سمات من الزمان
سمات من الزمان
سمات من الزمان
سمات من الزمان
تأليف
ثروت أباظة
سمات من الزمان
1
كان وفديا متعصبا، ولكن تعصبه كان بعيدا كل البعد عن أي اقتناع أو مناقشة فكرية أو جدل منطقي. ولكن تعصبه أولا وأخيرا كان لأن صديقه الذي يحنو عليه ويساند أباه في منصب العمودية كان وزيرا من الوزراء الثابتين في الوزارات الوفدية.
ومن ناحية أخرى كانت الأغلبية الوفدية سببا قويا في تعصبه للوفد، فقد كان ينتوي أمرا ويخفيه في دخيلة قلبه، وإن لم يكن يخفي الوسيلة أو الوسائل التي تحقق له هذا الهدف الخبيء في بعيد نفسه.
صفحه نامشخص
وقد كان إخفاؤه لهذا الهدف عنصرا من عناصر سعيه الوثيق إلى تحقيق هذا الهدف.
كان مراد دياب طلبة ابن عمدة وحفيد عمدة، وكان هذا فخرا أي فخر لأسرتهم، وطالما تناقل أبناء وأحفاد العمدة القديم عبد الستار طلبة أن التليفون لم يغادر باحة دارهم منذ ستين عاما.
وكان مراد خليقا أن يكتفي بهذا الشرف ولكنه كان يزيد على أبيه وجده بأنه نال حظا من التعليم بعد دراسته في الكتاب حتى نال الابتدائية، وقضى بعض سنوات متعثرة في التعليم الثانوي حتى وصل متقطع الأنفاس إلى الثالثة الثانوية حين كان زملاؤه قد حصلوا على التوجيهية، ودخلوا الجامعة، بينما لم يتجاوز أبوه وجده الدراسة في الكتاب، تلك الدراسة التي مكنت لهما أن يجيدا القراءة والكتابة وحفظ نصيب لا بأس به من كتاب الله الكريم، وإن كانت الأيام أنستهما ما حفظا من القرآن لأن كليهما لم يحرص على ما حفظ بلزوم القرآن ومداومة قراءته.
على أية حال كان دياب طلبة والد مراد حريصا على أن يعلم ابنه ويصل به إلى التخرج في الجامعة، وإن يكن مراد قد خذله فما كان لهذا شأن كبير عند دياب، فحسبه أن له ولدا يرث عنه العمودية بعد أن كاد يصل إلى اليأس من إنعام الله عليه بولد.
فقد ظل بلا مولود أو مولودة خمس سنوات بعد زواجه من ابنة عمه بدوية عبد الموجود طلبة.
وكان مراد أول ما من الله به عليه، وتبعته بنتان أسمى الأولى نجاح، وربما كان هذا الاسم ينبض بما كان يراوده، من نجاح أخيها في الدراسة، وأسمى الأخرى فاطمة تيمنا بستنا فاطمة كريمة النبي عليه الصلاة والسلام.
كان في صحبة مراد في المدرسة نديم راشد، وكان أبوه من الشخصيات المرموقة في حزب الوفد، وكان ينتظر الوزراء في كل مرة يؤلف فيها الوفد الوزارة.
توطدت الصداقة بين مراد ونديم. ولما كان مراد يقيم عند عمه صالح طلبة الذي كان موظفا بوزارة الأشغال بالقاهرة، فقد كانت الرقابة عليه هينة لينة لا تعنت فيها ولا حزم؛ ولذلك كان يستطيع أن يقضي وقته جميعا في غير مواعيد الدراسة في منزل فكري بك راشد مع ابنه نديم. وكان كثيرا ما يتناول غداءه مع سعادة البك في يومي الاثنين والخميس اللذين كانت الدراسة فيهما لا تستغرق إلا نصف اليوم.
وعلى مائدة الغداء في يوم من أيام الاثنين كان الجميع يعلم أن الوفد يؤلف الوزارة في تلك الساعات. وكان فكري بك في حالة من الترقب الذي يجاهد أن يخفيه بكل ما يملك السياسي من خبرة واسعة في كبت مشاعره وزجرها أن تبين منها خلجة على وجهه بله في تصرفه.
كان جالسا إلى المائدة يتلطف كل التلطف مع مراد صديق ابنه، ويعده بهدية قيمة إذا هو نجح مع نديم في الامتحان.
صفحه نامشخص
وكان مراد سعيدا بهذا التلطف غاية السعادة، مضمرا أن يبلغ أباه بهذه المكانة التي بلغها عند هذا السياسي الكبير.
وفجأة رن جرس التليفون، وجاء الخادم يبلغ فكري بك أن معالي سكرتير الحزب يطلبه على التليفون، وهنا انكشف كل ما كان يكاتمه فكري من ترقب، وهب لا تكاد تسعفه قدماه إلى التليفون.
وتوقف كل من على المائدة من المأكل بل والمشرب.
وعاد سعادة فكري بك وهو معالي فكري بك وزيرا للدولة، وكأنما لم يجد أحدا يفرغ عليه سعادته إلا مراد، فإذا هو يصيح به: أنت فتى ميمون الطالع يا مراد طلبة، وستنال مني هدية عظيمة لأنني طوال فترة الغداء وأنا متفائل بك.
ومنذ ذلك اليوم أصبح مراد مقربا من فكري الذي أصبح باشا، وكان مراد سعيدا بمكانته هذه، وكان يحس أن الباشا يدلله ولا يرفض له طلبا، وعرف أهل الميمونة التي ينتمي إليها والتي يشغل أبوه فيها منصب العمدة هذا المكان الذي بلغه مراد في ساحة معالي فكري باشا، فكانوا كثيرا ما يلجئون إليه ليرجو لهم الباشا فيما يعرض لهم من مشاكل أو تعيينات أو ترقيات أو تنقلات. وكان الباشا يستجيب لرجائه، سواء كان خارج الوزارة أو داخلها.
فرجال هذا الزمان لم تكن الحزبية تقف بين بعضهم البعض أن تقوم بينهم الصداقات، وأن يلبي كل منهم ما يتشفع فيه واحد لدى الآخر مهما يكن أمر الخلاف الحزبي، إلا إذا كان المطلب يضر بالحزب الذي ينتمي إليه صاحب المنصب. وكان المشفع دائما ذكيا فلا يعرض نفسه لمطلب يمس حزب صديقه. فهو الآخر سياسي ويعلم كل العلم ما يجوز الرجاء فيه وما لا يجوز.
وهكذا لم يكن عجيبا أن ينشأ مراد طلبة وفديا متحمسا، ولم يكن بهذا يخالف ضميره، فهو لا يعرف عن حزب الوفد أو غيره من الأحزاب شيئا على الإطلاق حتى يثبت ضميره على شيء أو يخالفه لا شأن له بتاريخ أي حزب أو مبادئه، وفدا كان هذا الحزب أو كان حزبا آخر.
كل ما كان يعنيه أن فكري باشا راشد واحد من وزراء الحزب الوفدي فهو إذن وفدي.
2
كان مراد في العشرين من عمره حين رأى أبوه أن من الخير له ولابنه وللزراعة وللعمودية أن يمكث مراد بالميمونة، ولا داعي لإكمال الدراسة فهو على كل حال سواء نال الشهادة الجامعية أو لم ينلها، كان أمله كله أن يصبح مراد عمدة بعده، وأن يشرف على المائتي فدان اللتين يملكهما.
صفحه نامشخص
وهكذا استقر مراد بالقرية، وكان زميله نديم قد أصبح في السنة الثانية من كلية الحقوق بجامعة فؤاد، ولكن هذا الفارق في الدراسة لم يقطع ما بين الصديقين من رابطة وثيقة، ولم يؤثر في شيء على رعاية فكري باشا لمراد.
حتى لقد طلب الباشا من مراد أن يدعو أباه للغداء معه. فرجال السياسة ثروتهم تتكون من الناس قبل المال.
ورحب الحاج دياب بهذه الدعوة، مع صداقته لعمر المفتي عضو النواب الحر الدستوري عن الدائرة، ولكن معرفة فكري باشا أعظم نفعا.
وهكذا عرف مراد معالي فكري باشا، بل إنه لم يكتف بهذا، بل دعاه إلى الغداء بالميمونة مركز الزقازيق، وقبل الباشا الدعوة.
وحين لباها وجد العمدة قد أقام على شرف الباشا حفلا حافلا، فالمظاهرات تستقبل الباشا قبل ظاهر القرية بعديد من الكيلومترات، والقرى المجاورة تجامل العمدة والباشا جميعا بالتجمهر أمام قريتهم والهتاف لمعالي الباشا.
وكان دياب من العمد الأذكياء فدعا عمد البلاد التي يمر عليها الباشا أولا ليظهر أمامهم أنه يستطيع أن يدعو الباشاوات إلى بيته، ولأنه يعلم كل العلم أن الباشا يحب أن يتعرف إلى هؤلاء العمد ليكونوا أو يكون كثير منهم - على الأقل - من أنصار الحزب عند الانتخابات.
وطبعا انطلقت الأعيرة النارية إلى عنان السماء فما كان العمد جميعا سواء الداعي أو المدعوون ينظرون إلى السماء في هذه الساعات، بل كانت نظراتهم وآمالهم جميعا أرضية مغرقة في الأرضية.
وبعد الغداء أعلن الحاج دياب أنه منذ اليوم وفدي متحمس، ولن يترك الوفد مهما تكن الضغوط عليه، ولم يكن عجيبا أن يقول زميله عمدة النمايرة أنه أيضا يعلن انضمامه إلى الوفد، وكان الحاج دهشان النمر عمدة النمايرة من كبار العمد ومن كبار الأعيان أيضا، وكانت بلدته أكبر البلاد عددا في المنطقة.
وهكذا لم يكن عجيبا أيضا أن يعلن جميع العمد انضمامهم إلى الوفد. ومهما يكن شأن هذه المظاهرة فكل هؤلاء العمد كانوا على أتم استعداد للانضمام للأحزاب الأخرى حين تتولى الحكم، ولكن لا بأس بالمجاملة ما دامت لن تصيبهم في مناصبهم أو أموالهم أي إصابة مهما تكن هينة، بل هي إلى النفع أقرب، وكان كل منهم يعرف عن نفسه وعن الآخرين أنهم على أتم الاستعداد للانضمام للأحرار الدستوريين أو السعديين إذا كانوا في حضرة أي وزير من أي من الحزبين.
ولم يكن فكري باشا يغبى هذا، بل كان يعرفه كل المعرفة فهو سياسي مخضرم.
صفحه نامشخص
وبممارسته الحزبية ومرانه السياسي تظاهر بأنه صدق كل الذين انضموا إلى حزبه، وأظهر الفرح الشديد بهذا الكسب الحزبي الكبير، والله يعلم بل أحسب أن جميع الحاضرين بلا استثناء كانوا يعلمون ويعملون دستور النفاق هذا الذي يسود الانضمام والقبول في وقت معا.
وربما كان هذا اليوم هو ميلاد أو تمكن الخاطر الذي يهفو له مراد.
وما البأس وها هو ذا في سنه هذه الباكرة يتمكن من إقامة هذا الاستقبال الضخم للوزير الوفدي، الأمر الذي يعجز عنه كثير من عتاولة العمد وعتاتهم.
وما البأس عليه أن يتوق إلى هذا الذي يأمله لنفسه، وما البأس عليه أن يذكر البيت القديم:
منى إن تكن حقا أعذب المنى
وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
3
قال الحاج دياب لولده مراد: لقد قاربت السن التي ينبغي فيها أن تعين عمدة، وأنا أريد أن أراك عمدة على حياة عيني. - أطال الله عمرك يا أباه وأعطاك الصحة والعافية. - فليطل عمري ما شاء الله أن يطول وأنت عمدة. - أنا لم أعص لك أمرا في حياتي. ولكن لي رأيا آخر. - نهارك أسود، رأيا آخر فيهم. - لا تخف. سيرضيك هذا الرأي ولكن أوانه لم يأت بعد. - ما هو؟ - سوف أقوله لك في الوقت المناسب. - وما المانع أن تقوله الآن. - من ناحية المانع لا مانع، ولكن لكل كلام حينه. - ما هذه الفلسفة لماذا لا تقول ما تفكر فيه؟ - لو قلته الآن سيبوخ لك على أن نفرح أنا وأنت فرحا لا مثيل له. - افرح كما شئت، ولكن لا ترفض العمودية. - يا أبي أنا تحت أمرك، ولك أن تتأكد أني لن أخرج عن طاعتك طول عمري، والله على ما أقول شهيد. - إذن فافعل ما تحب، ولا تنس أن التليفون لم ينتقل من دوار آل طلبة منذ قرابة سبعين عاما. - ولن ينتقل، لا تخف، التليفون قاعد في مكانه.
وضحك الأب والابن معا وقال مراد: أنا تحت أمرك.
وقال الحاج دياب وهو يبتسم: ومن وجاهة العمودية أن تكون رب أسرة.
صفحه نامشخص
وتولى مراد شيء من الدهشة فهو لم يكن يتوقع أن يحيد الحديث إلى هذا الأمر، ولكنه سرعان ما تمالك نفسه. - أما أن أتزوج فهذا أمر محترم، ولكن هل ترى اخترت لي الزوجة أيضا؟ - معاذ الله بل أنت الذي تختار.
وقال مراد وفي نفسه ما فيها من آمال عراض: فاترك لي بعض الوقت، وسوف أرضيك إن شاء الله. •••
كان مدني طلبة ابن عم مراد من أقرب أسرته إليه، وكان يخالصه بدخيلة نفسه لا يخفي عنه شيئا إلا هذا الأمل الذي يداريه في البعيد القريب من أعماقه.
قال له: مدني! إذا طلبت منك أن تخطب لي فمن تراك تختار؟ - أنت يا بني تعلمت في مصر، ولا بد أنك تريد من تحب حتى تتزوج. - دعك من حكاية الحب هذه. - معناها أنك لم تحب في مصر. - وهبني أحببت. - لعلك تصبو إلى هذه المحبوبة. - هيهات! - هذه قصة لم تحكها لي. - لم تأت مناسبة. - وها هي ذي قد جاءت. - أحكي لك. - احك. - كنت مقيما - كما تعلم - مع عمنا صالح. - بالمنيرة، أعرف ذلك. - ولم يكن البيت بعيدا عن مدرسة الخديو إسماعيل. - لا جديد في هذا. - أمام المدرسة مباشرة عمارة جديدة كنا مبهورين بها، وكان يسكن فيها واحد من زملائنا اسمه وافي الإمبابي. وكان تلميذا عظيما في الفصل لا يترك المذاكرة ليلا ولا نهارا، فقلت في نفسي أمد خيوط الصداقة بيننا لعلي أذاكر وأنجح بدلا من هذه الخيبة الثقيلة التي أعانيها.
لم أكذب خبرا توددت إلى الولد، وكان لطيف المعشر رضي الخلق، وقلت له ألا تعمل في معروفا وتجعلني أذاكر معك؟ فقال وهو يمزح: لن تستطيع معي صبرا، قلت: أنا أتصور أن أكون في مثل تقدمك، وكل ما أريده هو أن أنجح ولا أقضي في كل سنة سنتين أو ثلاثا. قال: وتسمع الكلام؟ قلت: وأسمع الكلام، لا أطيل عليك، قامت بيني وبين وافي صداقة، وكنت أفرغ من المدرسة فيصحبني إلى بيته، وقد اشترط علي واحدة من اثنتين: إما ألا أزيد بقائي عنده عن ساعة يشرح لي فيها كل ما أطلبه، وإما أن أبقى معه أذاكر حتى التاسعة مساء بلا توقف. تصور أنت أنني أذاكر من الرابعة إلى التاسعة، ملعون أبو النجاح إن لم يتحقق إلا بهذا. قلت له: لا يا عم أنا تكفيني الساعة وتفيض.
في ثاني أو ثالث يوم ذهبت إليه، ودخلت الحجرة فتاة طالما رأيتها خارجة من باب العمارة، وطالما أعجبت بها، ولم أكن أعرف أن لها بوافي أي صلة. وأذكر أنني تجرأت مرة وقلت لها: صباح الخير. فلم تلتفت إلي وذهبت إلى طريقها وكأنها ما سمعت شيئا.
فحين دخلت إلى الحجرة التي أجلس فيها أنا ووافي خيل إلي أن قلبي سيقف من المفاجأة، فالبنت حلوة يا ولد يا مدني حلاوة تفوق الوصف. - كيف؟ - ماذا تعني بكيف؟ - يعني ما شكلها؟ - حلوة. - يا أخي ماذا وراءنا، صفها وأطل في وصفها. - عينان سوداوان واسعتان ذوات رموش تشرئب إلى أعلى في انثناءة مقوسة رائعة الحلاوة موضوعتان داخل خدين ناعمين أنعم من الحرير. - وكيف عرفت؟ لامست خدها؟ - ليس في أول يوم على أي حال. بالنظر هل لا بد أن تمسك الحرير لكي تعرفه. - نهايته أكمل. - قوام ممشوق كل شيء فيه مرسوم بدقة، شغل رب قادر، وهي إلى النحافة أقرب، ولكن ذلك لم يمنع الأماكن التي يجمل بها أن تكون عظيمة من أن تكون عظيمة في كبرياء يا ولد يا مدني، وفي إشارات تأمر بالإعجاب ولا ترضى به بديلا أنا رأيتها داخلة. - وقلبك كان سيقف، قلت هذا من قبل. - وركبني ذهول وقبل أن أفيق قال لها وافي: تعالي يا هند هذا زميلنا مراد، وفجأة تذكرت محاولتي أن ألقي عليها تحية الصباح، وركبني الرعب أن تذكر شيئا عنها لأخيها، ولكنها قالت في صوت ناعم مخملي كما يقولون وفي غير كلفة: أهلا. وفي خبث لم تشأ أن تفوت الفرصة دون أن تغمزني في تجرئي على إلقاء تحية الصباح. فقالت كثيرا ما رأيته وهو ذاهب إلى المدرسة يظهر أن عمارتنا في طريقه. والخبيثة تعلم أنني لو شئت أن أذهب إلى المدرسة مباشرة لذهبت دون أن أمر بباب العمارة. فقد كان طريقي من شارع الملك الناصر، والقاصد إلى مدرستي لا يحتاج أن يمر بالعمارة ولكنني كنت أتحرى أن أقف لحظات أمام العمارة لعلها تخرج. - يعني كنت تعرف جمالها. - لم أكن تحققت منه كما فعلت وهي تسلم علي ويدها في يدي وتقول أهلا. كنت أعرف أنها جميلة، ولكن تفاصيل هذا الجمال لم تتضح في إبهار كما اتضحت وهي معنا في الغرفة. قالت لأخيها: أنت مشغول؟ أجيء لك في وقت آخر، فقال لها: هل هناك شيء؟ قالت: مسألة حساب كنت أريد أن أسألك فيها. قلت أقسم بالله العظيم ثلاثا إن لم تحل لها المسألة لمشيت من فوري لا ساعة ولا عشر، فضحكت ملء قلبها، وسألت عن حكاية الساعة هذه، فأخبرتها وأكملت: وأنا يا آنسة هند لست أتحمل المذاكرة أكثر من ساعة في اليوم الذي أكون فيه مجدا كل الجد، وهيهات لي أن أكون كفء أستاذنا وافي. - طبعا كنت تريدها أن تحل المسألة لتبقى أطول فترة ممكنة. - عجيبة وفهمتها وحدك! فلماذا يقولون عنك غبي؟ - أنت قليلة الأدب. أكمل. - حل المسألة وأنا لا أفهم مما يقول شيئا، فأنا عنه وعن المسألة في شغل شاغل بالمسألة الإلهية الكبرى التي أبدع الله خلقها. قل عرفتها. وأصبح من الطبيعي أن أنتظرها في اليوم التالي، وأصبح من الطبيعي أن أقول: صباح الخير، فتقول: صباح الخير. يوم والثاني والعاشر تجرأت وقلت لها: وبعد؟ قالت: وبعد في ماذا؟ في صباح الخير. وصباح الخير أليس لها آخر؟ قالت: ماذا تقصد؟ قلت: أنت تعرفين ما أقصد، قالت: بل لا أعرف شيئا. قلت لا بد من التصريح، قالت: بماذا؟ بأنني معجب غاية الإعجاب إما أن ألقاك أو فقاطعيني أو ماذا؟ تنتحر مثلا، قلت: الحقيقة أنني لن أنتحر فبصراحة ليس عندي هذه الشجاعة، ولكنني لا أدري ماذا سأفعل، وكلمة مني وكلمة منها تواعدنا على اللقاء. وواجهت في هذا اللقاء يا مدني يا أخي أكبر حب عرفته أو سأعرفه في حياتي. - إلى أي مدى كان هذا الحب؟ - على مهلك. ماذا تتصور؟ أتظنها عاهرة من الطريق؟ إنها فتاة بنت ناس وأبوها تاجر كبير. - يعني إلى أي حد وصل الحب؟ - قبلة. - فقط. - ولم أكن أتصور أنني سأنالها في حياتي لولا أن هند أحبتني يا مدني، أحبتني فعلا ووثقت بي وثوقا كاملا. - متى كان هذا؟ - قبل أن أترك المدرسة بسنتين. - يعني كنت في الثامنة عشرة. - تقريبا. - فلماذا لم تطلب من أبيك أن يزوجك بها؟ لقد كان وأنت في هذه السن واثقا أنك إن شاء الله لن تفلح في الدراسة. - قلت أنتظر سنة أخرى أكون اقتربت من العشرين. - فلنفرض. - في هذه السنة حدث الخراب الكامل. - لمن؟ - لأبيها. - ماذا حدث؟ - أفلس الأب إفلاسا كاملا. - وما لنا نحن؟ - كيف. - ألا تحبها؟ - أحبها جميعا بجمالها وبمال أبيها. - تقصد أنك كنت تنظر إلى غنى أبيها؟ - لا شك أنه كان شيئا مهما. - وماذا فعلت؟ - ليس أنا الذي فعل. ربك هو الذي فعل، ترك وافي مدرسة الخديو إسماعيل؛ لأن أباه لم يكن يستطيع أن يدفع إيجار الشقة المرتفع وأصبحت لا أرى هندا. - ألم تبحث عنها؟ - عرفت أنهم سكنوا في الحلمية. - ولم تذهب؟ - ولماذا أذهب؟! - لا، لك حق، ولماذا تذهب؟ - المهم هل تعرف لي عروسا؟ - الآن أستطيع أن أقول لك: نعم أعرف. - هل أنت واثق؟ - عرفت من العروس التي تريدها، ولكن قل لي لماذا؟ - أي لماذا؟ - إنك عندك من المال ما يكفيك ويفيض. - يكفيني لأن أكون ماذا؟ - عمدة. - أنت العمدة. - ماذا تقول؟ - كلام ابن عم حديث. - طبعا. وهل يمكن أن يكون العمدة أحدا آخر غيرك؟ - نرجع لموضوعنا. ماذا تعرف عن العروس التي أريدها؟ - أن تكون ذات مال. - طبعا، وماذا أيضا؟ - هذا الذي فهمته وأكذب لو ادعيت أنني فهمت معه شيئا آخر؟ - دعني أرحك من البحث. - أرحني أراحك الله. - عليك أن تتعرف لي من البلاد التي حولنا البنات اللاتي تصلحن زوجات لي. - أتريد بحجة الزواج أن ترى بنات المنطقة كلها؟ - اعمل ما أقوله لك وسترى أنك مغفل في استنتاجاتك. - ألا يمكن أن تتكلم من غير قلة أدب ؟ - ماذا أعمل لك ما دمت تريد أن تعمل نفسك ذكيا وأنت خائب؟ - حفظت. - أنت بالذات تعرف الناحية كلها، فأنت إلى جانب أرضك تعمل في تجارة القطن على خفيف، ولكن لا شيء يجعل الواحد يعرف الناس في البلاد مثل هذه التجارة. - والله إنك ناصح، فلماذا إذن لم تفلح في المدارس؟ - المدارس شيء، والدنيا شيء آخر. - كل الخائبين يقولون هذا القول. - لعنة الله عليك، لا تغير الحديث. - يا سيدي علم. - علم؟! - علم وينفذ.
4
طلب الحاج دياب زميله الحاج دهشان عمدة النمايرة في التليفون المباشر، لا في تليفون العمودية. - يا صباح الخير. - يا أهلا حاج دياب، مشتاق لك. - من بعض ما عندنا. - أتأتي إلي أم آتي أنا إليك؟ - غداؤنا عندك اليوم. - يا مرحب. - أنا والعائلة جميعا. - أي سعادة وهناء؟ ••• - أنا اليوم يا حاج دهشان أسعد إنسان في العالم. - إذا فأنا أيضا أسعد الناس، فسعادتك سعادتي. - قل لي لماذا؟ - ولماذا أسأل وأنت ستقول فحديثك عن سعادتك تمهيد لحديث آخر قادم في السكة. - طول عمرك لا تفوتك الفائتة، أنا طلبت الغداء عندك لسبب. - انطق. - أريد نازلي ابنتك الوحيدة لابني الوحيد. - لمراد؟ - وهل عندي ولد آخر؟ - وأين رآها؟
وهنا نطق مراد: وهل لا بد أن أراها يا عم الحاج؟ - هذا سلوككم يا أبناء المدارس. - يكفيني إنها ابنتك. - قال النبي
صفحه نامشخص
صلى الله عليه وسلم : «انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما.»
وقال الحاج دياب: ألم تجهز لنا الغداء؟ - لقمة على ما قسم. - ستراه ويراها، ويؤدم بينهما. •••
لم تكن جميلة ولكنها كانت صبيحة الوجه ودودا هادئة الحديث والتصرف تحسن استقبال الضيف. وقد كان مراد ينوي خطبتها على أية حال وإن كانت عجوزا شوهاء شمطاء رديئة الخلق والخلقة، فقد كان - كما قال - يريد أباها الحاج دهشان، فهو رجل ذو ثراء كما تعلم ليس له من البنين ولا البنات إلا نازلي، ثم هو صاحب شفاعة عند الكبار من المديرية كلها. بل ومن غيرها أيضا.
ولم يخل الأمر على الغداء من ابتسامة يسفر بها مراد لنازلي إجابتها ابتسامة منها.
قال الحاج وهم يتناولون قهوة ما بعد الغداء: نقرأ الفاتحة.
ونظر الحاج دهشان إلى مراد: سأكون لك ابنا صالحا إن شاء الله يا عم الحاج.
وقال الحاج دهشان: أنا ليس لي في الدنيا إلا هي، وقد بعت لها أرضي كلها بعقد مسجل، ولا أمل لي إلا أن تكون سعيدة.
وقال مراد: أظنني في غير حاجة أن أقدم لك نفسي، فأنت مني كأبي وتعرف عني كل شيء. - ما عدا أنك لا تحب العلم.
وهنا قال الحاج دياب: شغلتنا يا حاج دهشان لا تحتاج إلى علم.
وقال الحاج دهشان: ولكن نازلي أخذت الابتدائية وترطن وكأنها بنت من بنات فرنسا.
صفحه نامشخص
وهنا سأل مراد: أكانت بمدرسة الراهبات بالزقازيق؟
وقال الحاج دهشان: طبعا.
وقال مراد: ربنا يستر.
وقال دهشان: مالك؟
وقال مراد: أصل أنا في مسألة اللغات هذه يدك والأرض.
وضحك ثلاثتهم، وقال الحاج دياب: وما له! هي تعلمك.
وقال مراد: إن شاء الله.
وقال الحاج دياب: امدد يدك يا حاج دهشان.
وقال الحاج دهشان: على بركة الله.
ولكن مراد سأل في شبه خجل ليس طبعا فيه: أسألتها يا عم الحاج. ربما تكون غير راضية عني.
صفحه نامشخص
ولولا ابتسامة المائدة ما سأل مراد هذا السؤال.
وقال الحاج دهشان: أوكنت أقول على بركة الله إن لم أكن سألتها؟ إنها بنتي الوحيدة، وغدا تعرف إلى أي مدى يحب الآباء أبناءهم، فهذا شيء لا يعرفه الأبناء إلا حين يصبحون آباء.
وأنهى الحاج دياب الحديث: امدد يدك يا حاج دهشان. - على بركة الله إن شاء الله.
ومد يده وقرأ ثلاثتهم الفاتحة.
5
تم الزواج، وانتقلت نازلي إلى دار الحاج دياب ريثما يتم المنزل الذي رسمه مهندس حسن الذوق ليقيم فيه مراد وزوجه، وكانت الحاجة بدوية أم مراد سيدة رضية الخلق، وقد فرحت بزواج ابنها الأوحد فرحا لا يدانيه فرح، ورحبت بنازلي غاية الترحاب، وخصصت للعروسين جناحا في الدور الأعلى من المنزل، وأصرت قبل الزواج أن يلحق بالجناح حمام خاص بالعروسين، ولم يجد المهندس الذي رسم بيت مراد مشقة أن يقلب غرفة مجاورة للجناح إلى حمام للعروسين.
ومع ذلك فإن الحاج لم ينجح في جعل مراد وزوجته مستقلين عن البيت الكبير، أو السراية كما يسمي أهل الميمونة بيت العمدة. وربما كان اتساعه وأنه مبني بالطوب الأحمر سببا في هذا اللقب الذي أضفاه أهل البلدة على منزلة العمدة.
كان مأكل العروسين وشربهما وسائر ما يشغل أهل البيت متوحدا لا انفصال فيه بين العروسين والحاجة بدوية أو الحاج دياب.
وأصرت نازلي أن تقوم هي نفسها بعمل القهوة لحميها وحماتها كلما طاب لهما أن يتناولا القهوة. وكانت نازلي صناعا في شئون المطبخ، فكثيرا ما كانت تتحف الأسرة بطعام تختاره هي لهم وتتقن صنعه.
وهكذا ازداد حب بدوية لنازلي وبخاصة أنها وجدت نازلي لا تحاول أن تبدو وكأنها ست البيت. بل كانت ترجع في صغير الأمور قبل كبيرها إلى نينا بدوية كما كانت تدعوها.
صفحه نامشخص
وما هو إلا شهر وبعض شهر حتى انطلقت الزغاريد في بيت العمدة إعلانا عن الحمل الذي ظهرت بوادره على نازلي، والذي أكده الطبيب المختص في البندر.
كان طبيعيا أن يشمل الفرح الأسرة جميعا، ولم ينس الحاج دياب أو الحاجة بدوية منذ عرفا هذا النبأ العظيم أن يدعوا بعد كل صلاة أن تقوم نازلي بالسلامة وأن تهب لهما غلاما.
وتمر الأيام والشهور ويأتي الغلام، ويصبح اسمه دياب مراد دياب طلبة.
ولا تمر على ولادة الطفل أيام حتى يصبح بيت العروسين الجديد مستعدا لاستقبال الأسرة الجديدة.
ربما كان فرح الحاج دياب أعظم من الجميع، فقد ضمن لاسمه البقاء من بعده وبعد ابنه. فالجد يلد حفيده مرتين كما يقول أمير الشعراء.
وفي ذكاء شديد وفطرة مواتية ينتهز مراد الفرصة من سعادة أبيه الغامرة ويقول له: ما رأيك يا ابا في الانتخابات الجائية؟ - أي انتخابات؟ هل هناك انتخابات؟ - لا بد أن تأتي انتخابات. - طبعا ولكن متى؟ - على الأقل حين تنتهي الدورة. - يا من يعيش! - ربنا يطيل عمرك الأمر ليس بعيدا سنة والأخرى ويبدأ الاستعداد للبرلمان الجديد. - ولد يا مراد. - نعم يا ابا. - قل ما تريد ولا تلف على أبيك؟ - أنا لا ألف ولا أدور، ألم تنضم للوفد وتصبح عضوا فيه؟ - انضممت وأصبحت عضوا فيه. - أولم تصبح صديقا لفكري باشا راشد؟ - افرض. - أنا لا أفرض أنا أعرف مكانك عنده وصلتي أنا بابنه نديم، والباشا يستقبلني بكل ترحاب كلما زرتهم. - هل عرف أنك أصبحت أبا؟ - لا أظن ولكنك تذكر أننا دعوناه إلى الفرح وجاء ومعه ابنه نديم وسجادة غالية الثمن. - حصل. - آبا. - هيه. - لماذا لا ترشح نفسك في الانتخابات الجائية؟
وبهت الحاج دياب لحظات ثم أفاق في بطء شديد ليجد نفسه قائلا لابنه: أجننت؟!
وابتسم مراد أنه أثار انبهار أبيه: أترى أنني جننت؟ - والعمودية؟! - أي عمودية يا ابا؟ أنا أكلمك لتكون عضو مجلس نواب تقول لي عمودية «أي عمودية» يا أباه؟! - أفوتها؟! - وهي أين ستروح! إنها باقية في العائلة. - أنت تريد أن تصبح عمدة بسرعة. - أنا؟ لا يمكن، أولا أنا لم أبلغ السن، ومسألة العمودية بعيدة عن ذهني تماما ولا أفكر فيها. - كيف؟! - يا ابا أريد أن تكون عضو نواب، والعمودية لها حديث آخر. - فاجأتني يا ولد يا مراد. - وفيم المفاجأة؟ - لم أكن أفكر في هذا عمري كله. - غلطان.
وصمت الحاج دياب وشرد ذهنه وأمعن في التفكير، ثم ما لبثت ابتسامة متفاخرة أن علت شفتيه: والله يا ولد ربما كنت على حق يمكن أنا غلطان فعلا ولماذا لا؟
وصاح مراد: يعيش حضرة النائب. - هس لا يسمعنا أحد. - لك حق، اسمع إذن يا ابا. - هيه. - لعضوية النواب ترتيبات مهمة. - فعلا، أتعرفها؟ - يا ابا أنا ليس لي أمل في حياتي منذ أدركت الحياة إلا أن أراك نائبا.
صفحه نامشخص
وهكذا راوغ مراد أباه عن دخلية نفسه وعن الأمل الذي طالما أخفاه لقد كان يريد أن يكون هو نائبا، وليس يعنيه أن يكون أبوه أو لا يكون، ولقد دبر فيما دبر أنه ما دامت سنه لا تسعفه لنيل هذا المنصب فلماذا لا يسبقه فيه أبوه.
ويخلف هو أباه وتكون الطريق قد مهدت، ويكون قد لف الدائرة وعرف من لم يكن يعرف، وعرفه من لم يكن سمع عنه.
وما كان اختياره نازلي فيمن عرضه عليه مدني إلا لأن أباها عمدة لأكبر بلد في الدايرة إلى جانب ثرائه، وهكذا وجد في نازلي كل الذي يحقق ما تهفو له نفسه، ويدني له من الأمل المتشبث به تشبث الإنسان بالحياة.
قال أبوه: ومن أين نبدأ؟ - وهل المسألة عايزة تفكير؟ - كيف؟ - نبدأ بالباشا. - أي والله صحيح نبدأ بالباشا.
6
قال مراد للباشا: أتكلم أنا أم يتكلم أبي؟ - وهل هذا السؤال ما دام أبوك موجودا فالكلام يكون له. - طبعا الأمر كما تقول معاليك، ولكن أريد أنا أن أتكلم.
وضحك الباشا وقال: والله كبرت يا مراد وأصبحت تلف وتدور على سياسي محترف. - أولا معاليك لم تهنئني. - ألم أحضر فرحك؟ - وهدية معاليك تتصدر المديرية كلها لا بيتنا فقط. - إذن فيم أهنئك؟ - بالحاج دياب الصغير.
وأراد الباشا أن يبدو مسرورا كل السرور وهو يقول: كذا! أنت لحقت! ألف مبروك، وقبل أن نتكلم افتح يدك. وأخرج محفظة والتقط منها ورقة كبيرة واستطرد قائلا: نقطة المولود يا أبا دياب.
وأعطاه ورقة بمائة جنيه وقال الحاج دياب: كثير يا معالي الباشا هذا كثير!
وقال مراد: لا يا ابا أنا عند الباشا مثل نديم بك، وأنا أعرف ذلك، ربنا يطيل عمرك يا معالي الباشا ويكرمك.
صفحه نامشخص
وقال الباشا: المهم، ماذا كنت تريد أن تقول؟ - مرة واحدة كده نريد أن نرشح أبي لمجلس النواب عن دايرتنا ... - العضو الآن عمر المفتي. ونحن نرشح في هذه الدائرة ...
وقاطعه مراد: كامل الزيني.
وقال الباشا: عمر المفتي قوي.
وقال مراد: ليس هو القوي، ولكن كامل الزيني هو الضعيف ولا يخدم الدائرة مطلقا، إذا كان يعمل محاميا، ويسلخ أهل الدايرة في الأتعاب إلى جانب أنه ...
وقاطعه الباشا قائلا: بخيل، أعرف ذلك وبيته مقفل دائما.
وصاح مراد: يعيش معالي الباشا.
وقال الباشا في تؤدة وفي تفكير: والله يا ولد يا مراد، المسألة فيها كلام.
وقال مراد: قل معاليك نعم، وهي لا يصبح فيها كلام.
وقال الباشا: المسألة ليست بهذه السهولة، كامل عضو قديم والأمر ليس بيدي وحدي ، بل لا بد من الرجوع إلى الرئيس والسكرتير العام وأعضاء مجلس الإدارة في الحزب، الأمر ليس سهلا كما تتصور، وبخاصة أن لكامل أصدقاء كثيرين في الحزب.
وقال مراد: وماذا يهم أن يكون العضو قديما أو جديدا إذا كان لا ينجح؟ - المسألة ليست كما تتصور. - البركة فيك. - ليست حكاية بركة. - أنت تذلل كل العقبات. - بل أنت يا حاج دياب الذي يمكنك أن تساعدني.
صفحه نامشخص
وكان الحاج دياب تائها طوال هذا الحوار وكأنما أفاق فجأة بنداء الباشا له صائحا: أفندم. - ألست معنا؟ - بل معك تماما يا معالي الباشا، أنتظر أمرك.
ونظر الباشا إلى الحاج دياب وابنه، وصمت لحظات طويلة ثم قال: ألم تكن عضوا في حزب قبل ذلك يا حاج دياب؟ - أول مرة يا معالي الباشا. النائب الذي أعرفه عمر بك المفتي رجل طيب، وتعودنا أن نعطيه أصواتنا، فالمعرفة بيننا معرفة جدود. وأنا لا أشتغل بالسياسة إلا وقت الانتخابات.
وأعاد إليهما الباشا نظرة ثاقبة ثم قال لمراد: قل لي يا فصيح أنت يا من أسكت أباك وتكلمت. ألم تأت عندنا في الحزب ولو مرة. - كيف؟ إنني ذهبت لمعاليك هناك أكثر من مرة، سواء وحدي أو مع نديم ...
وصمت لحظة ثم قال مستدركا: مع نديم بك.
وقال الباشا: أليس هذا الحزب يحتاج إلى ميزانية ضخمة؟
وهنا صاح الحاج دياب: أفندم. - أم ماذا تظن؟ - أنا يا باشا تحت أمرك، ولكن ميزانية لماذا؟ - يا إلهي! لماذا، ألا تعرف يا حاج دياب؟ أبسط شيء الإنفاق على الانتخابات. وإصدار الصحف، وهذا وحده يحتاج إلى مئات الألوف. - أي والله معقول. إنما قل لي يا معالي الباشا، أينفق الحزب على الانتخابات؟ - طبعا، مثلا لنا أعضاء أقوياء في دوائرهم؟ ولكن ضعفاء في حالتهم المالية.
وهنا قال مراد: ما داموا ليسوا قادرين على الانتخابات فليتركوها للقادرين.
وضحك الباشا: على مهلك يا أستاذ، الموضوع ليس بهذه البساطة، فهؤلاء إن لم يساعدهم الحزب تركوه وأصبحوا ضده، وليس بعيدا أن يرشحوا أنفسهم بأموال حزب آخر، إلى جانب أنهم سيؤثرون في دوائر أخرى بشخصياتهم.
وقال مراد وكأنما رد إلى عقله: والله معقول يا معالي الباشا. - إلى جانب مصاريف أخرى حزبية سرية لا يعرفها إلا رئيس الحزب والسكرتير العام، وهذه طبعا لا تذكر.
وهنا قال مراد مذهولا: مثل ماذا يا معالي الباشا؟ - مثل الأموال التي نعطيها لمن ينقل لنا أخبار الأحزاب، ولاحظ أنني أفشيت لك سرا من أسرار الحزب.
صفحه نامشخص
وصاح مراد: يا خبر أسود. - لا أسود ولا أبيض هذه سياسة، والأحزاب الأخرى تعمل مثلنا. وهناك المصاريف الإدارية في الحزب مثلا.
وهنا أراد دياب أن يعرف رأسه من رجليه وسأل الباشا في حسم: كامل الزيني يدفع للحزب كم جنيها يا معالي الباشا؟ - المبالغ لا أعرفها، ولكنه يدفع مع الاشتراك مبلغا محترما فيما أعتقد. - أنا يا باشا أدفع ضعفي ما يدفع.
وتجلت الفرحة على وجه مراد، وقال في شجاعة: نحن سننجح يا باشا، وكامل لم ينجح مرة واحدة في حياته، ما رأي معاليك؟ - توكلنا على الله، على فكرة أنتما مدعوان لفرح نديم يوم الخميس القادم.
وصاح مراد: وهو ما زال في الكلية. - ابنة عمه وواضح أنهما متفقان، فقلت بدلا من أن تشغله عن المذاكرة يتزوجها.
وقال مراد: على بركة الله يا معالي الباشا ولو أنني أرجو أن تبلغ نديم أني عاتب عليه. - لماذا؟ - أنا أقرب صديق له وأعرف الخبر من معاليك. - إنه لم يبح لأحد مطلقا. لا بد أن تحضر الفرح.
ولم ينس الحاج دهشان أن يرسل إلى الباشا عشرة خراف نقوطا لتذبح في الفرح.
7
حين خلا مراد إلى أبيه قال الحاج دياب: استرحت؟ - كيف؟ - ألم يعد الباشا؟ - أتظن أن الحكاية انتهت هكذا؟ - على الأقل مؤقتا إلى أن تأتي الانتخابات. - يا ابا الحكاية أكبر بكثير مما تظن. - يعني يا ولد أنت ناوي تعلمني الانتخابات، وأنا فيها منذ بدعوا الانتخابات في البلد؟! - أنت فيها بأن تعطي صوتك، وهذه أول مرة ترشح فيها. - أتريدني أن أعلن ترشيحي من الآن وأصبح مضحكة. - لا يا ابا، لا إعلان ولا يحزنون. - فماذا تريدنا أن نعمل؟ - نعمل. - ماذا نعمل؟! - أصحابك في البلاد تزورهم. - هكذا من غير مناسبة. - زيارات ودية، أما المناسبات سواء كانت مآتم أم أفراحا فلا تفوتنك منها واحدة. وتدفع في الأفراح نقطة كبيرة، وإذا كان صاحب المأتم رقيق الحال. نغمزه بكم جنيه ليواجه أعباء الوفاة. - من الآن يا ابني؟ - بل من الأمس يا ابا.
وأعجبت الإجابة الحاج دياب فراح يقهقه ملء فمه، ثم قطع الضحكة وهو يقول: ولكن الأمر سيكلفنا كثيرا يا ولد. - ليس هناك مال يساوي أن تصبح عضو مجلس نواب.
ولم يستطع أن يكتم آماله فإذا هو يقول في تسرع الشباب: والذي سننفقه اليوم جنيها سنجمعه غدا عشرة.
صفحه نامشخص
ووجم الحاج دياب وهو يسأل في شبه استنكار: كيف؟
وتنبه مراد إلى تعجله وأراد أن يصلح ما أوشك أن يفسد. - مصالحنا في المديرية بل في الدولة كلها، هل يستطيع أحد أن يقف ضدنا، وغير هذا كثير مما ستعرفه حين تصبح عضو نواب يا ابا.
وأطرق الحاج دياب قليلا: طيب والعمودية؟ - مالها؟ - من يتولاها؟ أنت لم تصل إلى السن القانونية. - عضو النواب يعين من يريد. - وتخرج من دار طلبة؟ - بل تبقى. - هل تقترح أحدا؟ - عندي ألف، فقط توكل أنت على الله. - توكلنا على الله. •••
وبدأ الحاج دياب يعمل بنصائح مراد الذي كان يعد للأمر منذ زمن بعيد، وقد بدأ حملته بإقامة دعوة غداء واسعة كل السعة بمناسبة ميلاد دياب الصغير، وانتقال مراد وأسرته إلى بيتهم الجديد.
ولم يقصر مراد ودياب دعوتهما على العمد، بل دعوا كل ذي مكانة أو أكرومة في بلده.
ولم يخل الأمر من إلقاء الشيخ سليم الديب المدرس الإلزامي بالميمونة قصيدة شعر مهما تكن هشة بعيدة عن الرصانة، إلا أنها أدت الغرض منها، واستقبلها شهود الحفل بالتصفيق والتهليل.
وتبارى آخرون في إلقاء خطب المديح والتمنيات الطيبات للمولود الكريم، والتنبؤ له بأن يكون عمدة بعد مراد.
ولم يفت الأذكياء الماكرين من العمد وأعيان البلاد والتجار أن هذه الدعوة تخفي وراءها ما تخفي، وإن لم يستطع ذكاؤهم أن يصل واثقا إلى ما ينتويه العمدة، وإن كان بعضهم لم يستبعد أن يكون عاقدا العزم على ترشيح نفسه في الانتخابات. ومما جعل هذا الأمر معقولا إلى حد ما في ذهن من قام بذهنه أنه لم يدع عمر بك المفتي مع أنه تعود فيما قبل أن يكثر من دعوته.
وهمس خميس الملواني في أذن الحاج دهشان: نسيبك ناوي على ماذا؟ - لم يفاتحني في شيء. - بل فاتحك. - كيف؟ - لقد فاتح الجميع بهذه العزومة الطويلة العريضة التي لا أشك أنها ستتلوها عزائم أخرى. - بأي مناسبة؟ - ومن غير مناسبة وشرفك؟ - دع شرفي في حاله. - وشرفي أنا ولا تزعل. -
لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون . - صدق الله العظيم. لو أنني أعتقد أن هذا النبأ سيتأخر بعض الشيء؟ - ماذا تقصد؟ - ما تعلم. - أتظن ذلك يا خميس؟ - إن غدا لناظره لقريب. - ولكن غدا هذا بعيد بعض الشيء. - إنه يعمل له من بعيد. - آه. ربنا يوفقه. - ويوفقنا. - ماذا تنوي. - وقت الله يعين الله. - على رأيك.
صفحه نامشخص
8
ما أسرع السنوات وأبطأ الأيام والساعات!
استطاع دياب ومراد أن يجمعا الناس حولهما بشتى طرق ومختلف سبل لا يقصران في مجاملة أو مال أو تهنئة أو مواساة. ويكاد لا يمر بهما أسبوع أو أسبوعان دون أن يولما الولائم.
حتى إذ حل موعد الانتخابات كان الحاج دياب قد أخذ أهبته كاملة للترشيح.
وصدق فكري راشد وعده له بعد أن قدم دياب للحزب ضعفي ما كان يدفع كامل الزيني.
ورشح حزب الوفد الحاج دياب طلبة ليكون نائبه في هذه الدائرة، وكان للوفد في هذه الانتخابات كفة راجحة غاية الرجحان؛ لأن الشعب المصري لا يحب أن يبقى حزب أو حزبان فترة طويلة في الحكم أقصى فيها حزب الوفد عن الوزارة.
ويعلم الله أن الوفد قد كسب من ابتعاده عن الحكم أضعاف ما كسب خصومه من بقائهم في الحكم.
فالوفد لم يكمل دورة واحدة في حياته، فما أن يتولى الوزارة ويمضي به بعض الوقت، ويبدأ الشعب في كراهيته كما يكره المحكوم حاكمه الظالم حتى يقيله الملك، فتنقلب كراهية الشعب له إقبالا عليه وإعجابا به، لا حبا فيه وإنما كراهية لفكرة الإقالة ذاتها التي أصرت إنجلترا المحتلة أن توضع في الدستور اطمئنانا منهم أن أحدا من الملوك لن يجرؤ على معارضتهم إذا هم أرادوا أن يغيروا الوزارة ويأتوا برئيس جديد، كما أتوا بمصطفى النحاس في حادث 4 فبراير الشهير الجهير الحقير.
نجح الحاج دياب طلبة في الانتخابات وجلس تحت قبة البرلمان، ولا ينسى أحد كم كان فرحا سعيدا حتى لقد لبس وشاح النواب، وذهب إلى مقهى لونابارك في القاهرة منذ باكر الصباح قبل موعد الافتتاح ليعلم كل من يمر به أنه عضو بمجلس النواب.
كان عليه أن يختار بين العمودية والنيابة في ثلاثة أشهر. وطبعا هو لم ينفق هذا الإنفاق من ماله وجهده ليبقى آخر الأمر بالعمودية.
صفحه نامشخص
ومراد لم يبلغ السن القانونية. - ماذا تفعل في العمودية يا مراد؟ أنت بعد لم تبلغ السن. - وحتى إذا بلغتها إنما مسألة العمودية هذه لا أفكر فيها على الإطلاق. - هل جننت؟ - لا تغضب أنا لم أبلغ السن القانونية، وحين أبلغها يفرجها الذي لا تغفل له عين. - ليكن، هل فكرت فيمن يكون عمدة من دار طلبة؟ - هل سعادة النائب فكر؟ - ربما ولكني أحب أن أسمع منك. - ما رأيك في مدني طلبة. - مدني ابن الحاج إسماعيل. - شاب ذكي وفاهم وعلى قدر من التعليم المطلوب وبلغ السن. - ألا تخشى أن يكون كثيرون من كبار العائلة طامعين فيها؟ - هم يحبونه جميعا ولن يرضى أحد منهم أن يرد لك رأيا وأنت كبيرهم وزعيمهم، وشرفتهم بما لم يشرفهم به أحد من عائلتهم في حياة العائلة من جدهم الكبير إلى يومنا هذا. - ولكني لا أريد أن أغضبهم. - وهل جئنا بعمدة من خارج العائلة؟ - ولكني مع ذلك لا أحب أن أغضبهم. - أقول لك أنا سأمر على كبار العائلة وأعرض على كل منهم الأمر، على أن الشباب يجب أن يأخذ حظه وأن العمودية هم وإنفاق، ومسألة الإنفاق هذه مهمة جدا عندهم جميعا فليس في العائلة - والحمد لله - كريم إلا أنت، وسأقول إن دوار العمدة لا بد أن يظل مفتوحا ليلا ونهارا ليستقبل ضيوف البلدة وموظفي المديرية و... و ... اترك الشيوخ علي أنا. - اتفقنا، إذا قبلوا نتوكل على الله. - سيقبلون وبخاصة مدني يعتبر من أغنياء الأسرة، فقد ورث كما تعلم أباه وأمه التي كانت غنية هي الأخرى. - على بركة الله. •••
وصدق حدس مراد ووجد أغلب الكبار في العائلة زاهدين في العمودية. فقد كانوا تعودوا على نوع خاص من المعيشة يصعب عليهم أن يغيروه في سنهم المتقدمة هذه، ومن كان طامعا في العمودية أقنعه مراد بمنطقه هذا الذي قدمه بين يدي أبيه. •••
قصد مراد إلى بيت مدني وكان قد تحرى أن يكون ترشيحه له عند أبيه سرا مكتوما عنه، كما حرص ألا يذكر اسمه لواحد من شيوخ الأسرة الذين كلمهم، وإنما كان يطلق حديثه مع محدثه، وكأنه لا يجد في الأسرة صالحا للعمودية إلا هو، وينتظر أثر هذا منه ويميل معه في الحديث، وينفره من العمودية في لهجة الحريص على ماله وصحته وينبئه أنه إذا رفض العمودية: سنتعب كثيرا حتى نجد العمدة المناسب. ولكن وما له نتعب نحن وترتاح أنت.
وهكذا لم يظهر اسم مدني في الأفق على الإطلاق، ومن يتصور أن يتولى العمودية شاب أكمل السن منذ شهور ولا يتولاها الكبار المتصدرون لمجالس القرية واجتماعاتها.
قال مراد لمدني: كم تدفع لتصبح عمدة؟
وقفز مدني عن كرسيه: ماذا تقول؟ - ما سمعت. - وهل يعقل هذا؟ - كم تدفع؟ - كم تريد؟ - ألف جنيه. - ألف جنيه! - ألف جنيه. - ادفع. - هات. - الآن. - في بيتك أكثر من هذا. - من سيأخذها؟ - أنا. - أنت؟! حسبت أن الحاج دياب هو ... - الحاج دياب لا يعرف عن الألف جنيه شيئا. - يا أخي خف بعض الشيء، إنني سرك ونجيك وحبيبك. - ولهذا لم أقل ثلاثة آلاف. - لك حق. - هات. - الفلوس في الداخل، لحظات وتكون في يدك. •••
وأصبح مدني طلبة عمدة للميمونة.
9
كانت هذه الوزارة هي الأخيرة لحزب الوفد، وهي التي ألغى فيها النحاس باشا المعاهدة، وكان ساسة مصر جميعا يعلمون أن إلغاءها خراب مؤكد لمصر، ولكنهم مع ذلك لم يستطيعوا أن يعالنوا برأيهم هذا، فإلغاء المعاهدة في ظاهره عمل وطني لا بد أن تؤيده الأحزاب الأخرى، بل لقد أيده أيضا الساسة الكبار البعيدون عن الأحزاب، ولكنهم جميعا، وبلا استثناء، كانوا واثقين أنه سيؤدي بمصر إلى أوخم العواقب.
كانت مقاومة المصريين للإنجليز على أشدها، حتى لقد فجر الإنجليز فجورا لا مثيل له في تاريخهم بمصر إلا في حادثة دنشواي، وقد تمثل أبشع ما تمثل في حصارهم لمركز شرطة الإسماعيلية الأمر الذي اضطر وزير الداخلية فؤاد سراج الدين باشا أن يأمر بأن يقاوم المصريون الذين كانوا من الوطنية في أعلى معانيها، وأجلى صورها حين نفذوا الأمر وجادوا بأرواحهم في سبيل مصر.
صفحه نامشخص
كان نديم قد حصل على شهادة الليسانس، ورغب عن الوظيفة الحكومية التي كانت يسيرة بالنسبة له غاية اليسر، فعمل محاميا في مكتب واحد من كبار المحامين هو منير فراج، وكان من زملائه في المكتب عبد الوهاب فتحي وأمجد شرف الدين، وكان كلاهما يعمل في حركة المقاومة بكل جد وجهد. وكانا على صلة بالضباط الذين كانوا يطلقون على أنفسهم الضباط الأحرار، وكان أقرب هؤلاء الضباط إليهما سعيد سلطان وكان برتبة يوزباشي.
وقد انضم نديم بحماسة شديدة إلى زميله وتعرف باليوزباشي سعيد، الذي فرح به كابن واحد من الوزراء في الحزب الحاكم.
وكان المحامون الثلاثة بحكم صلتهم بالموكلين في المكتب يستطيعون أن يتعرفوا مواطن السلاح، وأخبرهم نديم أنه أيضا يعرف كيف يخفي هذا السلاح.
وفي يوم من الأيام التي تمر شأنها شأن سائر الأيام وجد مراد نفسه يستقبل نديم في بيته الخاص، وتعانق الصديقان في شرفة البيت، والدنيا لا تكاد تسع مراد من الفرح، وبادر نديم سائلا: أين سيارتك؟ - أحببت أن أجيء بالقطار. - لماذا؟ - ستعرف. - وهو كذلك. - أولا أريد أن أرى دياب الصغير. - والكبير أيضا وحياتك. - طبعا ولكن أريد أن نكون وحدنا قبل أن نذهب إلى حضرة النائب. - أمرك.
وحين خلا بهما المكان قال نديم وهو يحتسي القهوة: أنا أعمل في المقاومة.
وقفز مراد عن كرسيه قائلا: يا نهار أسود من الحبر الكوبيا.
وقال له نديم في هدوء ورباطة جأش: اقعد، اقعد، إذا كان هذا رد فعلك لأنني قلت لك إنني أعمل بالمقاومة، فماذا أنت صانع إذا أكملت ما جئت لك بشأنه؟
وقال مراد وهو يجلس شبه تائه: من أجل هذا جئت؟ - هذا خبر لا يحتاج إلى مجيء، لقد جئت لأنك ستعمل معي.
وهب مراد واقفا: أنا؟ وماذا أفعل في المقاومة؟ أخاف من خيالي. - اقعد يا أخي، وهل ستذهب إلى الثكنات الإنجليزية؟
والتقط مراد بعض أنفاسه وسأل وهو يلهث: إذن ماذا سأفعل؟ - اقعد. - قعدت. - الأسبوع القادم سآتي إليك ومعي واحد من الضباط الأحرار. - هل سمعت عنهم؟ - لا. - إنهم جماعة تكونت في حرب فلسطين، ويريدون أن يغيروا الأمور في مصر، وهم الآن مشغولون بمعاونة المقاومة والعمل مع الفدائيين، منهم من يذهب إلى الثكنات متخفيا، ومنهم من يعد لهم السلاح ويرسله إلى العاملين بالميدان. - وصاحبك هذا من أي الفريقين؟ - يعمل على الناحيتين. - وأنا ماذا سيكون عملي؟ - سنخفي عندك السلاح.
صفحه نامشخص
وصمت مراد، واحترم نديم صمته، إذا أخفيت السلاح أصبحت واحدا منهم، وحين يأتي الوقت يرشحني الوفد وأصبح من الأبطال ولو حدث - ولو أن هذا بعيد - واستطاع هؤلاء الضباط أن يغيروا الأوضاع فسيكون لهم شأن أي شأن، ولا شك أن صاحب نديم هذا سيصبح في المقدمة، ومسألة إخفاء السلاح ليست صعبة علي. فأنا هنا أعرف مخابئ كثيرة، بل إن بيتي نفسه لن يفكر فيه أحد، ما المانع؟ ما المانع؟ كله فائدة، لا خطر هناك، وأنا سأظهر بمظهر الأبطال. - نديم؟ - نعم. - أنا نفسي ملكك فما بال بيتي؟ أنا تحت أمرك.
وقام نديم، فقام مراد، وتعانق الصديقان. - متى تجيء أنت وصاحبك؟ - سنطب عليك. - أهلا في كل وقت ما اسم صاحبك؟ - ستعرف حين يجيء. - أسرار. - ربما. - أمرك. •••
لم تمض أيام حتى كان نديم وسعيد عند مراد. ولاحظ مراد أن سعيد ارتاح له، كما اطمأن هو إليه، وبعد أن تبادلا حديثا عاما فاجأ سعيد مراد: أين ستخبئ السلاح؟
ولم يفاجأ مراد بالسؤال، وإن كان فوجئ من توقيت إلقائه، فقد جاء على غير انتظار بعيدا كل البعد عما كانوا يأخذون فيه من حديث، ألجمته المفاجأة لحظة ثم قال: هنا في بيتي. - فقط. - وفي أماكن أخرى كثيرة. - معناها أن يعرف أصحاب هذه الأماكن ما نحاول أن تخفيه. - اطمئن هذه مسئوليتي. - لا هذه مسئوليتي أنا. - ما رأيك في بيت العمدة ودواره؟ - وسيعلم. - إنه كشخصي وكل ما أرجوك فيه أن تطمئن تماما وتثق في ثقة تامة. - لو لم أكن وثقت فيك من النظرة الأولى لما فتحت الموضوع أمامك. - أكثر الله من أمثالك يا سعيد بك. - بك هذه بعيدة عن قاموسنا كل البعد، سعيد سلطان، وتقول لي سعيد كما أنني لن أقول لك إلا يا مراد دون بك ولا يحزنون. - ويا ولد يا مراد إذا أحببت.
وضحك ثلاثتهم، وقال سعيد لمراد: ستكون بيننا رحلة طويلة يا ولد يا مراد. - أحس بهذا. - واضح أنك رجل يعتمد عليك.
وقال نديم: وهل كنت عرفتك به إذا لم يكن كذلك؟
وقال سعيد: أهدافك مرسومة في ذهنك، وستصل إليها.
وقال مراد: المهم أن أعرف الطريق إليها.
وقال سعيد: ربما تكون قد وضعت رجلك عليه.
وقال مراد: البركة فيك أنت ونديم.
صفحه نامشخص
وقال سعيد: توكل على الله.
وقال نديم: أنا أعرفه كما أعرف نفسي هو مستعد أن يتوكل على الله أو على الشيطان. فقط المهم أن يصل.
وصاح مراد مذعورا، وكأنه يرى نديم يقرأ خبيء نفسه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، حرام عليك يا شيخ.
وقال نديم: ولا يهمك، فلنتوكل على الله.
وقال مراد: هكذا يكون الكلام، توكلنا على الله.
وقال سعيد: توكلنا على الله.
10
تلاحقت الأحداث بصورة لم تشهد مصر لها مثيلا، وحدث حريق القاهرة الذي لم يستطع أحد أن يحدد الفاعل الأصلي فيه.
واستقالت وزارة النحاس باشا وتدهور الحكم في مصر تدهورا فظيعا، ورفض حزب الأحرار الدستوريين والهيئة السعدية تأليف الوزارة، وكانت حجتهم قوية، فقد كتب رجال الحزبين بالاشتراك مع كبار الساسة من المستقلين عريضة اشتهرت بعريضة الثلاثين؛ لأن الموقعين عليها كانوا ثلاثين عملاقا من عمالقة مصر. نددوا في العريضة بتصرفات الملك الشخصية والعامة تنديدا لم يكن له سابقة في تاريخ مصر، وطالبوه أن يقوم من تصرفاته الشخصية، ويبعد عن حاشيته ذا السمعة الساقطة، وحذروه إنه إذا لم يفعل فإن المستقبل لمصر وللجميع مظلم ومخيف.
وذعر الملك من العريضة، ولكنه كان يسعى إلى حتفه بظلفه، وظل على ما هو عليه من فساد وضلال وهوى لم يغير من نفسه شيئا، كما لم يغير من زبانيته أحدا، فكان طبيعيا أن يحدث ما توقعه زعماء مصر ورجالاتها.
صفحه نامشخص