقد ذهب به مراد إلى أشهر متجر ماس في العالم، وقدمه إلى الموظف، فإذا بالموظف يرفع سماعة التليفون، ويطلب صاحب المتجر وفي لحظات يأتي وينظر إلى الوشاح، ويقلبه بين يديه بعناية شديدة، ثم يقول لمراد بالإنجليزية: هل يمكن أن تتركه لنا وتأتي غدا لنتفاوض في الثمن؟ - كيف؟ - سأعطيك إيصالا به حتى تبيت ليلتك مطمئنا، ولو أن متجرنا لا يحتاج لمثل هذا الإجراء. - أمرك.

وكتب له صاحب المتجر الإيصال، وانقلب مراد إلى فندقه متصورا أن الوشاح من العظمة بحيث يحتاج الأمر إلى لجنة لتقرير قيمته الحقيقية.

وفي الصباح قال له صاحب المتجر: هذا الوشاح نحن الذين صنعناه خصيصا لشاه إيران ليهديه إلى عروسه في ذلك الحين الأميرة فوزية، وهو وشاح شهير في عالم الماس.

وقدم إلى مراد كتابا به القطع النادرة التي صنعها المتجر وفتح في الكتاب صفحة معينة وأشار إلى صورة بها وهو يقول: أليس هذا هو الوشاح الذي تعرضه علينا؟

وكان مراد يتوقع أي شيء إلا هذا الذي هو فيه، وتولاه الجزع والعجب، وارتعدت منه الفرائص، بل إن نأمات وجهه أصابتها الرعشة الواضحة ولم يجد شيئا يقول إلا: أنت تعلم أن الحكومة المصرية استولت على أموال أسرة محمد علي.

وقال التاجر: والأسرات الأخرى أيضا.

وقال مراد وهو في رجفته لا يزال: فأي عجيبة أن تبيع الحكومة ما استولت عليه؟

وقال صاحب المتجر في صراحة وحسم: إذا كانت حكومتكم قد سرقت أموال أسراتها، فليس معنى هذا أن نعاونها.

ثم إنك لم تقدم لنا صفتك الرسمية التي تدل على أنك تمثل الحكومة المصرية.

وقال مراد: وماذا تريد أن تفعل؟ - لقد فعلت.

ولم يسعف الجفاف الذي أصاب لسان مراد إلا بأن يلملم حروفا متناثرة. - ماذا؟

قالها بصعوبة شديدة حتى لقد دهش كيف استطاع أن يجمعها لتصبح كلمة مسموعة.

وقال صاحب المتجر: لقد اتصلنا بشاه إيران فأمر بأن نأخذ الوشاح ولا نقدمك إلى الشرطة.

وهب مراد واقفا: الشرطة؟! - هذا ما كان ينبغي أن نفعله. أنت تبيع قطعة نادرة من الماس. ولست صاحبها. بل إنني واثق أنك لا تملك ما يثبت تمثيلك للحكومة المصرية.

وأطرق مراد يجمع شتات نفسه ويجرض ريقه لعله يعينه على الحديث. واستطاع أخيرا أن يقول: ما أنا إلا رسول. فهل يمكن أن تكتب لي ورقة أعطيها لمن كلفني ببيع هذه القطعة؟

ونظر إليه صاحب المتجر طويلا ثم قال: نظرا لحالتك التي أراها لا مانع من هذا.

وبالعربية الفصحى تنفس مراد الصعداء، وهو يقول: الحمد لله.

16

أدرك مراد أن أيام سعيد لن تطول.

مراد اليوم عضو مجلس أمة بعد أن استطاع سعيد أن يجعل الحكومة ترفض ترشيح أربعة مما كانوا مرشحين ضد مراد، ولم تبق إلا على مرشحين اثنين هزيلين فكان طبيعيا أن يفوز مراد بالدائرة.

وقد فكر طويلا بعد أن عاد إلى مصر من رحلته الماسية.

الماس والمجوهرات ستنتهي. وكذلك الرياش والنفائس مصيرها إلى نفاد. فما مصير سعيد بعد ذلك؟ أيبعدونه أم يبقون عليه؟ وإن أبقوا عليه وهو أمر مستبعد أيبقي هو علي أنا، لأكن زوج أخته بل لأكن أخاه الشقيق ما لهؤلاء أمان.

لقد تزوجت محبوبة لأضمن عضويتي في مجلس الأمة. أما بعد ذلك فالذي لا شك فيه أن مفعولها ضئيل جدا.

صحيح سعيد تزوج وأصبح لا يتصور أن تعود أخته للعيش معه. ولكن هذا لن يمنعه أن يمزق العلاقة التي بيني وبينه مطمئنا في نفسه أن أخته تستطيع أن تعيش وحدها إذا عن لي أن أطلقها، ولا تثريب عليه في هذا التفكير.

وإن كان على مصاريف معيشتها فقد أصبح يستطيع أن يعطيها ما يكفيها ويفيض عن حاجتها دون أن تتأثر أمواله الطائلة بهذا.

لا مناص لي أن أوطد صلتي بأصحاب السلطان بالطرق المشروعة وغير المشروعة، والطرق غير المشروعة أقوى وأيسر.

ماذا تراني أستطيع أن أفعل ما دمت ما أزال على صلة طيبة بسعيد. فما لي لا أجعله مفتاح الباب إلى الساحات الرفيعة لأصحاب الجاه والسلطان؟

ولكن لا بد أولا من شقة فاخرة أستطيع فيها أن أدعو هؤلاء الآلهة الجدد.

لا بد من ذلك أولا.

لا بد.

وما أسرع ما أتاح له سعيد شقة بجواره في جاردن سيتي تحقق ما يصبو إليه.

وما أسرع ما راح يدعو أهل القمة إلى بيته الجديد، وما أسرع ما لبوا.

وتوالت الحفلات، وكان العدد فيها في كل مرة يزيد واحدا أو اثنين، وكان الواحد أو الاثنان يمثلان عند مراد نجاحا يفوق كل الحدود.

وراحت الأواصر تترابط بين مراد وبين وجوه الزمان، وراحت الهدايا منه تترى إليهم، وتوثقت علاقاته بعرى الهدايا، واستطاع بذكاء شديد أن يدرك الهدية المناسبة لكل وجه من الوجوه.

وكانت حفلات الشقة الجديدة حفلات صاخبة فيها ما يرضي الأذواق جميعا، شرابا كان أو كان دخانا أو طعاما مما لم يكن متوافرا إلا في السراديب الرفيعة التي لا يبلغها إلا الكبار والضخام واللائذون بهم والمنتسبون إليهم.

ومهما تكن أناقة الحفلات وروعتها وتوافر جميع عناصر البهجة فيها فلم تكن تخلو أيضا من سيدات صنعهن مراد خصيصا لهذه الحفلات، وكن بطبيعة الحال يدرين مصيرهن المحتوم إذا تجرأت واحدة منهن وأذاعت من أمر هذه المهرجانات ما ينبغي أن يظل مستورا في طي الكتمان.

ولم يكن مراد حريصا أن يكون المدعوون كثرة. بل هم قلة يعرف كل منهم - قبل أن يأتي - أسماء المدعوين القادمين معه.

ولم يكن مراد يعنى أي عناية باسم التنظيم الذي ينضوي تحت لوائه.

فهو مع هيئة التحرير، وهو في الاتحاد القومي، وهو مستعد أن يكون في أي تجمع ما دام على صلة بالأعمدة الكبرى من هذا التنظيم.

17

لم تمنع الحفلات مراد أن ينجب من محبوبة طفلا وأسماه أيمن. فقد جاء الطفل ويمن الطالع يفرش ظلاله على حياة مراد أكثر مما كان يتوقع.

ولم تمنعه مشاغله في القاهرة أن يلم بنازلي ودياب، فكان يشهد تقدم دياب في الدراسة وتفوقه تفوقا ملحوظا. بل إنه أيضا عرف مبادئ اللغة الفرنسية وراحت أمه تغدق عليه من كتب هذه اللغة ما يناسب سنه.

وكانت نازلي تعلم كل العلم أن مجيء مراد إلى بيته في البلدة ليس رعاية لحقوقها أو حقوق ابنها فقد كانت تعلم أنه أصبح شريكا للفلاحين في بهائمهم، ولكل التجار في تجارتهم، وكانت تعلم أن جميع شركائه في غاية السعادة بهذه المشاركة. فقد ضمنوا أن لهم ظهرا قويا يستندون إليه.

ولم تعجب نازلي حين زار أبوها زوجها في البلدة، وعرض عليه أن يشاركه في ماكينة الطحين التي يملكها والتي آن لها أن تعفى من الخدمة، وتحل محلها أخرى حديثة.

وهكذا اطمأنت نازلي إلى ما فعلته حين علمت أن مراد تزوج عليها وحين رفضت أن تترك بيتها إلى بيت أبيها. فما كان أبوها ليناصرها إذا لجأت إليه. •••

وتمر السنوات ومراد يصبح النائب الدائم في الدائرة، ويصبح من الوجوه الواضحة في الاتحاد الاشتراكي العربي.

وكما سبق أن قلت لك لم يكن يعني مراد شيئا الاسم الذي يعلن للتجمع الذي ينتمي إليه.

إلا أن الجديد الذي لاحظه مراد أن سعيد لم يعد ذو حظوة عند المسئولين، وأصبح بعض منهم يخشى أن يذهب إلى حفلاته لصلته بسعيد.

وحين تكرر هذا من شخصيات لها خطرها لم يتردد مراد لحظة وطلق محبوبة وأعادها هي وابنها إلى شقة المنيل، وإن لم يقطع عنهما ما يكفيهما لملاقاة الحياة.

وكان عمله هذا حاسما بالنسبة لسعيد. فقد أدرك تماما الموقف الذي يريد مراد أن يتخذه منه. فلم يحاول الاتصال به من قريب أو بعيد.

وعادت الحفلات إلى بهجتها. فما كان لمحبوبة أية صلة بهذه الحفلات بل كانت تحرص في أثنائها ألا تغادر حجرتها، ولا شأن لها أي شأن بما يجري في حجرات الاستقبال والمائدة. وحاول مراد أن يبقي على دماء من ماء وجهه بقوله لها: إننا فلاحون، وحريمنا لا يسهرن مع الرجال.

مع أن هؤلاء الحريم أنفسهن كن يتصدرن للدعوات الأخرى التي لا تتداول فيها الأيدي الكاسات أو مصادر الدخان.

18

لم تكن وفاة الحاج دياب مفاجأة لمراد فقد بلغ من السن ما جعل أيامه الأخيرة متصلة المرض.

وكان مراد في السنوات الأخيرة هو الذي يشرف على الزراعة، وما كان إشرافه عليها يكلفه أي جهد، فقد حرص الحاج دياب بعد الثورة ألا يقوم بزراعة أرضه أو أرض مراد أو بنتيه اللتين كونت كل منهما أسرة. الأمر الذي جعل أرضه وأرض ولده وبنتيه في مأمن تام من كل قوانين الإصلاح الزراعي.

ولكن مراد بعد وفاة أبيه رأى أن يزرع الأرض جميعها بالموالح. وكان قد استطاع في أثناء أسفاره إلى الخارج أن يتعرف ببعض المستوردين، وكان يدري أيضا أنه لا يفهم شيئا في شئون الزراعة. كما أن مدني العمدة لا يجيد زراعة الموالح. وإن كان يجيد زراعة المحاصيل المألوفة من قطن إلى ذرة إلى قمح إلى شعير إلى برسيم، أما خارج هذه الحدود فلا يعرف شيئا.

وقد اتفق مراد مع أختيه بعد وفاة أبيهما أن يزرع أرضهما هما أيضا بالموالح ورحبت أختاه بما يريد.

وبهذا أصبحت المساحة التي سيزرعها جديرة بأن يشرف عليها مهندس زراعي من خريجي الزراعة العليا المتخصصين في الموالح، وكان يقدم له مرتبا ضخما لا يحلم به الخريج من أمثاله. فقد كان يدفع له مائة جنيه في الشهر مع نسبة 5٪ من الأرباح، وكان المهندس واسمه فؤاد برعي ماهرا كل المهارة في خبرته.

فما هي إلا سنوات حتى أصبح محصول الموالح في أرض مراد وأختيه مضرب الأمثال في الوفرة وامتياز الثمار في وقت معا مما شجعه على أن يسافر ويستفيد بصلاته السابقة في الأسفار، ويوقع العقود بالتصدير ويزيد ماله ويزيد. •••

وقد اختار الله أيضا الحاج دهشان إلى جواره بعد أن كان قد باع أرض نازلي جميعها لمشترين آخرين قبل موته بفترة طويلة.

وقد كان البيع لأنها وزوجها سيصبحان مخالفين لقوانين الإصلاح الزراعي. فلم يكن عجيبا أن يتغلب الحاج دهشان على تلك الصعوبة بأن يبيع الأرض للفلاحين ويقيم عمارة فاخرة بالقاهرة باسم ابنته، وطبعا كان مراد هو الذي يدير هذه العمارة.

وكان طبيعيا بعد قوانين الإسكان ألا يؤجر فيها شقة واحدة بإيجار عادي، وإنما أجر شققها جميعا إيجارا مفروشا حتى يستطيع أن يخرج السكان وقتما يشاء. وفي نفس الوقت أبقى شقتين متجاورتين بدون تأجير لتتصرف فيهما نازلي كما تشاء، أو لتقيم فيهما حين يذهب دياب إلى الجامعة.

وهكذا مات الحاج دهشان مطمئنا على ابنته.

أما آلة الطحين فقد ارتأى مراد بعد وفاة حميه أن يبيعها. - ما رأيك يا نازلي في ماكينة الطحين؟ - ما تراه يا مراد. - أنا أرى أنها تحتاج لوجود شخص مأمون إلى جوارها حتى تظل تنتج كما كانت تنتج أيام المرحوم الحاج. - فعلا. - والشخص المأمون لا يوجد في هذا الزمان. - فماذا ترى؟ - سأعرضها للبيع. - وما له؟ - أنا عندي فعلا توكيل، ولكن أردت أن أعرف رأيك. - الحقيقة أنك مع حبك للمال لا تبخل علي ولا على دياب، ثم إن حقي من العمارة يصلني على دائر المليم. فالذي تراه افعله.

وفعلا باع مراد ماكينة الطحين وقال لنازلي: ما رأيك نشتري بثمنها أرضا للبناء في القاهرة. - ما المناسبة؟ - تكون لدياب حين يكبر. - نحن عندنا شقتان في عمارة الدقي. - أعلم ولكن دياب سيتزوج في يوم من الأيام. - نخلي له شقة في عمارتنا. - ولماذا؟ - مع أزمة السكن الأرض ثمنها سيزيد. - اكتب الأرض باسم دياب مباشرة. - وهو كذلك.

وهكذا كانت الأحوال المالية لمراد في انتعاش مستمر. والانتعاش يغري بالمزيد منه. والأرقام ليس لها نهاية. فليمض به الطريق ونحن من ورائه نقص أثره ونتنطس أنباءه.

19

في ثورة مايو كان مراد غاية في الحصافة والذكاء، وكان يدري على وجه اليقين لمن سيكون النصر.

فما أسرع ما تنكر لكل المارقين على السلطة العليا للبلاد، وراح بأنف متمرس يبحث عن الأعمدة الجديدة للحكم الجديد.

ولم يهمه في شيء أنه كان يدعو إلى الاشتراكية بكل قوته أيام سيطرة الاشتراكية، وكان في آرائه البرلمانية متحمسا للمذهب الاشتراكي تحمسا يقصر عنه ماركس ولينين وستالين جميعا.

ولم يهمه في شيء الأغراض التي انتهكت، ولا مذبحة 66، 67 لمن أسمتهم بالإقطاع فهو مع كل ما له كان محصنا بآرائه الاشتراكية، وهتافاته المتواصلة للعهد، وأربابه وصلاته الوثيقة بمن كانوا يبقون في الصدارة وتنكره كل التنكر لمن يقصيهم الحكم، ويتخذ منهم موقفا عدائيا، وكأنهم لم يكونوا في يوم من الأيام هم الأقمار الساطعة في دعواته وصلاته ومهرجاناته ومشاربه المائية أو ذات الدخان.

وحين وقعت حرب 67 أوشك أن يشارك النائب الراقص في رقصه لولا بقية هزيلة من حياء.

فقد أدرك أن الهزيمة وإن كانت قد زلزلت العهد زلزالا شديدا إلا أنها لن تقضي عليه، فكان من أوائل من حشدوا الهاتفين، واستأجر عشر لوريات مليئة بالرجال والعصي انتظارا لمهزلة التنازل، وكان يدري كل شيء عن مناورة التنازل والتجميع والهتافات، فلم يترك الفرصة للمشاركة في التمثيلية الفجة التي مثلها العهد بعد الهزيمة النكراء، ولم يعنه في شيء من قتلوا من أبناء مصر مع الأموال الضخام التي سفحت مع الدماء على رمال سيناء.

وفي مجلس الأمة كان أشد المصفقين للنائب الراقص على أشلاء مصر. حتى إذا أراد الله للعهد أن ينتهي كان هو مع العهد الجديد أشد ما يكون تحمسا، وأعلى ما يكون صوتا في الهتاف والتأييد للعهد الجديد.

وقد أدرك العهد أن مراد ممن يمكن الاعتماد عليهم، فما دام رجل قد احترف الهتاف فهو لن ينصرف عنه في سبيل أي شيء، وإنما سيستمر على الهتاف لأن حنجرته لا تستطيع أن تصنع شيئا إلى هذا الهتاف. ولا بد من هاتفين لكل عهد.

فما أسرع ما أقيمت الولائم في بيت مراد لسدنة العهد الجديد، وما أحسن ما سارت معه الأمور. •••

وطبعا كان ضمن المرشحين في منبر مصر.

وكان أول من قيد اسمه في حزب مصر.

كما كان الأول أيضا في قيد اسمه بالحزب الوطني.

وظل هو دائما نائب الدائرة.

20

انتقلت نازلي إلى عمارتها بالقاهرة ليصبح دياب طالبا في كلية الحقوق، ويبدأ دياب حياة جديدة كل الجدة مع أنه كثيرا ما كان يأتي إلى القاهرة في الإجازات ويقيم في شقتي والدته اللتين احتفظ بهما أبوه.

وكان طبيعيا أن ينضم مراد إلى أسرته ويؤجر شقته الفاخرة مفروشة؛ ومع ذلك كان لا شأن له بدياب إلا في إلمامات عابرة.

وكان دياب متقدما في دراسته دائما، ولما كان يتقن اللغة الفرنسية فقد اختار كلية الحقوق. ووافقت أمه، أما أبوه فلم يشترك في الرأي إلا بالموافقة وفي الكلية تعرف به طالب اسمه فكري نديم راشد.

وفي أحد الأيام بينما دياب وزوجته وابنه على مائدة الغداء أحب مراد على غير المألوف من عادته أن يظهر اهتماما بشئون دياب ولو على سبيل قطع الصمت على مائدة الطعام. - ما أخبار الكلية يا عم دياب؟ - الحمد لله عظيمة. والدراسات فيها تستهويني. - هل تعرفت بأصدقاء هناك؟ - كثيرين، أذكرتني يا أبي؟ - بماذا؟ خيرا. - كنت أسمع جدي يتحدث عن الوزير السابق فكري باشا راشد. - نعم لقد كنت أنا سبب تعرفه على جدك. - كيف يا أبي؟

وكان دياب تواقا أن يتحدث إلى أبيه أو يتحدث أبوه إليه. فما أن وجد أباه فتح حديثا حتى سارع يستحثه أن يتكلم. قال أبوه: ألم يقل لك أبي؟ - ربما قال، ولكني أحب أن أسمع منك. - كان ابنه نديم زميلي في المدرسة، وكان الباشا يحبني مثل ابنه، لأنه كان يستبشر بي. فقد كنت على مائدته يوم استدعي ليكون وزيرا. وبعد ذلك دعانا أنا وأبي إلى بيته، ودعاه أبي إلى بيتنا في البلد، وأقام له حفلة ما زالت بلدنا والبلاد المجاورة تتحدث عنها حتى اليوم. - أيكون فكري هذا ابن نديم صديقك؟ - لا بد أن يكون كذلك. - ماذا يعمل نديم؟ - في المحاماة وقد أصبح اليوم من أكبر المحامين في مصر. - إنه هو لا شك. - إن للزمن تصاريف عجيبة. - إنه شاب مهذب جدا، وقد تعلم في المدارس الفرنسية. - لقد حضرت فرح أبيه، وكان بعد ميلادك بفترة قصيرة جدا، أنا لا أنسى ذلك اليوم، إنما أعتقد أنه أصغر منك بسنتين على الأقل.

وهنا تدخلت نازلي: طبعا فإن دياب لم ينتظم في المدارس إلا بعد أبناء سنه بسنتين تقريبا وربما أكثر، فأنت تعلم أنني كنت حريصة أن يتعلم في البيت، وربما تكون هذه الدراسة هي التي جعلته دائما متفوقا على زملائه.

وقال مراد: لك حق هذا صحيح. قل لي يا دياب هل تقدر أن تأتي لي من زميلك بتليفون أبيه. - أقدر جدا. - والله زمان. •••

أدار دياب قرص التليفون وأجابه صوت وقور: ألو. - لو عرفتني تكون فعلا أكبر محامي في مصر. - تحدث قليلا. - وفيم تريد الحديث؟ - في أي شيء يعجبك. - تريد أن تستجوبني كما تستجوب الشهود في المحكمة، ولكني لن أمكنك من هذا. - أهذا معقول؟! بعد كل هذه السنين. مراد أيها الرجل الناقص. - أنعم وأكرم. أنت نديم بذكائك الشديد لم ينقص بل زاد. - أين أنت؟ لا تقل أنت مشغول في أشياء كثيرة فأخبارك تصل إلي أولا فأولا. - الكلام في التليفون لا ينفع، تتغدى أو تتعشى معي أو عندي لا يهم. - إذن، نتعشى عندي يوم الاثنين القادم. - وهو كذلك. - أنت ونازلي هانم ودياب. - طبعا، فإن دياب هو السبب في تجديد الصلات فهو كما تعرف. - نعم عرفت من فكري أنهما زميلان في الكلية. - يوم الاثنين إذن. - يوم الاثنين إن شاء الله في الثامنة والنصف، وأيضا لترى دينا أخت فكري. - بسم الله ما شاء الله ودينا أيضا. - نعم وهي طالبة في الجامعة الأمريكية. - اللهم وفقها يا رب. - أنا منتظركم. - إن شاء الله.

وهكذا عادت الصداقة القديمة إلى مجراها. ولم يعد هناك حرج على دياب أن يصادق أبناء الوزراء السابقين الذين حاربتهم الثورة بكل سلاح.

فالعهد الجديد لم يكن جبارا فاتكا كسابقه.

وتعرف دياب على السيدة إلهام وجدي زوجة نديم وأم ولده وابنة عمه، ولم يكن رآها إلا في يوم الفرح. كما تعرف بابنته دينا فتاة جميلة واضحة الذكاء مع خفة روح لا تخفى.

وكانت السنون قد أعملت يدها في الصديقين والزوجتين، ولكن السمات الأساسية لم تتغير. فمهما تصنع التجاعيد فإنها لا تستطيع أن تمحو ما يعرفه الصديق عن صديقه من الملامح والطريقة التي يتحدث بها كل منهما.

وإن كانت الموضوعات قد تغيرت اليوم عن الأمس البعيد، وتعرفت نازلي على إلهام. وتقاربت بينهما الأفكار، وعرفت كل منهما أن ثقافة الأخرى فرنسية. فالموضوعات بينهما موصولة لا فارق ثمة بين ابنة العمدة السابق، وابنة المستشار السابق أيضا.

فكل المناصب بالنسبة للآباء من الزوجين ومن الزوجتين مناصب سابقة، وقد جاوز أربعتهم سنوات الشباب والكهولة واقتربوا جميعا من الشيخوخة ولم يبق من شبابهم إلا الآمال المعلقة بأولادهم الجالسين معهم يشاركون في الحديث بمنطق مختلف كل الاختلاف عن الوالدين والأمين جميعا.

وأحس دياب إعجابا شديدا بدينا التي لم يكن رآها إلا في ليلتهم هذه، وقد استطاع في لباقة أن يبدي إعجابه في كلمة عابرة وفي الاهتمام الشديد بما تقول.

21

حرص مراد في مهرجان الانفتاح ألا يغامر بأمواله مطلقا، كما حرص ألا يفتح أبوابا جديدة من التجارة، ولكنه حرص على توطيد علاقاته وصداقاته برجال البنوك الكبار والاقتصاديين، منتسبين إلى الحكومة كانوا أم كانوا من العاملين في الميادين الاقتصادية أو التجارية العامة والخاصة على السواء، وقد اتخذ لنفسه موقفا صلبا وهو ألا يشارك أصحاب الملايين أو رجال الأعمال في مشروعات اقتصادية مطلقا.

وكثيرا ما ألح عليه أصحاب مشروعات ضخمة أن يشترك معهم فكان يأبى هذا؛ لأنه يرى أن كل مشروع يحتمل المكسب والخسارة، وهو لا يريد أن يخسر مطلقا.

وكان المال موفورا لديه وقابلا للزيادة. فقد كان رجال الأعمال هؤلاء يلجئون إليه في كثير من الأحيان لتسهيل أمور لهم لدى الحكومة ولدى البنوك. وكان لا يتأخر عن قاصد مطلقا ما دام يقدم له الهدية التي نسميها نحن الرشوة.

وقد كان محصول هذا الرشى ضخما إلى حد بعيد. فقد كانت الرشوة تبدأ حيث تبدأ، وقد تنتهي بنصف مليون أو ربعه.

فما بعجيب منه إذن أن يرفض الدخول في مشروعات قابلة لكسب أو لخسارة. فهو مهما يكسب منها لن يصل كسبه إلى دخله من باب الرشوة.

قصده عبد الحميد عنارة رجل الأعمال الكبير، والذي يعمل في الاستيراد والتصدير. والاستيراد طبعا أكثر من التصدير وكان عنارة يستورد فيما يستورد الحديد بجميع أحجامه وأنواعه. وقال عبد الحميد لدياب: أمامي صفقة عمر. - خيرا. - حديد. - بكم؟ - بمائة مليون جنيه. - يا واقعة سوداء! - يا رجل حرام عليك قل بيضاء إن شاء الله. - بيضاء بيضاء إن شاء الله. والمطلوب مني؟ - تدخل معي. - أين. - في العملية. - حرام عليك. الرقم وحده أصابني بالرعب. فكيف أتصور أن أشارك في عملية بهذا الحجم؟ - إنها مضمونة كما أنك تراني الآن. - مبروكة عليك. - دخولك أساسي. - لماذا؟ هل تعتقد أن أموالي كلها ذات قيمة في مثل هذه المبالغ؟ - ليس مالك هو المطلوب، هل تعتقد أن عندي ما يواجه مبلغا كهذا؟ لو كان عندي لاعتزلت العمل. - إذن ماذا تريد مني؟ - ألا تعرف؟ - لا بد أن تقول. - مساعدتك. - مساعدتي أنا؟! فيم؟ - لا يا مراد بك أنت لا تحتاج إلى شرح. - ربما كنت غير محتاج إلى شرح، ولكن لا بد أن تكون المسائل واضحة تماما حتى لا يحصل لبس. - تساعدني في الحصول على المبلغ من البنك. - على مائة مليون؟ - لا على ثمانين فقط. - والله الأمر يتوقف ... - على ماذا؟ - على ما تعرضه أنت علي. - كم يكفيك؟ - في عملية كهذه، لا أقل من مليونين. - لا، لا، لا يمكن، هذا كثير. - أمرك، أنا لن أقبل أقل من هذا مليما واحدا. - ألا يكفيك مليون؟ - لا يكفيني أقل من المليونين بعشرة جنيهات. - أنت متشدد جدا. - وعلى شرط. - وشرط أيضا؟ - ألا أتكلم في الموضوع قبل أن أحصل على حقي. - أنت سميته حقك؟! - أنت تعرف الجهد الذي أبذله في حياتي لتصبح وساطتي مقبولة. فهو حقي لا شك. - فلنقل نصفه قبل موافقة البنك و... - لا تكمل، لن أخطو إلى البنك خطوة قبل أن آخذ حقي كاملا. - اتفقنا. - على بركة الله.

وفعلا ذهب مراد مع عنارة إلى البنك، وقدمه إلى رئيس البنك وأوصى بكل حماس. وكان من الذكاء بحيث استأذن أن ينصرف لموعد مهم، مقدرا أن رئيس البنك ربما يريد أن ينال حقه هو أيضا.

22

نال دياب شهادة الليسانس ولم تمض إلا أشهر قلائل حتى عين بالنيابة العامة.

وبدأ يفكر في الزواج يشجعه أبوه وأمه على ذلك، وبخاصة أنه كان مستقرا على العروس التي سيخطبها.

فقد استطاع بعد تعرفه بدينا أن يصل إليها في الجامعة الأمريكية، ونشأ بينهما ما ينشأ بين كل شاب وفتاة يجد كل منهما في الآخر ما يرضي مشاعره ومنطقه وعقله جميعا.

وفي حفل صاخب انتهز فيه مراد الفرصة ودعا كل ذي مكانة أو شأن أو مال أو صلة تمت الخطبة والوالدان والأمان سعداء غاية السعادة.

أما أيمن فقد توكأ في دراسته حتى وصل إلى كلية التجارة لاهثا، وكان أبوه يحرص على أن يتصل به أو بأمه مرة أو مرتين في الأسبوع ليتأكد أنهما في غير حاجة إلى مال.

فإن يكن مراد مسعورا في المال إلا أنه حريص كل الحرص أن يكون ابنه الذي ينتسب إليه في مظهر لائق بين زملائه ومن يعرفونه.

وربما كان هذا الحرص في ذاته مكملا لمعالم السعار المالي الذي يتمتع به.

فإن مظاهر الأبناء ما هي إلا لافتة لآبائهم، ومراد في حاجة جائحة أن تكون عناصر الأبهة جميعها متوافرة له فيما يستطيع أن يسعى سعيه في الوساطات، ويستطيع أن يحافظ على صلاته بذوي الشأن والسلطان.

ولهذا لم يكن غريبا أن يشتري لأيمن سيارة يوم دخل الجامعة كما فعل لدياب من قبل.

فهو يعلم بخبرته أن السيارة في الجامعة أصبحت منتشرة، وأنه من العار ألا يكون ابن مراد طلبة دون سيارة مهما يكن مطلقا لأمه. فزملاؤه لا شأن لهم بما بين الأب والأم، وإنما لهم الشأن كل الشأن إن كان زميلهم ذا وفرة في المال والوجاهة.

والعار والشرف عند مراد لا يتمثلان إلا في المال والسيارات ومظاهر الرفاهية وعضوية المجلس الذي أصبح اسمه مجلس الشعب، ثم ليس في أي شيء آخر.

وهكذا كان أيمن بما لا يملكه من تفوق في الدراسة يعوض نكوصه في العلم بتفوقه في إظهار الغنى واتخاذ كل الوسائل التي تجعل منه بين إخوانه شخصا يشار إليه.

وأي شيء يعينه على هذا أكثر من أن يعرف طلاب الكلية جميعا والأساتذة أن أباه عضو بمجلس الشعب، وأنه ثري ذو سيارة ووفرة في المال وقدر كبير من وجاهة المظهر والملبس، وليذهب الجوهر إلى أي جحيم يطيب له.

ولم يكن غريبا أن يصبح كثير الأصدقاء من الزملاء، والكثرة تجمع في طواياها الخبيث والطيب. والخبيث أكثر إقناعا من حميد الخلق السوي الطريق. وهكذا كان من المتوقع ما حدث حين طلبت محبوبة زوجها السابق مراد بالتليفون وهي تصيح مولولة: الحقني يا مراد. - ماذا بك؟ - الولد. - ما له؟ - مغمى عليه! - هل طلبت الدكتور؟ - أي دكتور، الحقني أنت وهات معاك دكتور. •••

تبين أن أيمن تناول قدرا من المخدرات لم يحتملها، ففقد الوعي وأسعفه الطبيب الذي أحضره أبوه وأبلغ أباه بحقيقة الغيبوبة. •••

وكان طبيعيا أن ينقل أيمن إلى المستشفى، وكان طبيعيا أن يحضر خاله سعيد. بادره مراد: أهذا جزائي لأنني لم أتأخر عن أي طلب له أو لأمه؟

ورد سعيد في جفاء: هذا جزاؤك أنك أهملته. والأبوة ليست المال وحده. - أخوه لا ينال من اهتمامي أكثر منه. - الخطأ لا يبرر الخطأ. - ولكن أخاه من أحسن الناس خلقا، وهو أيضا متفوق. - لا تنتظر أن يكون الأخ كأخيه لكل منهما ظروفه النفسية. - اسمع أنا سأنقل أيمن إلى بيتي ليكون تحت إشرافي. - ألا يغضب هذا زوجتك؟ - زوجتي سيدة مثالية وستعامله كما تعامل دياب. - ومحبوبة؟ - إنك أخوها. - نعم، أهلا بها. - أعرف أنك تزوجت وخلفت ولدين. ولكنك لن تعجز عن إيجاد غرفة لأختك. - طبعا لن أعجز. - ولن أنسى أنا العشرة وسوف يكون لديها ما يكفيها. - أنا لن أكون نذلا لدرجة أنني أرفض قبول أختي في بيتي. وليس من المعقول أن أتركها وحدها. - وهو كذلك.

طبعا مراد قد أعد في نفسه أن يؤجر الشقة التي ترك فيها محبوبة وابنها مفروشة، ولا شك أن ما سيعطيه لها أقل مما سيتقاضاه من الإيجار، في نفس الوقت يشعر ابنه أيمن أنه لم يهمل أمه.

شفي أيمن من الإدمان وانتقل إلى بيت أبيه. ودأبت نازلي أن تعامله أحسن معاملة، كما أن دياب كان يشعر بنوع من الأنس بوجود أخيه معه. وبخاصة أن النيابة كانت تأخذ كل وقته، ولم يكن يلم بالبيت إلى في فترات ضئيلة. وكان قد روعه أن يصاب أخوه بالإدمان. فمثل هذا الأمر إذا عرف يؤثر لا شك على مكانته في النيابة، فقد كان يدرك أنها وظيفة حساسة غاية الحساسية وأي لغط حول واحد من أسرته كفيل بأن يؤثر على نظرة المسئولين والزملاء إليه.

ولذلك كان حريصا كل الحرص على متابعة أخيه في دراسته وصلاته وخلطائه وأصدقائه.

وتحت هذه الرقابة الثلاثية من الأب وزوجة الأب والأخ لم يجد أيمن سردابا يعود به إلى الإدمان، ولم يجد شيئا يفعله إلا المذاكرة وأمره إلى الله.

23

حصل عبد الحميد عنارة على الاعتماد الذي توسط فيه مراد لدى البنك.

ولكنه بدلا من أن يستورد به الحديد رأى أن الكسب مهما يبلغ لن يصل إلى المبلغ الذي حصل عليه فعلا. فراح يهرب أجزاء منه على فترات إلى الخارج، معدا نفسه أن يلحق بالمال، ويقيم بالخارج بعد أن يودعه جميعا بعيدا عن السلطات المصرية، وإن كانت نيته هذه لم تمنعه أن يسافر بعد كل مبلغ يهربه حتى يطمئن على سلامة وصوله واستقراره في البنك الأجنبي.

ولم يكن عنارة يتصور أن عليه عيونا رواصد. فإذا أمره ينكشف فجأة قبل أن يهرب من المبلغ إلا ثلاثة ملايين من الجنيهات لم يرد في مقابلها حديد كما كانت الاتفاقية مع البنك تنص.

وقبض على عبد الحميد عنارة.

وتداولت الصحف الصفقة السارقة لأموال البنك والدولة معا، وبدأ التحقيق واتسع، ولاكت الصحف اسم مراد دياب طلبة عضو مجلس الشعب .

وكدأب الصحافة ما إن تجد فرصة كهذه يكون من بين عناصرها شخص مثل مراد حتى توسعها بالتفاصيل. منها الصادق ومنها ما تتناقله الإشاعات ومنها ما يختلقه المختلقون.

وأصبح مراد في حالة من الكرب لم تمر به في حياته جميعا، واختلط عقله. وفجع يوم عرف أن وزارة العدل طلبت رفع الحصانة عنه.

ولم يجد له ملاذا إلا نديم يلجأ إليه ويستفتيه من الناحيتين الشخصية والقانونية معا.

وسأله نديم: هل لك صلة بهذه العملية؟ - أكذب لو قلت لا. - تذكر أنني محام، والمحامي إذا لم يعرف الحقيقة كاملة يستحيل عليه أن يدلي برأي. - طبعا. - ما صلتك؟ - أنا الذي قدمت عبد الحميد عنارة إلى أمجد حسانين رئيس مجلس إدارة البنك. - هل ضمنت؟ - ليس لي توقيع واحد في العملية، وكل صلتي بها أنني زكيت عنارة عند أمجد حسانين الذي طالما دعوته إلى بيتي. - ماذا تعرف عن أمجد حسانين؟ - لا أعرف دخائله. - ولكن اسمه ليس فوق مستوى الشبهات. - معك حق. - فلماذا تتصل به؟ - إذا لم أصادق إلا من ترتفع أسماؤهم عن الشبهات لخاصمت الكثيرين من الذين ترتبط مصالحي بمعرفتهم. - ماذا تقصد بكلمة مصالحي؟ - سبحان الله ألا تعلم؟ - طبعا أعلم، ولكن أريدك أنت أن تقول. - أنا أعمل في التصدير، ثم إنني عضو بمجلس الشعب، وأبناء الدائرة لهم طلبات لا تنتهي؛ فلا بد أن أكون وثيق الصلة بكل من يملك التوقيع. - كيف تعلل السبب الذي دعا إلى ذكر اسمك في قضية عنارة؟ - طبعا لا بد أن أمجد ذكر اسمي. - أنت واثق أنك لم توقع على ورقة؟ - ثقتي من أنني أقعد أمامك. لقد طلب مني عنارة أن أشاركه ولكني رفضت. - هل تقاضيت منه شيئا؟ - ولكني لم أوقع على ورقة فهذه أمور لا يمكن إثباتها. - لك حق. - بماذا تنصحني أن أفعل؟ - متى يجتمع مجلس الشعب. - يوم السبت القادم. - هل سينظر في رفع الحصانة؟ - لا أظن فقد أحال رئيس المجلس الطلب إلى اللجنة التشريعية، وهي عادة تستغرق وقتا حتى تقدم تقريرها إلى المجلس. - أتريد نصيحتي؟ - فلماذا أنا هنا؟ - طلب الحصانة، هل هو مقدم بالاتهام أم لسماع الأقوال؟ - لسماع الأقوال. - عظيم، سعادتك تتقدم بطلب إلى المجلس برفع الحصانة. - أنا؟ - طبعا ليس أنا، أنت طبعا. وبهذا تظهر أنك لا تخشى أن تسأل وأنك مطمئن إلى براءة ساحتك. •••

رفعت الحصانة وتمت المحاكمة وأدين فيها رئيس البنك للخطأ الجسيم وعدم التثبت من الضمانات المقدمة على ضعفها كما أدين طبعا عبد الحميد عنارة.

وبرأت المحاكمة ساحة مراد دياب طلبة. •••

هيهات فإن مثل هذه الأمور لا تجدي فيها براءة المحكمة؛ فقد زاد اللغط حول مراد. حكى كل من قدم له رشوة كيف قدمها وكم دفع له.

وما احتفظ به الراشون من أسرار أصبح على كل لسان، وخيم السواد والمهانة على بيت دياب.

وارتفعت الرقابة عن أيمن، وعاد إلى طريقه القديم، إذا كان أبي لصا فما أهون أن أكون أنا مدمنا.

أما الذي أصيب إصابة قاتلة فهو المسكين دياب عضو النيابة.

24

جلس دياب أمام نديم في مكتبه. - أرجو أن تأمر كاتبك ألا يدخل إليك أحدا. - وهو كذلك.

أصدر أوامره وقال دياب: إن الذي بيني وبين دينا إعجاب شديد، وربما كان إجلالي لك يمنعني من أن أقول الكلمة الحقيقية. - أنا لست محتاجا أن أسمعها. - ألا زلت تراني كفئا لها؟ - وما الذي جد؟ - الذي تعرفه. - الذي أعرفه ليس جديدا علي. - أكنت ...

وقاطعه نديم: أنا أعرف أباك منذ نحن تلاميذ صغار، وصداقتي به، بل وحبي له لم يكونا في يوم من الأيام حائلا بيني وبين معرفة أخلاقه معرفة تامة. - وقبلتني؟ - لسببين. - أولهما؟ - إنني أعلم أن والدتك هي التي قامت بشأنك منذ الطفولة. - هذا حق، ولكن أتعرف والدتي؟ - أخلاقها وما صنعته مع أبيك حين تزوج عليها من أجل مصالحه وثقافتها وعقلها، كل هذا معروف وأنا محام وأخبار الناس تأتي إلي من كل سبيل. - وما السبب الثاني؟ - أنا أستطيع من لقاء أو لقاءين أن أعرف دخيلة الناس، وقد ارتحت إليك ووثقت أنك على النقيض من أبيك تماما، وقد صدق حدسي بما سمعته عنك في الفترة القصيرة التي قضيتها في النيابة. - أشكرك، وأحمد الله على أن يكون هذا رأيك، ولكن بقي الأهم من ذلك رأي دينا. - أنت خطيبها، اسألها أنت. - قد تجد حرجا أن تقول لي رأيها صريحا. - دع هذا لي. - هذا ما أرجوه. - وهو كذلك. - وهناك خبر آخر أرجو أن تعرفه. - خيرا. - لقد استقلت من النيابة. - ليس هذا غريبا عليك، وماذا تنوي أن تفعل؟ - هذا ما سأقوله لسعادتك حين تخبرني برأي دينا. - ليكن. - متى آتي؟ - لن أطيل فترة انتظارك، ليكن هذا اليوم في الساعة السابعة. - أستأذن. - مع السلامة.

وقصد نديم أن يقف إجلالا لخطيب ابنته ويصافحه بحرارة وهو يودعه. •••

قال نديم لابنته دينا ما دار بينه وبين خطيبها بما في ذلك استقالته من النيابة وكانت أمها بمشهد. - فما رأيك؟ - ما رأيك أنت؟ - رأيي أحتفظ به لنفسي حتى لا يكون له أي تأثير عليك.

وقالت إلهام والدة دينا: أنا لا أريد أن أدلي برأي. ولكن اسمحا لي أن أعجب بموقف دياب وإقدامه هو على هذا السؤال. وأنا أعرف مقدار حبه لدينا وحرصه على الزواج منها.

وقال نديم: اتركي دينا تقل رأيها.

وقالت دينا: الحقيقة يا أبي أنا لا أرى له ذنبا فيما يفعله أبوه، وإذا كان ذا ضمير وأبى أن يفرض نفسه علينا بعد ما شاع عن أبيه، فلا يجوز أن أكون أنا حقيرة وأتخلى عنه في شدته. أنا الآن متمسكة به أكثر ما كنت. •••

ونقل نديم رأي دينا إلى دياب وقال له: والآن حان لك أن تخبرني ماذا تنوي من جهة عملك؟ - إن كل ما فكرت فيه مرده إليك وإليك وحدك. - أوضح. - أريد أن أعمل في مكتبك. - لقد كنت أخشى أن تكون متجها إلى وجهة أخرى. - إذن تقبلني؟ - إذا كنت قبلتك زوجا لابنتي الوحيدة فأنا أرحب بك زميلا في مكتبي طبعا.

وعمل دياب بمكتب نديم، وتم الزواج في فرح قصد مراد أن يكون باذخ الفخامة؛ ليعلن به نسبه إلى نديم المحامي العملاق وابن فكري باشا راشد. •••

بقي في هذه الرواية سطر واحد.

لقد رشح مراد نفسه في الانتخابات التالية، وفاز بنجاح ساحق!

ولا تعليق. (تمت)

مجلس الشورى

في 5 أكتوبر سنة 1994م

الساعة الثانية والنصف مساء

29 ربيع ثان عام 1415ه

صفحه نامشخص