ولكن قلب الملك ذي الليلة في عالم لا يعرف النور والسرور، ولا محل فيه لبابل ولقيان بابل ولجنائن وعرصات بابل، لا محل فيه للقمر ولا مكان فيه لزهرة من الياسمين.
هاكه في شرفته يحترق من غيظه كأنه يقول متسائلا: «متى ينتهي العالم الذي وجدت فيه مكدرا؟»
وقف يتأمل قباب الهياكل القائمة على أكتاف الثيران، ثم الخنادق والخلجان التي يبدو ماؤها كالفضة في ضوء القمر. وما الفائدة وما الخير في عمل لا ينسيه ما هو فيه؟ خيال يمر أمام عينيه فيود لو كانت حقيقته بين يديه، وما رآها غير مرة فجاشت وما زالت تجيش في صدره الشهوات.
جدف نبوخذنصر وأقسم بأرباب آشور كلها. - أتموت هذه الفتاة هربا من شرف يغشيها؟ أيقتلها حبيبها لأني اشتهيتها؟ ونمرود العظيم!
طرق إذ ذاك أذنه وقع أقدام قريبة. ومن يتجاسر أن يقرب من الملك في هذه الساعة غير رئيس الوزراء؟
هو الوزير الأكبر جاء يكلم مولاه في أمر عرفت أهميته من اهتمام الملك له، ولكن بعد أن تكلم الوزير ازداد نبوخذنصر غضبا فقطب حاجبيه، ولمع البرق في ناظريه، وصرخ قائلا: أيحتقرني هذا العبد الخسيس؟ أيتجاسر أن يغار على الفتاة التي أحبها قلبي؟ ألا تعلم، أيها الوزير، بأن هذا الشقي أراد أن يفهمني بأن استحساني جمال زبيبة هو عار عليها؟ فكيف إذن تطلب مني أن آمر بقتله؟ أف عليك يا تفلاط. في الأمس ارتجفت يد أحد الخصيان وهو يضع على رأسي التاج، فلو أمرت بقتله لكان في ذلك شيء من العدل، أما هذا الانتقام الذي ينتهي سريعا بالموت فأي عدل فيه؟ أتريد أن أريح العبد من حياته المؤلمة؟ إنك يا تفلاط لشفوق رحيم!
كان تفلاط عالما بأن بالادان في السجن ينتظر الموت، وكان عالما بما لغضب نبوخذنصر من مثل هذه العواقب، فعجب أن الشاب الفلاح لا يزال حيا، ولكنه بعد أن سمع كلام الملك أدرك السبب؛ فزال العجب. - أنت يا تفلاط داهية في السياسة، ولكنك راسخ أيضا في علمي العقاقير والسموم، فهات إذن طريقة جديدة ننتقم بها من هذا الشقي. - طريقة جديدة؟ - نعم يا تفلاط، أنت تعرف أنواع سموم الهند والحبشة ومادى وغيرها من البلدان، وأنا أريدها لغرض الآن، فإن موت هذا الشاب موتا بسيطا لا يعجبني، لا يعجبني قطعا، هو لا يخشى الموت؛ فقد كان شجاعا جسورا في قتل معشوقته، وهو يظهر الآن شجاعة تذكر في احتماله لوعة الفراق الأبدي، فماذا يهمه بعد ذلك الموت؟ لا أسألك أن تعذبه عذابا جسديا، فهو ولا شك يحتمل أشد العذابات، ناهيك بأن العذاب الجسدي لا يقضي به إلا على المجرم الأثيم، وبالادان هذا هو أكبر من الأثيم المجرم ؛ فقد جدف على آلهة آشور في تمرده على مولاه ومليكه، إذن يجب أن يكون بين الذنب والقصاص نسبة في الهول والفظاعة.
فخضع الوزير قائلا: أمرك يا مولاي، سأباشر العمل إن شاءت الآلهة.
وفي اليوم التالي حل بالادان من قيوده، وجيء به إلى مجلس الملك، فدهش الشاب لوجوده في حضرة نبوخذنصر ملك بابل وآشور؛ لوجوده حرا. كيف لا وقد جاء ليسمع الحكم بالموت، فسمع بدله الأمر بالحياة، سمع نبوخذنصر يخاطبه قائلا: أنت حر يا بالادان.
فبأي دهشة تلقى بالادان هاتين الكلمتين؟! إنه ليصعب علينا الحكم فيما إذا كان حزنه على معشوقته أعظم من دهشته هذه، وفيما إذا كان الذنب الذي اقترفه أعظم من حزنه!
صفحه نامشخص